السينما والميثولوجيا الأرضية

كتمهيد أطرح سؤال لماذا الميثولوجيا؟ وماذا نقصد بالميثولوجيا الأرضية؟ بل أكثر من ذلك: هل من الممكن -والمستساغ- أن نتحدث في عصر سيادة التقنية عن ميثولوجيا؟
June 14, 2024

كتمهيد أطرح سؤال لماذا الميثولوجيا؟ وماذا نقصد بالميثولوجيا الأرضية؟ بل أكثر من ذلك: هل من الممكن -والمستساغ-
أن نتحدث في عصر سيادة التقنية عن ميثولوجيا؟ في البداية، الميثولوجيا المقصودة في هذه المقالة ليست عقيدة أو ديانة،
إنما هي سردية جمالية تعين الكائن على العيش في زمن غياب السرديات الكبرى. إنه من منطلق ما ذكره «نيتشه» بأن
الفن هو التبرير الوحيد للوجود! إذن، نحن أبناء هذا العصر بحاجة إلى ميثولوجيا أرضية، أي بنية سردية جمالية تبتعد
عن أي حمولة لاهوتية، لكن ما علاقة السينما بكل ذلك؟ في الحقيقة أن السينما هي الفن الوحيد القادر على تحقيق جميع
عناصر الأسطورة، ومن ثم صبِّها في قالب سردي ينعكس على المتفرج. تحدّث «ريكور» عن الهُوية السردية بوصفها
سبيلًا ممكنًا لمعرفة الإنسان لذاته، بل وأكثر من ذلك، أن يعيش شعريًا على الأرض، كما يقول «هولدرين». لنطرح
سؤالًا يبدو بعيدًا عن الموضوع: لماذا في كثيرٍ من محاورات أفلاطون نجده يستخدم الأسطورة، وتحديدًا عند تلك
الموضوعات التي لا يمكن إيجاد تحقق لها في الخارج أو هي فوق طبيعية؟ لن أجيب الآن، لكن ما يهمني هنا هو الدفاع
عن حقنا في توليد الأساطير الجمالية، حقنا في العيش داخل عوالم سحرية، وأن نبتعد عن عنف الواقعية، ومن المهم أيضًا
أن أذكر بأن الهوية السردية حق فرداني لا علاقة له بقومية ما ولا إثنية ما؛ هي ببساطة هوية جمالية تقدمها لنا السينما
بشكل رائع، وفي هذه المقالة سوف أستعرض عناصر الأسطورة والتي باتت السينما اليوم تقدمها لنا من حيث نعي أو لا
نعي؛ لذلك، سوف أبدأ بدلالة الأسطورة الأرضية، ومن ثم سأتحدث عن صناعة البطل من منطلق أن البشر بحاجة إلى
الأبطال، وسوف أختم بالحديث حول الهوية السردية التي تقدمها السينما.

الأسطورة الأرضية.. ماذا أعني بلفظ الأرضي هنا؟ إن من طبيعة الأساطير أنها مليئة بالخوارق وكل ما هو فوق
أرضي، وهذا الأمر لا بأس به، إلا أن ظروف عصرنا غيّرت هذه القاعدة، فنحن نشاهد كثيرًا من الأفلام الخيالية سواءً
كانت من فئة الرعب أو الفانتازيا… إلخ. الميثولوجيا الأرضية تعني أنه لم تعد الخوارق أو ما كان يُعتبر خارقًا للطبيعة
حدثًا لاماديًا أو حدثًا بعلة روحية، ومثال ذلك ما تنتجه «مارفل» و«دي سي»، فنحن هنا أمام أشخاص خارقين، إلا أن
سبب ذلك يعود إلى مشكلة أو خطأ علمي. كذلك تنتج السينما عوالم خيالية متكاملة تجعلنا نعيش في داخلها، وكل هذا
يعني أن الميثولوجيا الجمالية لا العقدية ممكنة في هذا العصر، ولا يوجد فن قادر على فعل هذا الخلق المتكامل مثل
السينما، بل أكثر من ذلك، حيث تقوم السينما بصناعة تاريخ وإرث أسطوري شمولي كما فعلت هوليوود في أفلام
الويسترن: "رأينا كيف سلّمت أساطير الغرب بأن الأراضي الأمريكية كانت بكرًا ودَحضت الوجود السابق للهنود لأن
ولادة إنسانية جديدة تتم دومًا في مكان فارغ. إن بزوغ الكون يقضي بأن ما قبله خواء" 1 . إن الهُوية الفيلمية تؤفلم الحياة،
مما يجعلها قابلة للعيش، كما أنها قادرة على محو إرث بأكمله، وهنا نقترب من أطروحة شهيرة، وأعني التطهير
الأرسطي، فهل التطهير أحد عناصر الهوية السردية؟ بلا شك، ولكن ليس هذا كل شيء، فالهوية السردية، حين تُطعم
بالميثولوجيا، تُضفي على العالم سحرًا وجمالًا ويكون بحق تبريرًا كافيًا للاحتفال بالسينما. إن هذه الأطروحة لم تأتِ من
فراغ، فهي تعي جيدًا الظرف العصري الذي نعيش فيه، وأعني غياب اليقينيات والبحث الحثيث عن الخلاص، ومن خلال
الفن والميثولوجيا السينمائية نستطيع أن نحقق ولو جزءًا يسيرًا من الخلاص الدنيوي.

صناعة البطل.. لا أستطيع أن أجزم بأن هناك ميلًا طبيعيًا لدى الإنسان لاتخاذ بطل في حياته، فمثل هذه الأمور تبحث
بَعديًا -أي تجريبًيا- إلا أن المشاهدات وما يقدمه لنا التاريخ يُثبت بشكل قوي أنه لم يأتِ عصر لا أبطال فيه. خذ مثلًا
ملحمة «الإلياذة»، بطلها أخيل، و«الأوديسا»، عوليسيس، وكذلك الأنبياء وكبار المتصوفة ورجالات القانون وغيرهم كُثر،
ولكن من هو البطل؟ في الحقيقة، إنه من بعد التنوير صار مفهوم البطل غير محبب، بل ويدل على تبعية سلبية، وهذا
صحيح، إلا أنه وجه من بين وجوه عدة لمفهوم البطل. نادى التنوير بالقطيعة مع كل تبعية والجرأة على المعرفة: «تجرّأ
على استخدام عقلك»، كما أجاب كانط عن سؤال: ما التنوير؟ إلا أن فيلسوفًا آخر اعترض على هذا المعنى وأعاد
الاعتبار لمفهوم السلطة، أي سلطة البطل، والقائد، وأعني قادامير، وذلك من منطلق أن الإنسان كائن تاريخي وأنه متناهٍ
من حيث وجوده، وعليه، فلا مانع ولا تعارض مع الحرية في اتخاذ أبطال لنا، على كلٍ نسأل مجددًا: من هو البطل؟ ليس
هناك بطلٌ بل أبطال، ولكن ما يهمني هنا هو البطل السينمائي. لقد فرّق كيركغورد بين البطل التراجيدي والبطل
الإبراهيمي، وأنا هنا أريد أن أضيف البطل السينمائي كأحد الرموز المهمة لعصرنا هذا. لقد تحدّث كيركغورد عن صفات
أبطاله، لكن لن أذكرها هنا لأنها لا تهمني الآن؛ ما يهمني هو البطل السينمائي. السينما هي المسرح الذي يجعل من وجود
البطل ممكنًا، وهذا يقودنا إلى الأمر المهم وهو: أيُ بطلٍ تقدمه السينما؟ إنها تُقدّم كل النماذج: تعطينا نجومًا يشبهون كثيرًا
آلهة الأولمب، فهذا زيوس سيد الآلهة، وذاك أبولون المسؤول عن النظام، وهناك أفروديت واهبة الحب… إلخ. في السينما
نجد ذات الأمر، وهذا ما يجعل من المتلقي يعيش داخل عالم مليء بالأبطال والأشياء السحرية، حتى تلك السينما الواقعية،
كالإيطالية. هي بالضرورة تعطينا ذاك السحر، أي سحر الصورة واستقلالية العالم. السينما حياة داخل الحياة.

الهُوية الجمالية تنبع من موقف فلسفي عميق أشار إليه ريكور اعتمادًا على فرويد وهايدغر، وأعني أن الإنسان يأتي للحياة
وهو لا يعرف نقطة البداية، وذاكرة طفولته في طي النسيان، إلا من نزر يسير يلتقطه من أسرته وغير ذلك، كما أن
الكائن لا يملك النهاية؛ الموت ليس لك بل للآخرين، وعليه، لا البداية نعرفها جيدًا ولا النهاية نملكها. هنا مساحة شاسعة
هي ما نضع فيه الهوية الجمالية، والسينما تحديدًا الأقدر على فعل ذلك لأن الهوية تميل بطبيعتها للحركة، والسينما ما هي
إلا حركة وصورة. نأتي لأفلاطون، حيث ذكرناه في المقدمة وقلنا: لماذا يستخدم الأسطورة حين تعجز المخيلة عن تجسيد
ما يريد قوله؟ لأنه ببساطة لا يملك ذلك الوسيط الذي يصور له الأرواح وهي تطير إلى عالم المُثل، فحقل التجربة اليوم
صار متسعًا أكثر مما كان عليه سابقًا. مَن يدري، لو عاش أفلاطون في قرننا هذا لكان مخرجًا على ما يبدو، وأظنه كان
سيميل إلى الواقعية الإيطالية. على كلٍ، لنسمح للسينما بنجومها وقدراتها التقنية أن تعيد لنا سحر العالم؛ نحن بحاجة إلى
الميثولوجيا جماليًا. وبعد ذلك سوف نعيد السحر للعالم، فالمادة ليست بشعة بل سحرية على نحو لم يُكتشف بعد، أو للدقة،
ندرك ذلك لكن لا نريد الاعتراف به، وأخيرًا عليَّ أن أقول إن الاستنساخ في عصر التقنية -كما جاء في مقالة والتر
بنيامين «العمل الفني في عصر الاستنساخ الميكانيكي» يرفع من جودة الهالة. السينما فن ظل يرفرف فوق سماء عصر
الحروب والمجاعات، مُرسلًا جماليته رغم قبح تلك اللحظات. الميثولوجيا الأرضية إعادة اعتبار لجمالية المادة، كما أنها
تحديد دقيق لكل ميثولوجيا ممكنة لعصرنا هذا.

الهوامش:

1 آن ماري بيدو، هوليوود والحلم الأمريكي، دار المدى، 2022

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى