هناك أفلامٌ لا تُنسى، لما تتمتَّع به قصصها من تفاصيل مثيرة، أو لما يتميّز به طاقمها من سمات متفردة، وغالبًا بسبب نهايتها الصادمة، بينما تترك بعض الأفلام، مثل «يي يي» (Yi Yi, 2000)، أثرًا أعمق بسبب واقعيتها المتقنة. فهي تجعلُ المشاهدَ يعيش تجربة مختلفة، كأنه يشاهد فيلمًا وثائقيًا، فيشعر كما لو كان جالسًا برفقة هذه الشخصيات، متابعًا حياتها اليومية بكل تفاصيلها الصغيرة، ومحيطًا بلحظاتها العادية والصعبة في الوقت ذاته. وهذه الواقعية تدفعنا إلى تأمل تفاصيل الحياة، وتكشفُ لنا عن أبعادٍ إنسانيةٍ وعاطفية لم نلحظها من قبل.
يُعَدّ فيلم «يي يي» من أهم وأعظم الأفلام في تاريخ السينما العالمية، وقد نال عنه مخرجه «إدوارد يانغ» جائزةَ أفضل مخرج في مهرجان كان السينمائي عام 2000. وهو آخر فيلم طويل أخرجه بعد مسيرة حافلة قدّم فيها أعمالًا لا تُنسى مثل «يوم صيفي أكثر إشراقًا» (A Brighter Summer Day, 1991) و«قصة تايبيه» (Taipei Story, 1985).
في هذا العمل الأخير، يقدِّم يانغ تجربةً سينمائيةً تتسم بالواقعية والصدق، فيغوصُ عميقًا في تفاصيل الحياة اليومية والعلاقات الإنسانية، منطلقًا من تأمل الأجيال المتعاقبة التي تشكِّل بناءَ العائلة المكتمل، راصدًا سمات العلاقة التي تربط بين أفراد العائلة، ومستكشفًا هذا التجاذب بين حالتي التقارب والتباعد داخل العائلة، الناتج عن اختلاف وتباين أفرادها.
يصوِّر الفيلم حياةَ عائلةٍ مكونةٍ من أربعة أفراد، وخامسهم الجدة. فيرصدُ التغيرات النفسية والعاطفية والاجتماعية التي تواجه كل واحد منهم. يبدأ الفيلم أحداثه بحفل زفاف عائلي لأحد الأقارب، مصورًا لقطات متفرقة للأفراد الأربعة تُمكِّننا من التعرف عليهم على نحو سريع وسطحي، ليغوص بعدها في سبر مشاعرهم وحالاتهم النفسية والعاطفية، بدايةً من الأب الذي يبدو غارقًا في هموم لا تنتهي، وصولًا إلى الطفل الصغير يانغ، الذي يبدو ضائعًا بين هؤلاء الكبار.
ثمة تناغمٌ وتكاملٌ يتميز به الجيلُ البالغ في الفيلم، تناغم يتجلى في هذا التواشج بين عقل الأب وعاطفة الأم. حيث يمثِّل هذا التوازن العمودَ الفقري للعائلة، ويظهر كيف أن كلَّ جيلٍ بالغٍ له طريقته الخاصة في مواجهة الحياة، لكنها في النهاية تتكامل لتشكل البيئةَ التي ينشأ في كنفها الجيل الصغير، بل وتساعدهم على بناء شخصياتهم وتحديد طريقتهم في تشكيل حياتهم الشخصية.
فالأب «إن جي» يمثل الشخص البالغ الذي يقع عليه عبء المسؤولية، ويبذل قصارى جهده ليُوازن بين عمله وحياته الشخصية. من خلاله، نرى الصراعات اليومية التي يواجهها البالغون، وكيف يتعاملون مع الضغوطات في أعمالهم، وهم في نفس الوقت يحاولون الحفاظ على علاقاتهم بعوائلهم. تكشف شخصيته في الفيلم والمشاهد التي يظهر فيها عن التمزق الداخلي بين دوره الاجتماعي ودوره العاطفي، فعلى الرغم من أن معظم هذه المشاهد تدور إما في عمله، أو وهو جالس وحيدًا غارقًا في همومه، فإنه عندما يقابل طفليه يحاولُ دائمًا التواصلَ معهم، في محاولة منه لخلق لحظات عاطفية عميقة من خلال التقرب منهم والإنصات إلى أفكارهم.
إن استخدام يانغ للقطات الطويلة هنا لا يخدم الجانب الجمالي فقط، بل يعكس التوتر الداخلي المكبوت، والانفصال بين ما يشعر به وما يفرضه عليه الواقع. فهو ليس مجرد شخصية عادية، بل رمز للبالغ الذي يسعى لفهم ذاته في خضم التزامات الحياة.
أما الأم «مين مين» فهي النصف الآخر الروحاني والعاطفي، تمثل الصبر والتحمل والقدرة على قراءة مشاعر الأسرة. تختلف شخصيتها عن الأب، في كونها الأكثر هدوءًا وعمقًا وقدرةً على ملاحظة وفهم التفاصيل الصغيرة، لكنها تواجه أيضًا صراعات داخلية مكبوتة، تتمثل في محاولتها حماية أسرتها من الانقسامات الداخلية بما في ذلك رعاية والدتها طريحة الفراش.
ويمثّل غيابها الطويل عن المعبد البوذي، الذي كانت تقصده للتأمل، لحظةً مفصليةً في الفيلم؛ فكلما طال غيابها كلما ازدادت حضورًا في حياة العائلة. فغيابُها لا يعني انسحابها أو تخليها عنهم، بل محاولةً أخيرةً لحماية ما تبقى منها من الإنهاك العاطفي. يبيّن يانغ كيف أن العاطفة لا تتمثل دائمًا في شكل الرعاية المستمرة، بل أحيانًا تكون قرارًا بالانسحاب للحفاظ على الذات، لأن انهيار الفرد قد يؤدي إلى انهيار العائلة بأكملها. من خلال الأم، يُظهر الفيلم البُعدَ العاطفي للبالغين، وكيف يمكن للعاطفة الصامتة أن تكون قوةً محركةً داخل الأسرة، في حين يظهر الأب في حالة من السعي المستمر لفهم ذاته ورغباته في خضم التزامات الحياة.
وعلى عكس الأفلام التي حاولت مرارًا وضع مرحلتي المراهقة والطفولة في نفس الفئة، يركّز يانغ في الفيلم على إظهار التباين والتوازي بين هاتين المرحلتين، فعلى الرغم من أن الفضولَ هو ما يجمعهما، إلا أن العمقَ النفسي والعاطفي يختلف بينهما بوضوح. فالطفل يكتشف العالم عن طريق الملاحظة المباشرة والتساؤل الصادق، بينما المراهقة تبحث عن إجابات لأسئِلتها وتواجه تحديات فهم المشاعر المعقدة. هذا التباين يوضح مراحل النمو المختلفة، وكيف يتفاعل الإنسان مع العالم من حوله وفقًا لمرحَلَته العمرية.
تصوّر الابنة المراهقة «تينغ تينغ» وعي المراهقة المبكر، فهي تبدأ في إدراك مشاعرها المعقدة وما يحدث حولها من مشاكل وصعاب، بالإضافة إلى صراعها مع مشاعر الذنب والندم. كما تُظهِر تساؤلاتها حول الحب والصداقة والهوية كيف يمكن للفضول والبراءة أن يتقاطعا مع النضج المبكر، لخلق تجربة عاطفية متشابكة مع حياة أخيها رغم الفارق العمري بينهما.
أما الطفل «يانغ يانغ» فقد حمَل على عاتقه مسؤولية تمثيل البراءة والفضول المميزين لهذه المرحلة العمرية. فكل لحظة تجذب انتباهه تكون مليئة بالمعاني، وتغدو أمورٌ بسيطة مثل لعبة ما، أو كاميرا، أو محادثات عابرة بين الكبار بمثابةِ درسٍ عن الحياة والإنسانية. إن ما يجعل المشاهدَ يشعر بفُضول «يانغ يانغ» الطفولي، بل ويشاركه رؤيته البريئة للعالم، هو رصدُ لحظاته اليومية التي يعيشها بصمتٍ وهدوء، فهو لا يُحدِث الكثيرَ من الفوضى، بل يمشي شاغلًا باله بالتفكير في الحياة والحقيقة.
كان للجيل الصغير التأثيرُ الأعمقُ على العائلة، فهو لا يعيش منعزلًا أو صامتًا، بل يطرح الأسئلة ويُظهِر فضوله للبالغين، مما يجعلهم يعيدون النظر في تصرفاتهم، وهذا ما جعل معظم مشاكل العائلة تخمد وتهدأ. فسؤالٌ بسيط يطرحه طفل يملأه الفضول، قادرٌ على فتح باب الوعي والحقيقة لدى الأب والأم الناضجين.
أما الجدة الصامتة فقد كانت تمثّل الجيل الأكبر، فهي تعكس الخبرة الطويلة والوعي العميق بالحياة. لكن تأثيرها لا يظهر دائمًا بشكل مباشر، وإنما تترك أثرها على جميع الأجيال من خلال ملاحظاتها الدقيقة، ونصائحها الصامتة في النهاية. يحمل وجود الجدة رمزية الموت القريب، مما يحفز جميعَ أفراد الأسرة على خوض رحلتهم النفسية بطرقهم الخاصة. فهي كانت الدافعَ وراء إختفاء «مين مين» ومحاولتها العثور على نفسها، وكانت المحفز الأساسي وراء فضول «يانغ يانغ» في رؤيته للحقيقة والبحث عنها.
تُظهر مشاهدُ الجدة أثرها على الأجيال، وكيف يتعلَّم كل جيل من خبرتها الصامتة سواءًا بوعيٍ منهم أو بدونه. فعندما ودعها «يانغ يانغ» في النهاية معتذرًا عن تقصيره في محادثتها أثناء نومها الطويل، قائلًا:«كل الأمور التي كنت سأخبرك بها، أنتي تعرفينها مسبقًا، وإلا لما كنتي تقولين لي دائمًا أن أنصت»، كان ذلك إثباتًا للأهمية الجوهرية للجيل الأكبر، فتأثيرُه يبقى حاضرًا حتى في لحظات الصمت والموت، فكلُّ كلمةٍ تخرُج من أفواههم تُعتبر نصيحةً ذهبيةً بالنسبة للجيل الأصغر.
في النهاية، يثبت فيلم «يي يي» أن الحياة لا تتحرك في خطٍ مستقيمٍ ولا في مسار واحد، بل هي دورة مستمرة من التعلم والتأمل. لقد نجح يانغ في التقاط اللحظات الهادئة التي تشكل بناء العائلة، موضحًا أن الفضول الذي يحمله الطفل «يانغ يانغ» هو القادر على إعادة إيقاظ النضج المرهِق لدى الأب والأم، وأن الحكمة لا تكتمل إلا بالتقاء هذه الأجيال مع حتمية الموت التي تمثلها الجدة.



