صنَّف الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925 – 1995) السينمائيين بأنَّهم الأقرب إلى طبقة العباقرة والمفكرين؛ بسبب قدرتهم على التفكير في الصورة عبر منظوريَّ الحركة والزمن في الوقت نفسه، متفوقين في ذلك – بحسب وصفه – على غيرهم من الرسَّامين والمعماريِّين والموسيقيِّين. وعند النظر بدلالات رأي دولوز، سنجد الكثير من الوجاهة والصواب: إنَّ إنجاز فيلمٍ مُحكم يتجاوز فكرة التمكُّن من الأدوات التقنية إلى القدرة على ترك أثرٍ بالغٍ في نفوس المشاهدين أمرٌ شديد الأهمية، كون الفيلم يخلق فضاءً واسعًا مُحفِّزًا للتفكير في تجربةٍ إنسانيَّةٍ معيَّنةٍ واستيعابِ وجهات نظرٍ متعدِّدةٍ حولها، بالإضافة إلى تطبيق نظريَّاتٍ فلسفيَّةٍ في إطارٍ أقل تعقيدًا عبر نماذج حيَّةٍ وتفاعليَّة.
تُفهَم هذه العبقريَّة الفذة التي يتمتَّع بها السينمائي الجاد انطلاقًا من علم السرديات؛ إذ إنَّ النصَّ السينمائيَّ في أساسه فنٌّ أدبيٌّ سردي، والسرد بحدِّ ذاته بوَّابةً مُشرَعةً على التخييل المتكئ في مضامينه على وقائع وأحداث حقيقيَّة. في هذا السياق، يدور الفيلم السينمائي في إطارٍ مُحلِّقٍ نحو الإبداع ومُتعدِّد الأشكال والأطر:، إنَّه صورةٌ متحرِّكةٌ تدورُ في زمنٍ ما عبر أحداثٍ تُسرَدُ برشاقةٍ وتماسكٍ كي تؤدِّي غرضها الفني والإنساني بكلِّ اقتدار، ما يعني أنَّنا في السينما أمام صورة – حركة – زمن – أحداث – سرد، وهذه العناصر عندما تتوافر فيها الجودة والاتقان، باعتبارهما شرطين أساسيَّين للنجاح، سنكون أمام فيلمٍ ينتمي فعلًا إلى طبقة العباقرة كما ذكر دولوز.
ولتجنُّب أيَّ لبسٍ قد تسببه مفردة "عباقرة" لدى القارئ/ة، وللتوضيح أنَّ المقصود بها ليس بالضرورة إنتاج عملٍ غاية في العمق لنيل هذه المرتبة، في تلك المتلازمة المستمرة بين النبوغ والتعقيد، يجدر التأكيد على أنَّ الفرادة في مجال السينما تكمنُ في إعطاء المعاني البسيطة دلالةً عميقة، سواء من خلال الدفء والحميميَّة التي تغمر المشاعر أحيانًا، أو عبر الإسقاط والترميز في حيِّز السهل الممتنع. هكذا يلعب الفنُّ دوره في الوصول إلى إدراك المُشاهد والتأثير فيه بكلِّ سهولةٍ وبساطة. مثالٌ على ذلك فيلم «البقرة» (The Cow - 1969) للمخرج داريوش مهرجوئي، الذي نرى فيه عبقريةً لامتناهيةً في خلق عالمٍ بسيطٍ تدور فيه أحداثٌ تبدو للوهلة الأولى اعتياديَّة، بينما تصبح لاحقًا سببًا في تفجير موجةٍ فنيَّةٍ كاملةٍ في إيران.
الوهم يصنع الواقع…
يتقاطع الفيلم مع حكايةٍ تراثيَّةٍ شهيرةٍ وردت في كتب التاريخ بعنوان «مريض الوهم». جاء فيها أن ابن سينا، العالم الشهير، صادف موقفًا في غاية الغرابة، حيث طالبته إحدى الأسر بالتدخُّل للنظر في حالة ابنها الذي قرَّر فجأةً أنَّه بقرة، وعلى أثر ذلك انقطع عن الأكل والشرب، مطالبًا إياهم بذبحه. فاحتار ابن سينا في أمره، إلا أنه وجد مخرجًا يجنِّبه خيار القتل، ومن جهة أخرى تفادى التصادم معه، فذهب لزيارته، وبعد فحصه أمر أهله أن يسمِّنونه حتى يستعيد عافيته، ووعدهم بالعودة ثانيةً لذبحه. مع مرور الوقت تلاشى ذلك الوهم وعاد الرجل إلى سيرته الأولى. في قصة ابن سينا مع الرجل البقرة – إن صحت التسمية – لن تجد ما يوضح كيف وصل الإنسان إلى هذه الحالة، ولماذا اختار البقرة تحديدًا كي يتلبَّس شخصيَّتها، نحن فقط أمام رجل استيقظ وهو يرى نفسه بقرة. أما في فيلم مهرجوئي، والفائز بست جوائز عالميَّة، فالأمر في غاية الاختلاف.
بداية، الفيلم مستوحى من قصة قصيرة كتبها القاص غلام حسين ساعدي، أحد رواد القصَّة القصيرة والرواية الإيرانيَّة، وفيها يعيش البطل مش حسن (عزت الله انتظامي) في قرية نائية عن أعين العالم بصحبة بقرته التي يُحب، فهو من يُحمِّمها ويلعب معها، ويرعى راحتها ويهتم بكافة تفاصيلها الصغيرة. يدرك أهالي القرية البسطاء علاقة مش حسن ببقرته، لذا دخلوا في دوامَّةٍ كبيرةٍ حينما بلغهم نُفوقها عند مغادرته ذات يوم خارج القرية لطلب الرزق. تمخَّض عن ذلك دفنها وإخفاء أمر موتها عنه، والاتفاق على رواية واحدة: هربت دون أن يعلم أحد بوجهتها، ظنًّا منهم أن ذلك سيخفِّف من وطأة الكارثة عليه، إلا أنَّ ما حدث كان العكس: جُنَّ جنونه وطار عقله، ودخل إلى الحظيرة واستقر فيها بصفته بقرة: يأكل حشائشها، يشرب ماءها وينام نومتها... حتى باتت وسيلة تواصله مع الجميع هو الخُوَار بصوتٍ عالٍ.
بذلت القرية البدائيَّة والمنغلقة على ذاتها جهدًا كبيرًا في احتواء حالة مش حسن رغم الأخطار الوجوديَّة المحدِقة بها، كونها مستهدفةً من مجموعة لصوص يظهرون فجأةً ويختفون فجأةً أيضًا، ولا أحد يعلم من هم أو إلى من ينتمون، لكنَّ الأكيد أنَّهم يسرقون الخراف والنعاج، حتى أن بقرة القرية الوحيدة كانت مهدَّدة، إلا أنَّهم عندما عقدوا العزم على سرقتها لم يجدوها، بل كان مش حسن/البقرة في انتظارهم، فلاذوا بالفرار من بين يدي أهالي القرية الذين كادوا أن يقبضوا عليهم وينهوا خطرهم. لقد تطلَّب استفحال حالة مش حسن إرساله إلى خارج القرية للعلاج، فتولى تلك المهمة أصحابه، متكبِّدين الأمطار وسوء الأحوال الجويَّة، إلا أنَّه أظهر تعنُّتًا مبالغًا فيه، ما دفع صديقه المقرَّب منه إلى ضربه بالعصا كما تُضرب الحيوانات، وذلك بقصد حثِّه على السير. من هول الصدمة، لم يتمالك مش حسن نفسه وقرَّر الهروب برمي نفسه من أعلى الجبل. عادوا جميعًا من دونه في صمتٍ مريب، ومارسوا حياتهم بشكلٍ اعتياديٍّ بعد أن قتلوه/أضاعوه!.
لم تكن بقرة.. ولم يكونوا في قرية!
في عام عرض الفيلم، أي عام 1969، شهدت إيران تحوُّلاتٍ إقليميَّةً مهمَّةً مع عزم الانتداب البريطاني مغادرة المنطقة، وهو ما أسفرَ عن إلغاء معاهدة الحدود مع العراق، والتصريح الواضح من قِبل شاه إيران برغبته في فرض نفوذه على دول ساحل الخليج. كما شهدت إيران داخليًّا اضطراباتٍ اقتصاديَّةً واجتماعيَّةً عدَّة، ما مهَّد لتحوُّلٍ سياسيٍّ مفصليٍّ بعد عقدٍ من ذلك التاريخ، تحديدًا عام 1979م الذي شهد سقوط حكم الشاه وتلاشي طموحاته التوسُّعيَّة. وسط هذه التحوُّلات على الصعيدين الداخلي والخارجي، كانت سيرورة السينما تأخذ مجراها أيضًا: صَدَرَ فيلم «البقرة» مؤسِّسًا لأفلامِ الموجة الجديدة الإيرانيَّة، متأثِّرةً بموجةٍ عالميَّةٍ هي سينما الواقعيَّة الجديدة الإيطاليَّة وسينما هوليوود الكلاسيكيَّة، والتي كانت سمتها الأساسية قائمةً على كسر الرؤية المألوفة في التصوير والمعالجة، حيث الجنوح إلى الحميميَّة والإسقاط الرمزي على الواقع المعاش بشكلٍ غير فج.
من هذا المنطلق يستحيل يستحيل قراءة الفيلم بعيدًا عن المعاني والإسقاطات التي ترتبط بتلك التحولات الفارقة، حيث نجد أنَّ البقرة الموؤودة في ظروفٍ غامضةٍ هي تجسيد للوطن، ذاك الوطن الذي يسعى أحدهم إلى قتله رغم ما يدرُّهُ من الخير على أبنائه، وبدلًا من السعي إلى كشف الجاني، يتمُّ التواطؤ والقبول بدفن الوطن. إنَّ رمزيَّة الدفن، وإظهار بدائيَّة السكان أثناء الأزمة لم يكن عبثًا، فضلًا على إخفاء اسم القرية أو أيِّ إشارةٍ توضح موقعها الجغرافي، فهو تكريسٌ متعمَّدٌ لتعميم الحالة وإعطائها مجالًا أوسع للتفسير والتحليل. كما أنَّ هوَسَ مش حسن جاء دلالةً على أنَّ الوطن حيٌّ وباقي، بحيثُ تجسَّد في شخصٍ رفض الرضوخ للواقع، والتسليم بأنَّ ما حدث كان صدفةً عابرة، إذ كيف يموت الوطن/البقرة بهذه السهولة؟
تبقى الإشارة إلى اللصوص مجهولي الهوية بأنَّها إسقاطٌ على وجود عصابةٍ تنهب البلد دون حسيبٍ أو رقيب، وهو ما يوحي بوجود أيدٍ خفيَّةٍ تمارس الفساد عبر استهداف مصادر رزق المواطنين [الخراف، النعاج..] والتحكم في حالتهم الاقتصاديَّة. في حين تتجسَّدُ الدلالة الأعمق في المشهد الختامي للفيلم، حين ينفى الوطن المريض المتجسِّد في مش حسن بحجَّة العلاج، وهناك يقوم الضحايا بدور الجلاد واستخدام العصا وسيلةً لترويض الخارجين عن جماعتهم الخانعة، فتكون المعالجة هي إشهار الموت لرفض الواقع بكلِّ علَّاته.
هذه الكميَّة من العبقرية التي قدمها المخرج داريوش مهرجوئي تضعُ السينما في إطارها العميق دون أن يؤثِّر ذلك على فنيَّة الفيلم العالية أو يؤدي إلى التكلُّف المرهق.. ويصح اعتبار أنَّ ما أسس له الفيلم قد حفرَ مساره بشكلٍ عام في نجاحات السينما الإيرانيَّة اللاحقة، وذلك عبر إعطاء البساطة معنى ودلالة أعلى من مستوى السطحيَّة من جهة، ومن جهةٍ أخرى التفتيش عن اليومي المعاش للانطلاق لفهمٍ أعمق، وطرح أسئلةٍ وجوديَّةٍ عن الإنسان ورؤيته للعالم من حوله.