في الممرات المضيئة عند مدخل مؤتمر النقد السينمائي بالرياض، تعرض الشاشات صورًا تلتقط المكان في فن السينما، وتُعيد إلى الواجهة هذا السؤال الجوهري: ما قيمة المكان في الصورة السينمائية؟ إذ إن المكان ليس مجرد فضاء ماديٍّ، بل هو حضورٌ يتشابك فيه الحسّي بالمتخيل، فالغرفة الفارغة مثلًا هي "مكان"، لكنها ما إن تمتلئ بالشعور والتجربة والمعاش، حتى تتحول إلى فضاء، أي إلى ذاكرة بصرية حسية قادرة على حفظ الأثر الإنساني. هنا يبدأ الفارق بين المكان بوصفه وجودًا ماديًا، والفضاء بوصفه حضورًا محسوسًا ينبض بالحياة.
في هذا المدخل نفسه، كان المعرض التعريفي عن الإخوة لوميير حاضرًا، كأنه يذكرنا ببداية العلاقة الأولى بين الإنسان والمكان في السينما؛ هذان الأخوان لم يبتكرا آلة تصوير وحسب، بل منَحا البشرية طريقة جديدة لرؤية العالم. كانت السينما التي قدماها منذ لحظتها الأولى لغة تواصل مع الوجود، لا مجرد اختراع تقني؛ لقد أعادا تعريف نظرتنا للحياة اليومية، وللمكان الذي نعيش فيه بابتكار فن المراقبة؛ مراقبة الواقع وهو يتنفس أمام العدسة.
كانت كاميرا لوميير تقف أمام العالم ببراءة الطفل الذي يكتشف الطبيعة للمرة الأولى، دون أي زخارف أو حبكات مصطنعة: لقطة لطفل يضحك، عمّال يغادرون المصنع، قطار يقترب من المحطة؛ مشاهد عابرة تحولت إلى دهشة، والدهشة إلى ذاكرة، والزمن إلى لحظة شاعرية قابلة للحفظ. من هنا، لم يكن المكان في أفلام لوميير مجرد خلفية، بل كان الكيانَ الذي يمنح الحدث روحه؛ فالمصنعُ ليس بناءً، بل نقطة انطلاق للحركة الإنسانية، والشارع ليس ممرًا، بل مسرحًا للزمن وهو يتدفق.
ولعل لحظة ولادة الوعي السينمائي تجسدت في مشهد وصول القطار الذي وثقاه عام 1896، وعُرض أمام الجمهور. كان المشهد مرآة زمنية تجعلك تشعر وكأنك في أمسية من أمسيات عام 1896: طريقة لباسهم، وحركتهم، إنها "الآن" و"آنذاك" في الوقت ذاته، وهذا هو الجانب الثالث للسينما: عنصر الزمن، أجزاء مقتطعة من تدفق الزمن نفسه. وثق ذلك المشهد الآسر المرة الأولى التي رأى فيها الإنسان المكان وهو يتحرك أمامه، فالمكان لم يعد ساكنًا بل صار حيًا، والزمن أصبح شيئًا يمكن رؤيته، لا عيشه فحسب.
في مساء شتوي من 28 ديسمبر عام 1895، احتضن قبو غراند كافيه في شارع كابوسين بباريس هذه الولادة الأولى للنور؛ في قاعة صغيرة تُدعى "إنديان صالون"، أُطفئت الأنوار، وظهر على الجدار الأبيض أوّلُ حضورٍ بصريٍّ للمكان الإنساني كما لم يُرَ من قبل: مصنع، محطة، شارع، ضحكات بشر. لم يكن أحد يدرك آنذاك أن تلك المساحة المظلمة ستكون مهدًا لفن سيُّغير طريقة رؤيتنا للعالم.
الأخوان لوميير لم يختارا مشاهدَهما عشوائيًا، ففِي كل لقطة نلمحُ دهشةً مقصودةً، ودعوة إلى التأمل في المكان العادي الذي يتحول أمام العدسة إلى فضاء للدهشة. كانت العلاقة بينهما وبين الجمهور علاقة حدسٍ غير منطوق؛ بذرة لرؤيةٍ جديدة للحياة. من ذلك القبو الصغير، وُلدت السينما بوصفها فنًا يُرى بالعين ويُحس بالقلب.
ومن المدهش أن هذه الحكاية كلها بدأت قبل عام من ذلك، حين كان أنطوان لوميير، والد الأخوين، في باريس يشاهد اختراع توماس إديسون: الكينتوسكوب، عام 1894، وهو أول جهاز لتسجيل وعرض الصور المتحركة، لكنه كان يتيح المشاهدة لفرد واحد فقط. عاد أنطوان إلى ليون ومعه الفكرة: لماذا لا تكون التجربة جماعية؟ ومن هنا، ورث ابناه الحلم وصاغاه في جهاز السينماتوغراف، الذي جعل المكان لا يُرى فقط، بل يُشاهد جماعيًا، كما لو أن العالم كله يجلس في قاعة واحدة يراقب ذاته.
وهكذا، أصبح المكان في سينما الإخوة لوميير نقطة البدء لكل شيء، لا مجرد خلفية للأحداث، بل أصل الصورة ومصدر الدهشة، والمرآة الأولى التي جعلت الإنسان يرى نفسه في حركة العالم. لكن السينما، مع مرور الزمن، لم تتوقّف عند هذه البراءة الأولى، حين جاءت الموجة التعبيرية الألمانية، تغيّر معنى المكان، فصار الظل لغة، والجدار انعكاسًا للاضطراب النفسي.
في أفلام مثل «مصاص الدماء نوسفيراتو» (1922 - Nosferatu: A Symphony of Horror) أو «كابينة الدكتور كاليغاري» (1920 - The Cabinet of Dr. Caligari)، لم يعد المكان محايدًا، بل أصبح كائنًا ينطق، يصرخ، يختنق مع أبطاله؛ الجدار المائل، الزاوية الغريبة، والنافذة المعوجة كلها كانت مرآة للداخل المضطرب. هنا، لم يعد المكان يعكس الواقع، بل يعكس الذهن.
ثم مع الواقعية الإيطالية بعد الحرب، عاد المكان ليصبح شاهدًا على الجرح الإنساني؛ المدينة المهدمة، الشارع الفارغ، السوق الشعبي، كلها تحولت إلى فضاء يوثّق الحياةَ لا كما نتمناها، بل كما هي. في «سارق الدراجة» (1948 - Bicycle Thieves) أو «روما، مدينة مفتوحة» (1945 - Rome, Open City)، أصبح المكان هو البطل؛ يحكي عن الطبقة المسحوقة، وعن صراع الإنسان مع الفقر والكرامة.
ثم جاءت موجة أخرى من السينما جعلت المكان ذا بُعدٍ فلسفي، كما في أفلام أندريه تاركوفسكي ومايكل أنجلو أنطونيوني. في فيلم «المرآة» (1975- Mirror) أو «الليل» (1961 - La Notte) يصبح المكان مرآة للروح: بيت الطفولة، حقل المطر، غرفة صامتة، كلها أماكن تتحول إلى استعارات للذاكرة، للحنين، ولِما لا يمكن قوله بالكلمات. المكان هنا لم يعد فقط جسد الصورة، بل أصبح روحها؛ الذاكرة التي تتنفس.
وفي السينما الحديثة، تحديدًا في أعمال وونغ كار واي أو تيرانس ماليك، تطور حضور المكان حتى صار حالة وجدانية خالصة؛ المدينة المزدحمة في «ملائكة ساقطون» (1995 - Fallen Angels) ليست مكانًا جغرافيًا، بل فضاءً للعزلة، والبيت في «شجرة الحياة» (2011 - The Tree of Life) ليس منزلًا، بل كونًا مصغّرًا من الضوء والزمن والذاكرة.
بهذه الطريقة، أصبحت السينما نفسها نوعًا من تجسيد المكان. كأنها محاولة مستمرة لالتقاط ما لا يُلتقط: رائحة الغرفة، دفء الضوء، أو الفراغ بين نظرتين. ولعلنا حين نعود إلى سؤال: ما قيمة المكان في الصورة السينمائية؟ نكتشف أن الإجابة ليست تقنية ولا جمالية فحسب، بل وجودية أيضًا. المكان في السينما هو ذاكرة الإنسان حين يعجز عن استعادتها بالكلمات، هو التجسيد البصري للغياب، هو الشاهد على مرورنا في العالم.
كل لقطة لمكانٍ ما هي أيضًا لقطة من ذواتنا، من وعينا العابر لهذا الزمن. وهكذا، من قبو غراند كافيه في باريس، إلى مؤتمر النقد في الرياض اليوم، يستمر المكان في طرح السؤال نفسه: هل نحن من نمنح المكان معناه، أم أن المكان هو من يمنحنا معنى وجودنا؟ ربما كانت السينما منذ بدايتها محاولةً للإجابة عن هذا السؤال عبر الضوء؛ الضوء الذي يجعل المكان يتكلم، والإنسان يتذكر.



