«فقد خطونا في هاتين التجربتين الخطوة الجنينية الأولى نحو شكل جديد تمامًا من التعبير الفيلمي، نحو فيلم ذهني خالٍ مُتحرر من التقييدات التقليدية»(1)
تمهيد:
بدايةً، النزعة العقلية ليست فقط في السينما، إنما هي في كل أنواع الفنون، وكذلك في الفلسفات والعلم، ودعوة كهذه توجب علينا أن نضع تعريفًا لماهية النزعة العقلية، وهذا التعريف هو: كل رؤية تعتقد بوجود قوانين قَبلية أو سابقة على المعطى المادي. وبلغة فلسفية لا أراها دقيقة، إلا أنها توصل المعنى. النزعة العقلية هي نزعة قَبلية لا بَعدية، وعليه ماذا نعني بما هو بَعدي؟ الإجابة عن هذا السؤال تقودنا إلى فهم عميق للنزعة العقلية في السينما والتي وجدت تجسيدها في سينما آيزنشتاين.
في دلالة البَعدي ضِدًّا للقَبلي
إنّ ما هو بَعدي -وخصوصًا منذ كانط- أخذ صبغة عنيفة في تعارضه مع ما هو قبلي، والبعدي ببساطة هو كل شيء مادي أو تجريبي، أي ما نأخذه من العالم الخارجي والمحسوس، وهنا علينا أن نميز أمرين في غاية الأهمية عند الحديث عن القبلي، وأعني بين المعطى وقانون هذا المعطى، فالبعدي هو معطى مادي وغالبًا وفق تاريخ الفلسفة لا يليق به أن يكون له قانون ما كالقوانين المنطقية الصورية أو القوانين الجدلية كما لدى هيغل وماركس، لذلك لا يجوز أن يصير هناك قانون بالمعنى القوي لهذه الكلمة إلا قبليًا، لأن ما هو قبلي تتحقق فيه مقولتا الضرورة والكلية. من هنا يتضح أمران، وهما أن القبلي معطى غير مادي، وأن له قانون كلي وضروري يحكمه، مما يعني أن ما هو بعدي يُعَدّ معطى ماديًا أولًا، وثانيًا، ليس له قانون يحكمه ودائمًا تؤخذ كلمة قانون بالمعنى الفلسفي للّفظ.
لذلك نسأل: إذا كان لفظ القانون لا ينطبق فلسفيًا إلا على ما هو قبلي، فهل من الممكن أن يكون للبعدي قانونٌ ما؟ وهل نُطلِق لفظًا آخر على قوانين ما هو بعدي بحيث نقول مثلًا قواعد بدل القانون الذي يشير إلى ما هو قبلي؟ ليست غاية هذه المقالة تعيين ما هو بعدي من حيث هو معطى ومن حيث هو قانون أو مجموعة من القواعد، بل غايتنا أن نفهم ماذا تعني النزعة العقلية والتي مهّدنا لها كل ذلك، فهي تعني، كما يقول كانط: «نستطيع أن نسمي كل فلسفة تقوم على أسس من التجربة فلسفةً مادية، وكل فلسفة تأخذ نظرياتها عن مبادئ قبلية فلسفة خالصة»(2)، إلا أن النزعة العقلية عند ماركس وعند آيزنشتاين تدّعي أن ما هو بعدي لهُ قوانين كالتي نجدها فيما هو قبلي، وعليه هي تُقر بالمعطى المادي، إلا أنها تُسقط عليه ما هو قبلي أي قانون الجدل، وهذا ما سنجده مطبّقًا على السينما مع سيرجي آيزنشتاين.
آيزنشتاين والعقلانية المادية
إنه من الصعب أن نحكم بأن العالم قانون منطقي كالذي نجده في قوانين الجدل، أي الأطروحة ثم النقيضة ثم التوليف بينهم، وكنا رأينا أن البعدي لا يُحكم عليه بما هو للقبلي، مع ذلك لا أسلّم بأنه ليس من الجائز النظر للبعدي من خلال قوانين المنطق، بل من الممكن فعل ذلك بشرط تحقُّق أمرين:
- ألّا يُختزل العالم في إطار منطقي دون اعتبار للتاريخ مثلًا أو وضع التاريخ في سجن المنطق.
- أن نُقر بأن الطبيعة والحياة أكبر من أن تكون بِضعة قوانين يدركها الإنسان ويعمّمها على الكون بأسره.
النقطة الثانية تهمني أكثر من الأولى، لِما في الأولى من نزعة عقلية مُتحجبة. أعني القول القطعي بأنه لا يجوز أن يكون فيما هو بعدي ضرورة وكلية، وهو أمر نراه جائزًا لكن لا نُقر به.
على كلٍّ، نجد تحقق النزعة العقلية في السينما في المونتاج تحديدًا، وإن كان المونتاج لا يكون ممكنًا من دون مجموعة اللقطات، وهذا ما يجعل من المونتاج يقترب من الإبستمولوجيا الكانطية، إلا أن الحديث حول هذا أؤجله إلى المقالة القادمة «الصورة الخام وما بعد الأنطولوجيا». أقول نجد هذه النزعة العقلية لدى آيزنشتاين «شكل التوليف إنما هو هيكليًا إعادة تكوين لقوانين سيرورة الفكر»(3). تدّعي النزعة العقلية وجودًا مطلقًا لقوانين تحكم «العقل». لذلك، كل ما تقوم به هو تجسيد هذه القوانين في العالم الواقعي، ومن خلال المونتاج، أي في التوليف بين الصور، إلا أن الأطروحة المضادة والتي أدافع عنها كالتالي: ليس للعقل قوانين مطلقة، وإنما هناك دماغ تحكمه قوانين التكيف والفيزياء، أي ما أسميه البيوفيزياء، وعليه، ليس المونتاج مُلزَمًا بأن يستند إلى واقعٍ مطلق ويستمد منه، بل الأحرى أن يتجاوز المونتاج سجنَ المنطق نحو أبعاد أعمق للحياة والإنسان، وهذا ما يجعلني أربط بين المونتاج وتفكيكية دريدا بحيث إن هذه الفلسفة تقوم على تقويض الدلالة المتعالية أو المركز، وذلك من خلال عدة استراتيجيات. المهم هنا هو أن نستخدم مثلًا المنطق ضد المنطق، واللغة ضد اللغة، والميتافيزيقا ضد الميتافيزيقا وهكذا.
إذن ليس الأمر حكرًا على المونتاج العقلي أو الذهني، بل كل نزعة تزعم أن هناك واقعًا يجب محاكاته حتى نصل إلى دهاليز عقل المتفرج. إن المنطق -أيًا كان هذا المنطق- يُضمر دعوى ثقيلة وهي أنه قانونٌ مطلَق للعالم سواءً كان قبليًا أم كان بعديًا، وعليه ليس للمونتاج أن يذعن لقوانين ما، بل عليه أن يفعل كما فعل دريدا في الفلسفة، وكما فعل أرتو في المسرح، أي مسرح القسوة، وأعني تجاوزه لمنطق مركزية الكلمة نحو الإيحاء والصوت والرقص والشعائرية، أي لغة الجسد بدل الكلمة المنطوقة التي تسيطر على المسرح كما تسيطر على بعض أشكال السينما، لأن في السينما هناك مَن حاول تجاوز منطق اللغة ومركزيتها، والأمثلة كثيرة، بدءًا من السينما الصامتة مع شابلن وكيتن والتعبيرية الألمانية، وصولًا إلى تاركوفسكي وبداية كوكتو إلى تيرانس ماليك، وهذا الأخير يعتمد في أفلامه على الصورة المتسعة التي توحي بعجز المنطق واللغة عن الإحاطة بعظمة الحياة والطبيعة، وفي فيلمه «عالم جديد» نجده يجسد علاقة حب تقوم على لغة الجسد وعلى الرقص بعيدًا عن الكلمات.
إن أكثر ما يهمني ليس القول بأن الحياة أكبر من كل منطق أو أكبر من أن تستوعبها اللغة، فهذه الأطروحة تسقط في زعم أن هناك شيئًا مطلقًا وخفيًا يقبع خلف أسوار اللغة والمنطق، بل الذي يهمني بشدة هو عدم تقييد الواقع أو سجنه، وترسيخ نزعة استكشافية ضدًا للنزعة العقلية التي تُغلق البحث، وخير من يمثل هذه النزعة الاستكشافية في السينما هو غودار، حيث نرى التلاعب بالمونتاج واللقطات، وكسر الجدار الرابع، والتقطيع، وغير ذلك في تمرحلاته التاريخية، وعليه، فالنزعة العقلية مع آيزنشتاين لا شك في أنها ثورة فنية في مجال السينما، إلا أنه من الخطأ أن نخون المنطق العميق لهذه الثورة ونقوم بإسكاتها مرةً واحدة وإلى الأبد، بل علينا مواصلة التجريب من داخل السينما، فهذا الفن لهُ قدرة رائعة على كشف الحقيقة وتجليها، أي الحقيقة المحايثة لا المتعالية، وله قدرة على عرض كل أشكال الواقع، فما ندعو له ليس واقعية يحتمي بها بازان ضد المسرح، بل واقعية متعددة تجعل من التجريب مبدأً لها بلا كلل أو ملل، فالإنسان الباحث يعرف كيف يُقبل الزهرة ولا يقطفها.