من هو الناقد السينمائي؟

«وأن نقول إن التاريخ انتهى هو أن نقول إنه لم تعد هنالك حدودٌ للتاريخ تسقط خارجها أعمال فنية، كل شيء ممكن، أي شيءٍ يمكنه أن يكون فنًا» آرثر دانتو
June 28, 2024

«وأن نقول إن التاريخ انتهى هو أن نقول إنه لم تعد هنالك حدودٌ للتاريخ تسقط خارجها أعمال فنية، كل شيء ممكن، أي شيءٍ يمكنه أن يكون فنًا» آرثر دانتو

كثير ما يقال ويتردد بشيء من الزهو بأن الغرب الذي أنتج الحداثة هو ذاته الذي أعلن ضرورة النقد الذاتي المستمر. يشار إلى بدايات الحداثة حتى يومنا هذا بوصفها العصر النقدي بامتياز، وهذا صحيح، إلا أننا لم نسأل يومًا بشكل جذري: ماذا يعني النقد؟ وهل النقد فعلًا كما يروَّج له يشير إلى تلك الأنفس النبيلة؟ أليس النقد وُجد في كل حضارة وفي كل سياقات التطور البشري؟ هذا السؤال الأخير يشير فعلًا إلى أن النقد كان ولا يزال عند كل الشعوب والحضارات، حتى عند الحيوانات وغيرها مما لا نعرفه بعد، وهنا نطرح سؤالًا آخر: هل من الممكن أن يكون النقد في سياقه الغربي مختلفًا تمامًا عن بقية السياقات؟ طبعًا ليس من السهل أن نجيب بدقة عن هذا السؤال لأنه يتطلب تقصيًا تجريبيًا عن كل الحضارات والشعوب وغير ذلك، مع ذلك نستطيع أن نفترض من الناحية الصورية أو الشكلية بأن النقد عند الغرب كان مختلفًا عن بقية الحضارات بمعنى بسيط وهو أنه نقد فتح الباب على مصراعيه أمام كل شيء بمعنى أنه لم يعد ثمة شيء غير قابل للنقد.

على الضد من ذلك نجد كثيرًا من الحضارات كان النقد لديها يقتصر على علوم جزئية وفرعية ولا تمس عمق الخطابات داخل هذه السياقات، وهنا نصل إلى أن هناك ضربين -تاريخيًا- من النقد، وهما النقد الجذري والنقد الثانوي، مما يقودنا إلى أحد أسئلة هذه المقالة: هل النقد في سياقه الغربي جذريًا كما يدّعي؟

الإجابة عن هذا السؤال سوف تخل بالقسمة البسيطة السابقة لأننا سنرى أن النقد منذ القرن السادس عشر على الأقل إلى منتصف القرن العشرين لم يكن جذريًا بالمعنى القوي للكلمة، لأنه ببساطة كان هناك دائمًا ما يقف خلف كل نقد كشبح مطلق لا يجوز المساس به، فمثلًا كانط نَقَد العقل، ومع ذلك لم يتصور أن العقل ذاته ليس سيدًا مطلقًا، بل هو كذلك ولا يجوز تجاوزه، وقس على ذلك عدة خطابات مثل الطبيعة عند سبينوزا، المونادات عند لابينتز، الأنا عند ديكارت، الروح المطلقة عند هيغل، والوعي عند هوسرل وغير ذلك كثير، وهذا يعني بشكل مباشر أن النقد ذاته هو آلية تتطلب هذه الجدلية المطلقة، بمعنى آخر النقد لا يكون ممكنًا إلا بما يعضده أو يستند إليه، كما لو أنك لا تستطيع الوقوف إلا بأن تضع يدك على الجدار، لذلك كل فيلسوف يبني جداره الخاص مما يعني أن دلالة النقد ذاتها صارت منتجة لأصنام، وهذا الأمر أدركه فلاسفة مثل أدورنو ونيتشه وفرويد وفيما صار يُسمى ما بعد الحداثة.

إذن نحن على علم بعد كل هذا السرد السريع بأن النقد لا يكون ممكنًا دون خلفية إبستمولوجية يعتمدها الناقد، والذي يعني أن كل ناقد ملزم بأن يستنبط قواعده، أو يتقصاها من خلال الاستقراء، ومن خلالها يقوم بعملية النقد والتي تعني تثمين الشيء أو تقييمه، والنقد قد يكون سلبًا أو إيجابًا أو وصفًا أو انطباعًا ذاتيًا وغير ذلك، وعليه أليس من المشروع، بل من الواجب، أن نسأل: من هو الناقد في القرن الواحد والعشرين؟ وأكثر تحديدًا من هو الناقد الفني؟ ومن هو الناقد السينمائي؟ كيف من الممكن أن نوفّق بين ضياع وأفول القيم المطلقة وبين لزوم النقد؟ أليس عصر موت السرديات الكبرى وصراع التأويلات يطرح مسألة جادة وهي: كيف نفصل بين كل هذه الحقائق؟ هل نقد الشكلاني لفيلم ما مُلزم أم نقد المحلل النفسي؟ أم علينا الأخذ بالنقد الماركسي ونذهب في تقصي صراع الطبقات وكل خطاب أيديولوجي؟ ألسنا في عصر مات فيه الفن والفلسفة والمؤلف والإنسان والإله والكتاب والمسرح وحتى الفيلم؟ ألا يعني هذا موت الناقد بدوره؟ هل الوظيفة الوحيدة التي نستطيع أن نوكلها للناقد هي أن يصير مؤرخًا؟ أو أن نعيد سرد الحبكة كما لو أن المُشاهد بلا حواس؟ من هو الناقد السينمائي؟

أشكال النقد الممكنة:

لنقسم النقد عمومًا إلى ضربين:

  • النقد المتعالي
  • النقد المحايث

إن النقد المتعالي يعني ببساطة وجود مجموعة من القواعد الأبدية ومن خلالها نقوم بتثمين أو تقييم هذا العمل الفني، ومعلوم أنه في المسرح مثلًا وكذلك في السينما كان لأرسطو أثر كبير على تقعيد رؤية متعالية يحتكم إليها المسرح حتى ظهرت فيما بعد نقودات بريخت وأنطونين أرتو فيما يسمى مسرح القسوة. إن النقد قد يكون كلاسيكيًا وهو المتعالي، وقد يكون طليعيًا وهو المحايث، كل نقد ينطلق من قواعد ثابتة وعلى العمل الفني أن يلتزم بها يُعد نقدًا غير صالح أو من الممكن الدفاع عنه، وذلك من نواحٍ عدة إبستمولوجية وسيكولوجية وأنطولوجية وتاريخية إلخ.

خذ مثلًا من الناحية اللغوية، فمنذ فيتغنشتاين الثاني صرنا لا نتحدث عن لغة يومية بل لغة مثالية، الكلمة بوصفها استعمالًا وأداةً وليس بوصفها وجودًا مثاليًا يقبع خلف الزمكان، النتيجة التي نظفر بها من فلسفة اللغة اليومية هي أن اللغة كائن طبيعي كغيرها من الأشياء تتغير مع الزمان ولا تبقى على حالٍ واحدة، لذلك لا معنى من الحديث عن لغة فصحى ولغة عامية، لأن لغة قرننا هذا اليومية ستصبح فيما بعد اللغة الفصحى ضد عامية ذاك العصر، وهكذا يسقط النحو بوصفه قواعد ثابتة والذي يعني ليس من الممكن محاكمة لسان الآخرين لأن القواعد اعتباطية وضعية، جمعها زمرة من البشر مثلنا، وعليه من أين لهؤلاء الحق السماوي في محاكمة الآخرين؟

إن ما يقال عن اللغة هنا يقال على مفهوم القاعدة بالمجمل، بحيث لا يمكن تصور قواعد أزلية، وليست الفلسفة الحديثة هي من تنتقد هذا الأمر بل حتى التاريخ يُثبت لنا بما لا يدع مجالًا للشك صراع الأعمال الفنية بين ما هو قديم وبين ما هو جديد، كالمسرح الأرسطي ومسرح شكسبير، كالسينما الكلاسيكية والموجة الجديدة، ومثل الانطباعية والسوريالية، وقس على ذلك مما يعرضه لنا تاريخ الفن فضلًا عن تاريخ العلم ذاته الذي يُبين هو الآخر أنه لا حقيقة متعالية، فهل هو ما تصوره أرسطو وبطليموس؟ أم أنه بلا مركزية للأرض كما أخبرنا كوبرنيكوس؟ لا، هو ليس هذا ولا ذاك، بل الكوسموس خرج دفعةً واحدة من معطف نيوتن؟ هل هذا صحيح؟ ماذا عن النسبية العامة والخاصة مع آينشتاين؟ ثم ماذا عن فيزياء الكم؟ ونظرية الأوتار؟ وهكذا لا العلم ولا الفن يقدمان لنا حقائق مطلقة، فلو أراد الناقد أن يستلف معيارًا له في العملية النقدية من خلال محاكاة الواقع لكان السؤال: أي واقع تتحدث عنه؟ ولو قرر الناقد أن يتعامل على الأخلاق في نقده لسألنا: وهل الأخلاق لها حقيقة مطلقة؟ الأخلاق من بعد نيتشه وجينالوجيا الأخلاق صار محل شك والتباس، ولو فرضنا أنها مطلقة كما تصور كانط فهل العمل الفني مُلزم بها؟ وهل يصير العمل الفني عملًا فنيًا إذا صارت وظيفته إعادة إنتاج الأخلاق والوقوع في الوعظ؟

بالمختصر كل تصور للنقد ينطلق من قواعد ما يُثبت فشله الزمان والتاريخ، قد تكون القواعد أنطولوجية كالاستناد إلى ماهية الواقع، وقد تكون أخلاقية، وقد تكون جمالية كما فعلت الكلاسيكية الجديدة منذ القرن السادس عشر تعتمد على سلطة أرسطو وهوراس، وأيًا يكن فكل نقد متعالٍ محكوم عليه بالفشل، ودائمًا أسهل طرائق النقد تكون من خلال الأخلاق، لأنها في متناول الجميع، والكل يعرف الحق والباطل! ولكن ماذا عن النقد المحايث؟ قبل أن نلج هذا الضرب من النقد سأعرض بعض المحطات التي ساهمت في ولادته وظهوره.

موت الفن ومفهوم الأنا الساخرة. تُعد أطروحة «موت الفن» واحدة من أشهر الأطروحات في المباحث الجمالية، والتي ذكرها هيغل في دروسه الشهيرة حول الاستطيقا، فقد وردت من خلال تعبيرات تبشيرية إذ «لم يعد النمط الخاص بالإنتاج الفني وآثاره يُشبع حاجتنا العليا بإطلاق» وبالتالي «فإنه من الثابت في هذه الحالة أن الفن لم يعد يحقق ذلك الإشباع للحاجات الروحية الذي كانت الأزمنة والشعوب القديمة تبحث عنه في الفن ولا تجده إلا فيه إشباعًا كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالفن على الأقل من الجانب الديني» ثم يعطي النتيجة «لهذا ليس حاضرنا من حيث وضعه العام مواتيًا للفن». من خلال هذه النتيجة نفهم القصد الذي يريده هيغل من موت الفن، لذلك نسأل: هل الفن مات؟ أو حتى نبلغ ما أراده هيغل: أي فنٍ صار لا يلبّي حاجات الروح العليا؟ ما يعنيه هيغل من موت الفن هو موت وظيفته الدينية أو اللاهوتية، فالحضارات كانت من خلال الفن ترسم وتنحت آلهتها، ولكن «حاضرنا» العقلاني وما بعد التنوير في زمن هيغل لم يعد يستوعب وظيفة الفن الدينية، وخصوصًا أن عصر هيغل يُعدّ عصر ولادة الحركة الرومانسية التي نزعت نحو الباطن ضد كل ما هو خارجي، نحو الذاتي ضد كل ما هو موضوعي.

إن الفن الذي يُمثَّل فيه الآلهة ويُعبدون من خلاله لم يعد صالحًا في زمن الحداثة، أو الأزمنة الحديثة كما يسميها هيغل، وعليه نسأل مجددًا: ما الفن الذي تقع عليه مهمة التقدم رغم أُفول ديانة الفن؟ ما هو الضرب الممكن من الفن الذي صار مناسبًا للأزمنة الحديثة؟ هيغل لن يطرح هذا الخيار، بل يدعو إلى مجاوزة الفن نحو الدين والفلسفة، لذلك نجد عند خصمه غير تعبير عن فن الأزمنة الحديثة وأعني شوبنهاور.

إن الميتافيزيقا التي ينطلق منها هيغل تقوم على مفهوم مثالي أي الروح المطلق، ومن ثم كل ما في الكون عليه أن يسير وفق حركة الروح ويحاكيه، وهذه الروح هي بمثابة الإله فهو يقر بأن الفلسفة ثيولوجية عقلية، لذلك كان لزامًا على الفن أن يموت بين يدَي هيغل لأنه لن يصير الفن في الأزمنة الحديثة نحو تجسيد الآلهة وعبادتها، بينما نجد البنية الميتافيزيقية عند شوبنهاور تختلف جذريًا، فأصل العالم ليس روحًا مثاليًا بل إرادة كلية، وهذه الإرادة تشبه البعد البيولوجي الذي يحكم كل شيء، فالكائن البشري والحيوان والنباتات تحركهم إرادة البقاء والعيش، وعليه نجدهم ينزعون نحو الأكل والشرب والجنس بلا هوادة. ماذا يعني هذا بالنسبة إلى الفن؟ يعني أن الفن الذي مات أعاد بعث فنٍّ آخر يحاكي ما هو أرضي وما هو بيولوجي، يهتم بالرغبة وما هو إنساني، صحيح أن شوبنهاور سوف يبحث في التعالي عن هذه الرغبة، لكن ما يهمنا هو تقريره لها بوصفها أصلًا للعالم. إن هذه الرؤية تفسر المناخ الثقافي للقرن التاسع عشر حيث نشهد ولادة أغلب الثورات الفنية؛ في التشكيل نجد الانطباعية والتعبيرية والدادائية والسوريالية وكل هذه لا تكترث بالوظيفة اللاهوتية للفن كما هو فن العصور الوسطى، بل يهمها تصوير معاناة وفرح الإنسان ذاته على الأرض، ولا شك أنه ليس من الدقة أن نقول شوبنهاور هو من ساهم في ذلك، بل هو تاريخ طويل من حركات النزعة الإنسانوية التي ظهرت منذ القرن السادس عشر أو عصر النهضة، بحيث صار الإنسان هو الشاغل الأكبر.

ومن هنا صار الفن يرتبط أشد الارتباط بقيمة الفردانية، فلا يُعبّر الفنان عن إرادة الكنيسة ولا الدولة، بل يعبر عن ذاته وعن ما يشغله. نجد ذلك في الأدب مثلًا مع بروست حيث دبج كل تلك المجلدات للحديث عن ذاته، لكن ما يهم كل هذا فيما نسميه النقد المحايث؟ في الحقيقة إن إعلان هيغل فَتَح بابًا نحو كل ما هو محايث، فصار البحث ينصبّ على قيم أخرى غير الوظيفة الدينية التي ارتبطت بالفن طويلًا، ما سجله لنا هيغل هو ربكة الفنان والناقد في ذات الوقت، فكيف بعد انزلاق وظيفة الفن الثيولوجية نحو وظائف أخرى أن يتم تقييمه؟ لذلك تجد أن النقد الفني لم يلد قويًا ومتعددًا إلا منذ القرن التاسع عشر، فنشأ النقد الماركسي والفرويدي والانطباعي في حين أنه في السابق كانت السيادة الكلاسيكية الجديدة التي نصبت أرسطو وهوراس عرش النقد الأبدي.

السخرية الإلهية. هيغل ذكر هذا المفهوم في دروسه، ولكن قبل أن نعرضه من المهم الرجوع إلى أصوله حيث بدأ، أي تلك الشروط التي جعلت من الأنا تملك سيادة مطلقة على ملكة الحكم وهذه هي السخرية الإلهية بتعبير هيغل. إن الفلسفة الحديثة عادةً ما تؤرخ مع ديكارت الذي قال بالكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود) ولكن ما جعل مقولة ديكارت ممكنة هي الثورات العلمية التي سبقته وعاصرها. على كلٍ، الأنا الديكارتي واجه معضلة كبرى وهي العلاقة بين الروح والجسد، فإذا كان من الثابت أن ماهيته الإنسان بوصفه مفكرًا مُثبَتة، فماذا عن الامتداد أي الجسد؟ كل حلول ديكارت لهذه المعضلة لم تكن ممكنة، وهو ما قاد سبينوزا إلى القول بجوهر واحد وليس جوهرين كما قال ديكارت، وقاد لابينتز لاختزال العالم في بعد روحي أي الموناداة الروحية. على كلٍ، هذه الأنا التي تفكر وهي على يقين تام من وجودها وصلت إلى نتيجة حتمية مع فيخته في المثالية الألمانية: الأنا تستطيع أن تُثبت ما تشاء وتنفي ما تشاء. لذلك يسميها هيغل إلهية، فكل شيء تستطيع نفيه كما أنها هي مَن وضعته، وهذا يعني أن النقد سيتحول إلى عملية سخرية: «تلك هي الدلالة العامة للسخرية الإلهية العبقرية بوصفها الأنا المركّز والمتكتل في ذاته الذي تكون في نظره كل القيود قد تحطمت ولا يمكنه أن يحيا إلا في غبطة التمتع بالذات». إن كل ما عرضناه حتى الآن يريد أن يقول شيئًا واحدًا: بعد كل هذه الثورات الفكرية في مجالات عدة، ماذا بقي للنقد؟ أو كيف يكون النقد ممكنًا؟

ضربان من النقد ممكنان. بعد كل هذه الرحلة يبقى أن أُثبت أن النقد المحايث من حيث المبدأ هو الوحيد الممكن، فكل نقد متعالٍ يسقط في حركة التاريخ حتى يتحطم، والنقد المحايث له أشكال عدة، فالسؤال المبدئي: أي الأشكال هو الأحق من غيرها؟ سؤالٌ كهذا يعني ما معيار الفصل بين كل هذه النزاعات؟ أو صراع التأويلات بتسمية ريكور؟ إن المعيار بلا شك ليس متعاليًا، فلا هو واقع مطلق ولا أخلاق أبدية ولا قيم جمالية ثابتة، إذن يصير المعيار محايثًا، وما يترتب عن ذلك أن كل معيار هو من حيث طبعه ينفي ذاته، أو في طريقه للتحلل، لذلك بقي أن نختار ضربين من النقد ممكنين أو الصمت الأبدي؟

إن كل نقد عليه أن يكون انطباعيًا أو موسوعيًا وليس في هذه النتيجة من اعتباط، فهي أشبه ما تكون بحتمية تاريخية فُرضت علينا من خلال تاريخ الأفكار عمومًا. إن النقد الانطباعي والذي كان من رواده وايلد وأناتول فرانس يعطي الحق لكل فرد بأن يعطي رأيه، وهذا هاجس مهم عندي حتى لا يتحول النقد إلى أبوية فجة، أما تفسير ماهية الانطباعات فليس من الممكن عرضها عنها، فهو قد يتشكل من الجينات والجسد وطبيعته كذلك من خلال الطبقة الاقتصادية والأيديولوجيا بشكل عام، وما يهم هنا هو أن لكل إنسان حق النقد ولكل إنسان حق التقييم والتفسير من خلال انطباعاته، وهذا ما نراه اليوم بكثرة مع سيادة الفن المعاصر حيث صارت الأعمال مبهمة أو تدعو المتذوق للمشاركة في بنائها.

لكن ما يهمني أكثر في هذه المقالة هو الناقد الموسوعي. إن لفظًا مثل هذا لا يمكن أن يكون علميًا، كما أنه ليس حداثيًا في عصر يعزز لمفاهيم مثل التخصص والخبير والعارف وغير ذلك، إلا أن ذلك لا يقوم حجة ضد الوقوف ضده، فالناقد إذا أراد أن يصبح ناقدًا عليه أن يصير موسوعيًا أو لا يكون، فهو يفهم الماركسية ويفهم الكلاسيكية الجديدة، كما أنه يفهم الشكلانية، والفرويدية والظاهرانية والتأويلية بكل نسخها شلايرماخر دلتاي غادامير ريكور إلخ، هذا التوسع في مفهوم الناقد جاءنا من خلال التاريخ، ومن خلال صراع الأفكار وتناحرها، كما لا يخفى أن هناك معايير أخرى تساهم في تشكيل ناقد حصيف مثل صراع القوة الذي شدد عليه بلوم، مع أن إرادة القوة -وهو مفهوم ميتسوي- لا يكون ممكنًا دون التسلح بالمعارف ومن ثم ولادة الناقد الموسوعي.

من هو الناقد السينمائي؟ ليس وجودًا مُنعزلًا عن بقية الموجودات، وليس هناك ما هو بذاته، بل كل شيء مرتبط بغيره، والفنون بدورها مترابطة، فلا يمكن الحديث عن مسرح محض وسينما محضة وغير ذلك، لأنه ليس من طبيعة الموجودات الانفصال والاستقلال بذاتها، وهذا ينطبق بدوره على الفنون بشكل عام. هذا يعني أن الناقد السينمائي يجد نفسه في موقف صعب وهو الموسوعية في أعمق صورها: لماذا؟

لأن هذا الفن يُعدّ حديثًا، كما أنه يستلف كثيرًا من بقية الفنون المجاورة، فالناقد السينمائي الذي لا يعرف بالمسرح لا يعوَّل عليه، والذي لا يعرف في الفلسفة كذلك لا يعوَّل عليه، ومن الطريف أن نرى ناقدًا بحجم أندريه بازان كان يعتمد كثيرًا في طرحه على فيلسوف آخر وأعني جان بول سارتر، ودولوز يعتمد في نقده وتأصيله للسينما في كتابيه «سينما الصورة - الحركة» و«سينما الصورة - الزمن» على فلسفة برغسون وعلى حصيلته هو بوصفه فيلسوفًا محترفًا. إن الناقد السينمائي عليه أن يعرف الوسيط التقني كالكاميرا والمونتاج والتقنيات الحديثة، كما أنه ملزم بمعرفة تاريخ هذا الفن حتى يعي لمحات التجديد في كل عمل فني، فالناقد الذي لا يعرف التعبيرية الألمانية، ولا شابلن وكيتن، ولا الانطباعية والواقعية الشعرية، ولا مدرسة المونتاج السوفييتي، ولا الموجة الجديدة والواقعية الإيطالية وغير ذلك، كيف له أن يتحدث عن جمالية السينما؟

نعم، قد يفعل ذلك وهو حق، إلا أن كلامه سيكون على المستوى الانطباعي وليس الموسوعي، لكن لماذا يُفيدنا النقد الموسوعي؟ إنه من الدرجة الأولى يرفع من قيمة التذوق الجمالي، فالنقد الموسوعي يكشف قدرة هذا العمل على محاورة بقية الأعمال، كما أنه يبين لنا في أي سياق يندرج، إلا أن الموسوعية لا تعني الثبات والجمود لأن الموسوعية لا تعني هضم نسق ما ومن ثم تسديده على الآخرين، بل تعني أن المعارف من طبيعتها متعددة وأنه ليس من الممكن القبض على واقع متعالٍ أو مرجع متعالٍ حتى نقيم من خلاله الفنون.

الناقد الموسوعي يكترث بالسياق كما يكترث بالمضمون الجمالي والشكلاني، فنحن في عصر لم يعد من الممكن أن نتحدث عن طريق واحد للحقيقة بل عن طُرق. يقول دانتو: «لم يتصد الفن المعاصر لفن الماضي ولم ينظر إلى الماضي بوصفه شيئًا ينبغي الظفر بالانعتاق منه ولا حتى بوصفه مختلفًا تمامًا كفن عن الفن الحديث عمومًا. إن جزءًا مما يعرف الفن المعاصر هو أن فن الماضي متاح لمثل هذا الاستعمال مثلما يحرص الفنانون على تقديمه». هذا يعني أن حواجز الماضي والحاضر والمستقبل باتت مفتوحة على مصراعيها، وليس من الممكن النداء بالقطيعة، وعلينا أن نعمم الأمر أكثر، فالانفتاح الموسوعي يعني الانفتاحات على كل الحضارات وكل فنونها.

إلا أن للموسوعية معنيين ممكنين: الموسوعي القبلي والموسوعي التجريبي. إن القبلي عليه أن يعي كل الفلسفات العقلية والتجريبية شرقًا وغربًا، والتجريبي مُلزم بأن يتابع حركة العلم وما يستجد فيها، إلا أن المهم هو القبلي والذي يعني أنه يملك حصيلة جيدة من الفلسفة والتاريخ وغير ذلك مما يُسمى العلوم الإنسانية، فالناقد السينمائي بدوره يصير شارحًا ومفسرًا وناقدًا بل وحتى يصف ويتدرب على الوصف الدقيق. إن جمع كل مكتسبات المعرفة الحديثة في هذه المقالة لهو عمل شاق بل وممل، لأنه كان من الجيد لو تحدثنا عن موت المؤلف والبنيوية وما بعد البنيوية والهرمونطيقا وغير ذلك، لكن غاية هذه المقالة هي رفع كُلفة مهنة الناقد، ومن ثم تعليقها حتى تصير ممكنة، والأهم هو أن نعي أن النقد ليس سلطة بل هو علاقة مختلفة مع الأشياء فحسب

الهوامش:

1 ارثر دانتو ، بعد نهاية الفن، هيئة البحرين للثقافة والاثار ، ٢٠٢١
هيغل، دروس في الاستطيقا، منشورات الجمل، ٢٠١٤، صفحة 2٣٨
مصدر سابق، صفحة 3٣٨
مصدر سابق، صفحة 4٣٨
مصدر سابق، صفحة 5٩٤
مصدر سابق، صفحة 6٣٩ 

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى