الموجة الإيطالية الواقعية وسيكولوجية «الإنسان المقهور» - "فيتوريو دي سيكا" إنموذجًا

September 27, 2022

عندما نرغب في الحديث عن الموجات السينمائية الكبرى والتي أثرت على مفهوم السينما تنظيرًا وتطبيقًا عبر التاريخ، ستكون «الموجة الواقعية الإيطالية» والتي برزت في أواخر الأربعينات من القرن الماضي احدى أبرز الموجات التي انقلبت على الشكل السينمائي الرومانسي السائد حين ذاك داخل إيطاليا وخارجها. وكان فيلم (روما مدينة مفتوحة) للمخرج الإيطالي روسيليني (1906 - 1977) الذي أخرجه عام   (1945) أولى التجارب التي مهّدت لهذه الحركة السينمائية. ثم أتى بعد ذلك العمل الآخر والأبرز الذي أرسى ملامح الواقعية الإيطالية في عام  (1948) وهو فيلم (سارق الدراجة) للممثل والمخرج الإيطالي «فيتوريو دي سيكا» (1901 - 1974) الذي سنّركّز الحديث عليه وعلى تجربته السينمائية في هذه المقالة.

ولكن قبل الخوض في تجربة (دي سيكا) السينمائية يجدر بنا أن نتعرف على بعض الملامح التاريخية والمفاهيم السينمائية «للواقعية الجديدة» ودواعي نشوئها، وحتى نضع هذه المدرسة في سياقها التاريخي الصحيح ربما بجدرُ بنا مقاربتها مع بروز الفلسفة الوجودية على يد أهم منظّريها حينها وهو الأديب والمفكر الفرنسي "جان بول سارتر" (1905-1980) بالإضافة إلى "سيمون دي بوفوار" (1908-1986) وألبيرت كامو (1913-1960) الذين جاءوا محملين بإرث الفيلسوف الألماني هايدجر (1889-1976) والدنماركي "سورين كيركجارد" (1813-1855). حيث أن «الموجة الواقعية» من الجانب الفني والحركة الوجودية من الجانب الفلسفي برزتا كنتيجة حتمية لليأس الاجتماعي والقلق الوجودي وانعدام القيمة الإنسانية والشعور بالعبثية الكونية الطاغية بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1954). نَحَت السينما الإيطالية في موجتها الواقعية الجديدة إلى محاولة إبراز الأثر الاجتماعي والسيكولوجي المدمّر للحروب على النفس الإنسانية وإبراز حالة الفقر المدقع للإنسان المقهور على الشاشة السينمائية والفقد الهائل لمعنى الوجود. وذلك من خلال تسليط الضوء على الحالة المجتمعية السائدة بكل واقعيتها ونقلها بصدق وأمانة على الشاشة مستمدّين مادته القصصية من داخل المجتمع الإيطالي ومستعينين لتأدية أدوار البطولة في أفلامهم بوجوه حقيقية وأصيلة، وجوه برز على ملامحها وجع البطالة والفقر والجوع والعطش، بحيث يتم تصويرها في أرض الواقع خارج الاستوديوهات المعتادة قبل بروز "الواقعية" متخففة من زيف الإضاءات ومشبعة بأجواء الخارج الطبيعي. بمعنى آخر تم استبدال الممثل بـ"مودل" من أرض الواقع على حد تعبير المُنظّر الكبير لـ سينماتوغراف المخرج الفرنسي روبيرت بريسون (1901-1999) في كتابه «مدونات حول السينماتوغراف» بغرض تعميق الشعور الإنساني في نفس المُشاهد من خلال هذا "المودل". إذن على مستوى الصورة المتحركة كانت "الموجة الإيطالية الواقعية" قد تناولت إنسان العصر بكل مآزقهِ الوجودية الناتجة عن آثار لعنة الحروب التي غيّرت من شكل الخارطة الإنسانية وزعزعت يقينياته. وعلى المستوى الفكري والفلسفي تناولت "المدرسة الوجودية" ذلك الإنسان في فلسفتها وجعلته المحور الذي نزلت لأجله الفلسفة من المعاني التجريدية إلى الحسية، ودرست الإنسان وعلاقته الحسية بالواقع من حوله من العمق حيث يقول سارتر عن الوجود: «هو الوجود الفردي العيني هنا والآن»). إذن بالنظر لتقارب البروز التاريخي للموجة الواقعية والفلسفة الوجودية والعوامل المشتركة بينهما ربما نستطيع القول أن الواقعية الإيطالية ليست حركة فنية فحسب بل هي مدرسة جذورها تنغمس في تربة فلسفية خصبة تعني بسيكولوجية (الإنسان المقهور) ومآزقه الوجودية من العمق.

.

فيتوريو دي سيكا:

قلنا في المقدمة أن فيلم «سارق الدراجة» لفيتوريو دي سيكا يُعد من أوائل الأفلام التي تربعت على عرش الأفلام الأهم، من خلال إرساء ملامح الواقعية الإيطالية في المشهد السينمائي العالمي، والفيلم مبني على رواية حملت نفس الاسم للكاتب الإيطالي "لويجي بارتوليني". قام "فيتوريو" في صناعة فيلمه بالاتكاء على ممثلين غير محترفين وتصوير الفيلم في شوارع إيطاليا وبيوتاتها عوضًا عن الاستوديوهات عارضًا صورة البطالة المتفشية في المجتمع الإيطالي وتداعياتها المدمّرة للإنسان الإيطالي بعد الحرب العالمية الثانية في صورة بطل فيلمه (لامبيرتو لاجوراني) وهو في الحقيقة ليس ممثلًا محترفًا بل كان عاملاً في أحد المصانع في إيطاليا.

دي سيكا الذي أبدع هذه التحفة السينمائية لم يكن مخرجًا بالدرجة الأولى بل كان ممثلًا كوميديًا بارزًا في المسرح والسينما وقد أدّى العديد من الأدوار في أعمال غيره من المخرجين قبل أن يقرر في أربعينيات القرن الماضي التوجه للإخراج السينمائي متوجهًا بالتحديد للتراجيديا! وهذه دلالة مهمة على أثر الحرب العالمية الثانية في نفسه حيث انتقل من الكوميديا والرومانسية للواقعية التراجيدية، وصنع في ذروة الموجة الواقعية الإيطالية قبل أفولها في الستينات الميلادية أعمالًا وضعته في مصاف المخرجين المؤثرين الكبار كـ(ماسحو الأحذية) عام 1946 و (سارق الدراجة) السالف الذكر و (معجزة في ميلانو) عام 1951 وفيلم (أمبرتو د) الذي أخرجه عام 1952، والذي سوف أخصص الحديث عنه هنا كنموذج من هذه الأفلام وهي أفلام جميعها ركّزت على الطبقة الكادحة من المجتمع الإيطالي وما يواجهها من مشاكل الفقر والبطالة والجوع والتهميش.

ركّز فيتوريو في أفلام تلك المرحلة على إبراز الحالة السيكولوجية للإنسان البائس أو «الإنسان المقهور» على حد تعبير الدكتور مصطفى حجازي في كتابه: (التخلف الاجتماعي "مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور") والذي سأحاول إسقاط بعض ما جاء فيه هنا على شخصية «أمبرتو دي».

في فيلم (أمبرتو دي) يتعرّض بطل الفيلم العجوز الذي يحمل ذات الاسم، إلى صراع خارجي وداخلي، الخارجي متمثل في محاولاته اليائسة لتسديد ديونه المتراكمة لصاحبة النزٌل الذي يسكن فيه والتي تهدده على الدوام بالطرد، حيث أن الراتب التقاعدي لم يكن كافيًا لذلك ولا أصدقاؤه كانوا مستعدين لمساعدته. هنا يجد نفسه وحيدًا في غربةٍ هائلة في وطنه، يفرّ من كل شيء إلا من كلبه الوفي الذي سيكون سببًا وحيدًا له للبقاء على قيد الحياة.

يذكر الدكتور مصطفى حجازي في مقدمة الفصل الخامس من كتابه والمعنون بـ (الانكفاء على الذات) بأن: «الحركة الأولى التي يحاول الإنسان المقهور من خلالها تجنب ما تفرضه عليه الطبيعة من بلاء اعتباطي، ويفرضه عليه المتسلط من قهر متعنت، تأخذ شكل الانكفاء على الذات، وهي كأولوية دفاعية تسير في اتجاه التقوقع والانسحاب بدل مجابهة التحديات الراهنة والمستقبلية. وتشيع هذه الأولية كثيرًا في ردود فعل الإنسان تجاه مختلف حالات الفشل، الذي يصحبهُ إحساس داخلي بالعجز وقلة الحيلة». 

ينعكس هذا الوصف تمامًا على الحالة السيكولوجية (لأمبرتو) فبعد يأسه من زيادة راتبه التقاعدي -التي هي أولى المحاولات التي خاضها امبرتو مع المتقاعدين في تظاهرات ظهرت في المشهد الافتتاحي للفيلم قبل أن تقوم الشرطة المتسلطة بتفريقها- وبعد قيامه بالعديد من المحاولات البائسة لتوفير راتبه التقاعدي لتسديد الدين المفروض عليه من الشخصية المتسلطة في الفيلم وهي هنا متمثلة بصاحبة النزُل، وبعد خوضه في العديد من المحاولات الفاشلة لطلب المساعدة من أصدقائه أو بيعه لبعض أغراضه الشخصية أو حتى في محاولاته للتسول الذي وقف كبرياؤه عائقًا لها، ينكفئ امبرتو دي على ذاته مستسلمًا لقدره البائس الذي سيؤدي به إلى محاولة انتحار فاشلة. حيث نرى هنا بأن الاستسلام هو آخر الأبواب المفتوحة أمامه بعد أن أَغلقت جميع أبواب الخلاص من المشكلة في وجهه. وهذه المرحلة الأخيرة يصفها الدكتور مصطفى حجازي في ذات الفصل بقوله: (يحدًّ الإنسان المقهور من طموحاته إذًا، وذلك بأن يتقبّل مصيره، أو يحاول إيهام ذاته بتقبل هذا المصير. ويغرق في بؤسه الذي يتخذ عنها طابع القدر والنصيب "كُتب عليه الشقاء" الذين ليس إلى تغييرهما من سبيل، إلا أن هذه الحالة تمثل رد الفعل الأقصى، إنها تشكّل آخر مراحل الفشل والقهر، ولا يصل إليها إلا القلة القليلة من الناس). وأحسب أن أمبرتو هنا هو واحدٌ من هؤلاء القلة بالرغم من أن الخوف من الانتحار سوف يُنقذه في نهاية الفيلم، خوفه وخوف كلبه الوفي. 

تناولتُ هذه الحالة كمثال هنا على محاولة فيتوريو في ذروة بروز الموجة الواقعية على تسليط الضوء على «الإنسان المقهور» وإبراز الأثر السيكولوجي المدمّر له في ظل الظروف البيئية والاجتماعية القاسية المحيطة به في ذلك الزمن العصيب. وسنجد هذه الحالة السيكولوجية بارزة في أفلام تلك المرحلة بمختلف أشكالها وأبطالها وقصصها، قبل أن ينحو "دي سيكا" للرومانسية في فترة الستينيات.

على مشارف الستينات بدأ وهج الموجة الواقعية الإيطالية الجديدة بالخفوت نتيجة للهجوم المتواصل على مخرجيها وأعمالهم من قِبل الإعلام الرسمي للدولة عن طريق التخوين للوطنية تارة وللمسيحية تارة أخرى. ناهيك عن زرع المعوقات المادية والإعلامية من الهيئات الرقابية حينها. فبدأت مرحلة جديدة تتشكّل في السينما الإيطالية برزت على يد فيدريكو فيلليني (1920-1993) في نهاية الخمسينيات ومايكل أنجلو أنطونيوني (1912-2007) وغيرهم. في تلك المرحلة بدأت أفلام فيتوريو دي سيكا كذلك تتشكّل بملامح مختلفة عن بداياته الإخراجية في الأربعينيات فظهرت الرومانسية والكوميديا في أعماله معتمدًا على محترفيّ التمثيل، ومن هنا بدأت رحلته مع أبرز الممثلات الإيطاليات التي ارتبط اسمها باسمه ارتباطًا وثيقًا وهي «صوفيا لورين» التي برزت في العديد من أعماله اللاحقة بعد الستينيات مثل فيلم «أمس و اليوم و غدًا» والذي أخرجه عام (1963) و «زواج على الطريقة الإيطالية») عام (1964). إلا أنه بشكل عام في هذه المرحلة من مسيرته السينمائية وبالرغم من حصد هذه الأفلام العديد من الجوائز السينمائية  كان صدى أعماله في الوسط الفني أقل مما كان عليه في أواسط الأربعينيات. الجدير بالذكر بأن دي سيكا قام بمحاولة في أواخر الموجة الواقعية للحفاظ على وهجها في عام  (1962) من خلال قيامه بإخراج فيلم «سجناء ألتونا» من بطولة صوفيا لورين، وهو مُقتبس من مسرحية بذات الاسم لجان بول سارتر «وهذه إشارة كذلك للمقاربة التي جاءت في مقدمة المقال بين الوجودية والواقعية الإيطالية»، إلا أن السيناريو الذي شارك في كتابته السيناريست الإيطالي "تشيزار زافاتيني" مع "دي سيكا" كان مختلفًا تمامًا عن فحوى المسرحية الوجودية ورسالتها الفنية. وبذا لم يستطع دي سيكا الحفاظ على وهج الواقعية الجديدة في تلك المرحلة إلا أنه لا يختلف اثنان حول أثره الكبير على بداياتها وفي أوج ذروتها من خلال أفلامه المبّكرة وبالخصوص فيلمه البديع «سارق الدراجة» ولو أنه -بنظري- لم يُخرج في حياته إلا هذا الفيلم لكفاه.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى