حزن المنسيّين في «الأبرياء القديسون»

December 29, 2025

هناك أفلام لا تصنع حدثًا بقدر ما تصنع وعيًا بطيئًا. «الأبرياء القديسون» (1984 - Los Santos Inocentes) أحد هذه الأعمال التي لا تبحث عن ذروة ولا عن مواجهة مباشرة، وإنما تضعك أمام حياة تشكّلت داخل نظام اجتماعي مغلق، حيث تتوزع السلطة على هيئة عادات أكثر منها قوانين. يظهر الريف الإسباني في ستينيات القرن الماضي كمساحة خالية من الخيارات، فالناس يعملون، يتصرفون، يطيعون، وينامون بالطريقة نفسها. لا أحد يسأل لماذا، ولا أحد يتوقع نتيجة مختلفة.

في هذا السياق تتحرك أسرة "باكو" بصفتها نموذجًا لطبقة كاملة، لا لأنها عاجزة عن المقاومة، ولكن لأنها لم تتعلم كيف يصاغ الاعتراض أصلًا. تقوم العلاقة مع صاحب الأرض على شعور مستمر بأن الكلام ليس أداة، وأن التفكير خارج الإيقاع الموروث قد يكون خطرًا لا يعرف أحد عواقبه. لا يظهر الخضوع كقيمة أخلاقية، ولا يقدمه الفيلم بوصفه ضعفًا فرديًا. لكنه ببساطة إيقاع حياة متراكم  لسنوات طويلة، حتى صار من السهل التعامل معه كأمر مسلّم به.

الحزن الذي ينبعث من الفيلم ليس نتيجة حدث صادم، فلا أحد ينهار، ولا أحد يصرخ، ولا ينتظر المشاهد مشهدًا يفتح الباب للخلاص. الحزن موجود في مكان آخر: في العمل المتكرر، في الأجساد التي تواصل مهامها دون حوار، وفي نظرات لا تبحث عن إجابة. هناك شعور دائم بأن الحياة تجري خارج قدرة الناس على فهمها، هذا هو الحزن الحقيقي: غياب احتمال التغيير.

تظهر شخصية "آزوسينا" كعلامة على الحد الأخير للصمت. فهو ليس حاملًا لوعي سياسي، ولا يفكر في كسر النظام. كل ما يملكه هو جسد متعب من التكيف. طريقته في الوقوف، وانسحابه من المحادثات، وطريقته في النظر إلى الأشياء من دون تعليق، كلها تفاصيل تجعل انفجاره اللحظي مفهومًا. ليست بطولة، ولا خطوة إصلاحٍ، وإنما اللحظة التي يتدخل فيها الجسد حين تعجز اللغة.

يقدم المخرج ماريو كامو الريف كوثيقة. صورة الفيلم لا تستجدي تعاطف المُشاهد، ولا تستدر مشاعره باستعراض مظاهر الفقر. فالكاميرا تكتفي بتسجيل حال البيوت الواطئة فقط، والاسطبلات، ومهام تقسيم العمل، والامتيازات الصغيرة التي تُمنح لفئة وتُحجب عن أخرى. إن كل شيء هنا يتحرك ضمن نظام ثابت لا يتغير، حيث المكان هنا أهم من الحوار، وطريقة السير في الحقل أهم من الجملة الكاملة.

يعدّ الجسد بكل ما يحمله من إيماءات عنصرًا مهمًا بحد ذاته ضمن أحداث الفيلم، وهو أهم من الحوارات نفسها ومن الخطاب، إذ تكفي انحناءة بسيطة، خطوة بطيئة، أو انسحاب من الجلسة لبناء علاقة كاملة بين السلطة والخاضعين لها. لذلك جاء تتويج كل من الممثلين الفريدو لاندا، وفرانسيسكو رابال معًا بجائزة أفضل ممثل نتيجة لاستخدام أدائِهما كأداة للتحليل.  ولم يكن وجود الفيلم في مهرجان «كان» عام 1984 عرضًا طارئًا، فقد ترشّح للسعفة الذهبية لاكتفائه بالمراقبة، فهو لم يطلب من المتلقي التعاطفَ، بل طلب منه أن يمعن في النظر.

بعد المشاهدة، لا تُفتح أمام المُشاهد أبواب الأسئلة الكبرى المعتادة عن الثورة أو العدالة، بل يبقى سؤال واحد مطروح: كيف يتحوّل الظلم إلى ممارسة مألوفة؟ وكيف يصبح الصمت طريقة للحفاظ على الحياة؟ لا لأن الناس راضون، بل لأن الجهد المطلوب لتغيير نمط واقعهم أكبر من طاقتهم اليومية ومن إمكانياتهم.

ما بقي لدي بعد الفيلم لم يكن السؤال عن نهاية القصة، بل عن كل اللحظات التي سبقتها؛ تلك الأيام التي عاشها الناس وهم يساومون أنفسهم على ما تبقى من كرامتهم. أدركت حينها أن الحزن هنا ليس حدثًا دراميًا، بل نتيجة للاعتياد، حين يصبح الظلم مألوفًا وحدثا يوميًا، وحين يتقبل الإنسان واقعه لأنه لم يعد يعرف شكل الحياة خارجه. لا يزول مثل هذا الأثر سريعًا، ولهذا يبقى الفيلم حاضرًا في الذهن؛ لأنه يذكّرني بأن الصمت ليس حيادًا، بل علامة  على إرهاق طويل.

لهذا يبقى «الأبرياء القديسون» حاضرًا في الذاكرة، ليس لضخامة حجمه الدرامي، لكن لدقته في الملاحظة. فهو لا يصنع شعارات، ولا يعد بالخلاص، بل يتعمد ترك المتفرج أمام سؤال لا يسهل التخلص منه: ما الذي يجعل الظلم قابلًا للعيش؟ إذ يكفي أن يطرح هذا السؤال، ليظلَّ أثر الفيلم ممتدًا بعد نهايته.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى