«يوم العزاء الأول»: قراءة سينمائية في الحداد الأبوي

December 24, 2025

يقدم فيلم «يوم العزاء الأول»، من إخراج وكتابة نواف الحوشان، نموذجًا لافتًا من نماذج الأفلام السعودية القصيرة، من حيث مقاربته الموضوعية والجمالية لمسألة الفقد، عبر منظور أبوي يتأسس على الصمت بوصفه آلية إنكار قبل تحوله إلى مساحة اعتراف ضمني. ينطلق الفيلم من بنية سردية تركز على ما بعد الحدث، حيث يجري تجاوز تمثيل الوفاة بصريًا لصالح تفكيك أثرها النفسي والاجتماعي على البنية الأسرية، خلال أول أيام العزاء.

يعتمد الحوشان استراتيجية سردية قائمة على الحذف والاختزال، وهي تقنية تمنح النص بعدًا تأويليًا مفتوحًا، إذ يُستبدل العرض المباشر بالفعل الدرامي باستحضارِه عبر ردود فعل الشخصيات وتوتّراتها الداخلية. هذا الخيار الجمالي يضع الفيلم ضمن تقاليد السينما الواقعية الجديدة، ويُحيل بشكل خاص إلى الموجة الرومانية الجديدة، كما في أعمال كريستيان مونغيو، حيث يحتل الصمت والفراغ الدلالي موقعًا مركزيًا في إنتاج المعنى. وهي نقطة تحسب للحوشان في ابتكاره نهجًا محليًا جديدًا بعيدًا كل البعد عن الكليشيهات السردية.

تتمحور السردية حول شخصية الأب، التي يؤديها الفنان أسامة القس بأداء يتسم بالاقتصاد التعبيري والانضباط الجسدي. ينجح القس في بناء شخصية مركبة قائمة على التناقض بين السكينة الخارجية والانكسار الداخلي، ما يُتيح قراءة نفسية مُعمقة لمسار الشخصية. فالأب، في سياق حضوره داخل منزل طليقته، لا يواجه فقط طقس العزاء، بل يُجبر على إعادة النظر في علاقته بابنه المتوفى، وفي مسؤوليته الأخلاقية تجاه ما تجاهله سابقًا. يتقدم الفيلم تدريجيًا نحو كشف جوهر الصراع الدرامي المتمثل في إنكار الأب لحقيقة إدمان ابنه، بوصف هذا الإنكار آليةَ دفاعٍ نفسيٍ تحُول دون تقبل سبب الوفاة. وقد حمّل القس، من خلالها، الشخصيةَ ثقلًا كبيرًا، فالأب واجهةُ كل بيت، وعموده إن صح القول، فكيف له أن يجاوب على سؤال المعزين: «ما سبب الوفاة؟».

يشتغل النص هنا على ثيمة المسكوت عنه داخل المؤسسة الأسرية، حيث لا يُطرح الإدمان كقضية اجتماعية مباشرة، بل كأثر غائب، لكنه حاضرٌ في الوقت ذاته، يُفكك عبر السلوكيات والنظرات والانقطاعات الحوارية. 

على المستوى البنيوي، يتسم سيناريو الحوشان بتماسكٍ واضحٍ وقدرةٍ عاليةٍ على استثمار الزمن السينمائي، إذ تُملأ الفجوات الحوارية بصمتٍ دالٍ، يتحول إلى عنصر سردي فاعل لا يقل أهمية عن الكلمة المنطوقة. هذا الصمت لا يعمل بوصفه فراغًا دراميًا، بل كمساحة مشحونة بالتوتر العاطفي، تساهم في تعميق التجربة الإدراكية للمشاهد.

أما على الصعيد البصري، فيعتمد الفيلم على تكوينات كادرات ضيقة نسبيًا، ما يحد من مجال الرؤية ويُعزز الإحساس بالاحتجاز النفسي والحميمية المتطفلة. هذا الاختيار الإخراجي يخلق علاقة شبه وثائقية بين الكاميرا والشخصيات، ويُدخل المتلقي في قلب الطقس الاجتماعي للعزاء، بوصفه فضاءً يجتمع فيه الحزن والإنكار والتواطؤ الصامت. 

يكتسب «يوم العزاء الأول» أهميته من كونه لا يقدّم خطابًا وعظيًا أو معالجة مباشرة لآفة المخدرات، بل يشتغل على مستواها الإنساني والنفسي، من خلال تفكيك أثرها داخل العلاقات الأسرية. ومن خلال هذا النهج، ينجح الحوشان في تقديم عمل يتجاوز الحدث الخاص إلى طرح أسئلة عامة حول الأبوة، والمسؤولية، وحدود الصمت.

يُشكل عرض الفيلم لأول مرة ضمن مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في دورته الخامسة سياقًا مناسبًا لتلقي هذا العمل، بوصفه إضافة نوعية إلى مسار السينما السعودية المعاصرة، ودليلًا على نضج لغتها التعبيرية وقدرتها على مقاربة موضوعات حساسة بوعي جمالي وتحليل نفسي عميق. 

شخصيًا، لم يفارقني التفكير في القصة التي قدمها الحوشان على الشاشة خلال آخر أيام حضوري للمهرجان، فعلى الرغم من عدم معرفتي المسبقة بالقصة أو بتجربته الفنية، جاء «يوم العزاء الأول» كمفاجأة لافتة، تؤكد حضور صوت إخراجي واعد، وتدفع إلى ترقب ما سيقدمه من منجزات فنية مستقبلية.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى