مع اتساع ونمو صناعة الأفلام لتصبح متاحةً للجميع، يبقى نقدُ الأفلام حكرًا على نخبةٍ معينةٍ من النقاد. فالنقدُ السينمائي يتطلّب أدواتٍ دقيقة تشبه مشرط الجرّاح؛ إن أخطأ في تشريحه للفيلم أفسد مادّته النقدية، وإن بالغ في الزخرفة اللغوية أضاع جوهرها. من هذا المنطلق يأتي مؤتمر النقد السينمائي الدولي، بوصفه بوابةً جديدة لصناع الأفلام والنقاد السعوديين. بوابة تمنحُ النقدَ موقعه الطبيعي ضمن منظومة الصناعة، كأداة وعي تضمنُ توازن السوق.
تموضع المؤتمر في مشهد الصناعة السعودية
يندرجُ مؤتمر النقد السينمائي الدولي ضمن رؤية أشمل لهيئة الأفلام، رؤيةٌ تسعى إلى بناء صناعة سينمائية متكاملة. ففي السنوات الأخيرة، برزت فعاليات نوعية تمهِّد لهذه الرؤية مثل المنتدى السعودي للأفلام (Film Confex)، الذي يجمعُ المستثمرين وصنّاع الأفلام في نقاشاتٍ حول فرص التطوير والاستثمار، على عكس تموضع مؤتمر النقد السينمائي؛ إذ أنه منصة تسعى لتأسيس خطاب نقدي منظّم يواكبُ توسّع السوق، ويمنح التجربة السينمائية السعودية عمقها الثقافي اللازم.
"السينما، فن المكان".. دورةٌ تعيدُ قراءة الصورة
حمل المؤتمر في نسخته الثالثة شعار «السينما، فن المكان»، وهو شعارٌ يتجاوزُ البعد الجغرافي نحو معنى فلسفي وجمالي أوسع. فالمكانُ لم يكن يومًا خلفية للأحداث وحسب، وإنما كان بطلًا سرديًا يعبّر عن ذاكرة الإنسان وتحوّلاته الاجتماعية والنفسية. ناقشَ المؤتمر من خلال فعالياته الثرية كيف تتحوّل الجغرافيا إلى هوية، وكيف تُصاغ المدن والقرى في السينما باعتبارها انعكاسًا للإنسان ومحاولاته المستمرة لفهم نفسه. وقدّم المؤتمرُ عبر جلساته ونقاشاته نخبةً من النقّاد والأكاديميين وصنّاع الأفلام من السعودية والعالم العربي وأوروبا، ليعيدوا التفكير في سؤال المكان من منظور يتخطى شاشة السينما وعدسة الكاميرا.
كيف يكمّل المؤتمر المهرجانات
في المشهد السينمائي السعودي، لا يقف المؤتمر في مواجهة المهرجانات، إنما يكمّلها ضمن هيكلة الصناعة. فمهرجانُ البحر الأحمر السينمائي الدولي في جدة يشكّل واجهة الصناعة أمام العالم، مركزًا على العرض والإنتاج المشترك وبناء الجسور العالمية. ومهرجان أفلام السعودية في الظهران، يعنى برعاية المواهب المحلية وتوثيق التجربة الوطنية في بيئة ثقافية دافئة. أما مؤتمر النقد السينمائي الدولي فيقدّم البعد الثالث في هذا المثلث: النقد والتحليل. إنه الفضاء الذي تُناقش فيه الأعمال بعد عرضها، وتُفكك فيه القوالب السردية والجمالية، ويُمنح فيه صانع الفيلم مساحة إبداعية تعليمية. هذا التكامل يمنح السوق السينمائي السعودي منظومة متوازنة تجمع بين الإبداع والاقتصاد والمعرفة، مع تبني هذه الرؤية في أن يغدو المشهد السينمائي ناضجًا وواعيًا كذلك.
إشكالية الناقد العربي
كان لافتًا أن تُفتتح دورة هذا العام بتكريم المخرج الإيطالي ماركو بيلّوكيو، أحد أبرز رموز السينما الأوروبية الحديثة، في مشهدٍ منحَ المؤتمر بُعدًا عالميًا وثقلًا يليق بمكانته. فبيلّوكيو يحملُ إرثًا عميقًا في الصناعة، عبر أفلامه التي طالما حاورت السلطة والذاكرة والإنسان، إذ يعكسُ المؤتمر عبر استضافة بيلّوكيو انحيازه للفكر قبل البهرجة.
ولكن هذا الافتتاح – على رمزيته الجميلة – يُحيلنا إلى تساؤلٍ خفيٍّ حول "صوت الناقد العربي" في هذه المشهدِيات الدولية. فبينما تُكرَّم الأسماء الكبرى من غرب الكوكب، لا يزال المشهدُ العربي في حاجة إلى منصّات تُنصت إلى نقّاده وتمنحهم المساحة والشرعية، والأولوية، ليكونوا جزءًا من صياغة الخطاب السينمائي العالمي. ليست الإشكالية في استضافة بيلّوكيو، بل في غياب ما يُعادله عربيًا من حضورٍ نقديٍّ مؤسّس، وتحديدا في افتتاحية مؤتمرٍ دوليٍّ في سوقٍ واعد مثل سوق السينما السعودي. ولربما تُقاس "العالمية" بقدرتنا على إنتاج فكرٍ نقدي عربيٍّ يُحاوِر دون تكرار، ويُسهم في بناء صناعة مستدامة تتحدث بلغتها الخاصة بثقة ووعي.
المؤتمرُ كحدثٍ سنويٍ مستدام
يجب أن يُنظر إلى مؤتمر النقد السينمائي الدولي كمؤسسةٍ فكريةٍ تسعى إلى ترسيخ ثقافة النقد بوصفها جزءًا من الصناعة نفسها. فكما تُبنى الاستوديوهات والمعاهد والمهرجانات، تُبنى كذلك اللغة التي تفسّر الصورة وتحلل أثرها. بناءً على هذه التجلّيات يشكّل المؤتمر خطوة نادرة في العالم العربي، لأنه يربطُ بين الفن كصناعة والفكر كمسؤولية، وكلها تصب في سبيل خدمة المشهد الوطني. ومع تراكم دوراته وتعاقبها في الأعوام القادمة، يتحوّل إلى أرشيف حيّ للنقد السينمائي السعودي، يعيدُ قراءة الفيلم السعودي في سياقه الثقافي والإنساني، ويعطي المشهدَ السينمائي صوتًا آخر لا يقل أهمية عن الكاميرا: صوت الفكرة.



