السينما والعمارة في العالم العربي: المدينة كذاكرة وكائن حي ومرآة للتحولات الاجتماعية والسياسية

November 13, 2025

تمثّل العلاقة بين المدينة والسينما في العالم العربي محورًا ثريًا لفهم تحوّلات المجتمع والعمران خلال القرن العشرين وحتى اليوم. فالمدينة ليست مجرّد خلفية صامتة تدور عليها الأحداث؛ بل تتحول على الشاشة إلى ذاكرة بصرية حيّة وشخصية فاعلة تسهم في تشكيل مصائر الأبطال. ولعلّه لم تستطع أي وسيلة فنية التقاط نبض المدينة وتجربة الحداثة الحضرية كما فعلت السينما.  فاللقطة السينمائية، بما تحمله من تعقيد بصري وسمعي، منحَت المدن حياةً ثانيةً وجعلتها سجلاً حيًا للتحولات التاريخية. 

تعمّقت نظرة المخرجين العرب إلى المدينة بمرور الوقت وذلك بوصفها أرشيفًا بصريًا يحفظُ ذاكرةَ المجتمع ويقاوم النسيان. استخدمت القاهرة وبيروت ودمشق في العقود الأولى من القرن العشرين كمجرّد خلفيات جميلة تُضفي طابعًا حداثيًا على الأفلام دون دور جوهري في الحكاية. على سبيل المثال، تبدو القاهرة في فيلم  «بابا أمين» (1950) مجرد لقطات استعراضية لكورنيش النيل ومَباني وسط البلد ذات الطراز الأوروبي؛ كان الهدف إظهار مظاهر التحضّر والرفاه دون التعمق في علاقة المدينة بالشخصيات. تأثّر هذا التمثيل المبسط للمدينة بالسينما الهوليوودية آنذاك التي ركزت على الديكور والمشاهد البانورامية. لكن سينقلب المشهد مع بزوغ موجة الواقعية الجديدة في الخمسينيات والستينيات، إذ بدأ حينها صناع الأفلام ينظرون إلى المدينة كمرآة للبُنى الاجتماعية وفضاء للصراعات والتحولات. قدم يوسف شاهين في فيلمه  «باب الحديد» (1958) محطة القطارات في القاهرة كمُكثّف اجتماعي يجمع الريف بالمدينة، والغني بالفقير، والحلم بالخيبة، فصارت المحطة عالمًا صغيرًا يعكسُ تناقضات المجتمع وقتها. 

أصبحت المدينة مع هذه النقلة أرشيفًا نابضًا للذاكرة الجمعية، لم تعد المدينة مجرد ديكور أو مرآة محايدة، بل غدت شخصية تتذكر وتسجّل تاريخها على الشاشة. جسّد صلاح أبو سيف ذلك بوضوح في فيلم  «الأسطى حسن» (1952) الذي صوّر جُغرافيَا القاهرة كذاكرة طبقية حيّة، فحي بولاق الشعبي الفقير يُجاور حي الزمالك الأرستقراطي ولا يفصلهما سوى جسر قصير، لكن هذا الفاصل المكاني البسيط يختزن فروقًا طبقية هائلة ويروي حكاية التفاوت الاجتماعي في قلب المدينة. وبالمثل استخدم مروان حامد في  «عمارة يعقوبيان» (2006) بناية تاريخية في وسط القاهرة كرمز بصري لمصر الحديثة وتحولاتها. اجتمعت تحت سقف تلك العمارة كل طبقات المجتمع؛ يتتبع الفيلم مصيرَ المبنى منذ تشييده في عهد الملكية ثم تحوّل سطحه إلى مساكن عشوائية بعد ثورة 1952. هكذا أصبحت العمارة ناطقة بلسان التحولات السياسية والاجتماعية المتعاقبة.  ستصبح هذه الواجهة المزخرفة بطراز أوروبي شاهدةً على أفول الطبقة الأرستقراطية وصعود طبقات جديدة، بينما غدا السطح حيًّا مزدحمًا يُعبّر عن موجات التهميش بعد عقودٍ من المدّ السكاني. تحولت العمارة إلى وثيقة بصرية ترصد توسع المدينة وازدياد فقرائها، بل وأكثر من ذلك سجلاً عمرانيًا لانهيار وعود الدولة الحديثة.

على نحو موازٍ، قدّمت السينما السورية المدينةَ بوصفها ذاكرة وطنية حيّة تشهد على تقلبات التاريخ. تظهر دمشق  في فيلم «أحلام المدينة» (1984) للمخرج محمد ملص كشخصية تتذكر حقبة الخمسينيات في سوريا بكل ما حملته من تحولات سياسية واجتماعية. يوثّق الفيلم انتقال أسرة من الريف إلى دمشق بعد الاستقلال، مصورًا تفاصيلَ الحياة اليومية في الأزقة الدمشقية القديمة بالتوازي مع أحداث مفصلية كقيام وحدة سوريا ومصر عام 1958 ثم الانفصال بعدها بسنوات قليلة. تبدو المدينة هنا خزّانًا للذاكرة الجماعية؛ فالشخصيات تتأثر بتقلّبات الزمن والسياسة، بينما تشهد وتروي الأزقة والحارات العتيقة قصةَ تلك الحقبة المضطربة من تاريخ البلاد. وعلى المنوال نفسه، تحضرُ بيروت في السينما اللبنانية كشاهدٍ على الحرب الأهلية وما بعدها. فجدران مبانيها المثقوبة برصاص الحرب تروي ذاكرةَ صراعٍ طويل. نرى بيروت النابضة بالحياة والانفتاح في فيلم «بيروت يا بيروت» (1975) لمارون بغدادي قبيل اندلاع الحرب، ثم نراها مجددًا في أفلام الثمانينيات والتسعينيات مدينةً مقسّمة ومدمرة تطبعها آثار الحرب الأهلية. يمكن الإدعاء بعد ذلك بأن السينما قد أظهرت في مفاصل كثيرة أن للمدينة ذاكرة قد تفوق ذاكرة أبنائها أحيانًا؛ فهي توثّق انتصاراتهم وانكساراتهم جيلاً بعد جيل وتحفظها في الوجدان البصري المشترك.

مع دخول القرن الحادي والعشرين، بات بعض المخرجين يتعاملون مع المدينة بوصفها أرشيفًا مهددًا بالضياع، يستحضرون الكاميرا لتوثيقه قبل أن يَبتلعه النسيان. نرى ذلك في فيلم  «آخر أيام المدينة» (2016) لتامر السعيد، الذي يأتي أشبه بتأبينٍ بصريٍّ استباقي للقاهرة قبيل ثورة يناير 2011. يصوّر الفيلم شوارعَ وسط البلد وساحات القاهرة بحنين وخوف معًا، كأنما يوثق كائنًا على وشك الاختفاء تحت وطأة التغيير. وبالمثل يُبرز عمرو سلامة في فيلم  «سمعتك بتحب الجاز» (2022) مدينة الإسكندرية كنص ثقافي متعدد الطبقات الزمنية؛ حيث تحمل المقاهي ودور السينما القديمة والعمارات العتيقة بين زواياها ذكريات زمن كوزموبوليتاني مزدهر تلاه التدهور. غدت  المدينة الحديثة على الشاشة العربية ذاكرةً شخصيةً وجمعية في آن، تختزنُ في عمرانها طبقات زمنية تتراكم عبر العقود، و تغدو الكاميرا أداة لحفظ تفاصيل المكان الآيلة للاندثار، وتحويل المشاهد العمرانية إلى سجل حيّ لتحولات المجتمع وهمومه عبر الزمن.

المدينة كشخصية حية تتنفس وتؤثر:

تجاوزت النظرة الفنية للسينما العربية المدينةَ بوصفها مجرد مسرح للأحداث، إلى النظر إليها ككائن حي، وكشخصية رئيسية لها تاريخ وصراعات داخلية تترك أثرًا عميقًا على مسار الشخصيات. يعني هذا التحول في الرؤية أن المدينة نفسها "تتنفس الدراما"، فهي ليست كيانًا سلبيًا، بل مصدر للتوتر أو السكينة أو الصراع وفق إيقاع حياتها المتغيّر. نرى على الشاشة المدينة وقد اكتسبت صفات إنسانية فهي تملك نبضها الخاص (قد يكون صاخبًا فوضويًا أو بطيئًا هادئًا)، ولها ذاكرة وجروح (معالم شاهدة على الحروب أو التحولات العنيفة)، بل ولها مزاج متقلّب يظهر في ألوانها وأصواتها وإيقاع حركتها بين الفصول والليل والنهار.

يبرزُ إزاء هذا الحضور الحيوي للمدينة، سؤالٌ مركزي: كيف تترك المدينة أثرها على مصائر الشخصيات دراميًا؟ يمكن القول أن هذه التأثيرات تظهر في أنماط متعددة. تشكّل المدينة أحيانًا أسلوب حياة البطل وتحدد وتيرة عيشه مباشرة. على سبيل المثال، ينبض يوم الشاب في فيلم «ميكروفون»  (2010) بإيقاع الإسكندرية السريع الفوضوي، وترسم ملامح طموحاته وهويته الفنية. وعلى نحو أشد درامية، نجد أن المدينة المقسَّمة بالصراع تصنع هوية أبطالها وقدرهم، كما في فيلم  «بيروت الغربية» (1998) لزياد دويري، حيث تتحول بيروت إبان الحرب الأهلية إلى عالم مغلق يطبع حياة المراهقين في الفيلم. فحواجز المتاريس والقناصة وخراب الشوارع ليست مجرد خلفية، بل عناصر تدخل في تكوين هوية شخصيات القصة وخياراتهم المصيرية. إن انقسام المدينة هنا يُنتج انقسامًا في وجدان أهلها، فيصبح اغتراب الفرد وقلقه انعكاسًا مباشرًا لجغرافيا المدينة المتصدعة.

في المقابل، يحاول بعض الأبطال مقاومة تأثير المدينة عليهم، لكنهم غالبًا ما يُهزمون في النهاية أمام سطوة حضورها. يتجلّى ذلك في شخصية الشيخ حسني في فيلم «الكيت كات»  (1991) للمخرج داود عبد السيد؛ حيث يحاولُ الشيخ حسني رغم فقدانه بصره  في حارة إمبابة الفقيرة الاحتفاظَ بروحه المرحة ونقاء سريرته وعدم الانجرار لفساد وسطه. بيد أن القاهرة الشعبية بصخبها وضغوطها تُحاصره من كل جانب وتدفعه لمواجهة حقائق مريرة، فيضطر في النهاية للتأقلم مع واقعه الصعب وإن على حساب بعض أحلامه. وعلى الجانب الآخر، هناك شخصيات تتأقلم مع المدينة وتحاول النجاة فيها، لكن ثمن التأقلم يكون فقدان جزء من براءتها أو مبادئها. يتضح ذلك في نماذج عدة أبرزها شخصيات فيلم «عمارة يعقوبيان»، حين اضطر كل سكان هذا البناء إلى التعايش مع منطق المدينة القاسي. يُدفع الشاب الفقير نحو التطرف بعدما سدّت في وجهه سبل العيش الكريم، ويصطدم الصحفي النزيه بفساد المؤسسة فيخسر مثاليته، ويغوص رجل الأعمال المتنفذ في صفقات مشبوهة حفاظًا على مصالحه. نرى تأقلم الجميع مع قوانين مدينة القاهرة، لكن هذا التأقلم جاء مصحوبًا بتنازلات أخلاقية وخسارةٍ لجزءٍ من الأحلام.

في سياق آخر برع بعض المخرجين في تحويلِ المكان إلى بطلٍ مشاركٍ يلهثُ ويتنفّس جنبًا إلى جنب مع أبطاله. يبرز هنا بجلاء اسم  محمد خان، الذي عُرفت أفلامه بذاكرتها البصرية القوية وقدرتها على التقاط روح الأماكن. لقد عامل خان أحياء القاهرة وشوارعها كشخصياتٍ حقيقية ملازمةٍ لأبطاله. حيث تصبح برودة جو المدينة الساحلية وعتمة بحرها في فيلمه  «موعد على العشاء» (1981) والذي تدور أحداثه في الإسكندرية، معادلًا موضوعيًا لبرودِ العلاقة بين الزوجين بطلي الفيلم. تعكسُ مشاهدُ البحر الشتوي الكئيب فتورَ المشاعر وجمودَ الحياة الزوجية. وعلى النقيض، نجد اللقطات الخارجية المفتوحة في أحياء القاهرة الشعبية المزدحمة في فيلميه  «أحلام هند وكاميليا» (1988) و«فارس المدينة» (1993) وهي تعبر عن توق الشخصيات إلى الانطلاق والحرية بعيدًا عن ضيق الحال. تضيق الأزقة على أبطاله عندما تشتد أزمتهم، وتنفتحُ الساحات ويتسع الأفق حين يلوحُ بصيص أمل في الخروج من المأزق. هكذا تُصبح المدينة في سينما خان كائنًا حيًا يتنفس مع الشخصيات؛ تضيقُ وتخنقُهم حين يشتد الصراع، وتمنحهم نسائمَ الفرَج حين يلوح مَخرجٌ من الضيق.

ولعل فيلم «البحث عن سيد مرزوق» (1990) لداوود عبد السيد هو ذروة تصوير المدينة كشخصية درامية. يهيمُ البطلُ في هذا الفيلم خلال ليلة سريالية غريبة عبر شوارع القاهرة بحثًا عن رجل غامض يدعى سيد مرزوق. تكشفُ تلك الرحلة الليلية للمتفرج وجهين متناقضين للمدينة، فهي تارةً فاتنة مغرية تغوي البطل بلذة الاكتشاف، وتارةً أخرى مخيفة موحشة أشبه بوحش متعدد الرؤوس يبتلع أبناءه في الظلام. يصبح سيد مرزوق ذاتُه رمزًا للقاهرة بكل تناقضاتها وإغراءاتها ومخاطرها.

العمارة كلغةٍ بصريةٍ للصراع والتحول

 إذا كانت المدينة في السينما ذاكرةً حية وبطلاً دراميًا، فإن عمارتها هي لغة بصرية صامتة تنطق بالصراعات الطبقية والسياسية الكامنة. والعمارة ليست مجرد بناء صامت، بل هي واحدة من أهم العناصر الثقافية التي تعكسُ النموذجَ الحضاري للمجتمع وظروفه التاريخية. يشيرُ ابن خلدون في مقدمته إلى أن «قراءة السلوك البشري المعماري هي أفضل وسيلة لفهم تاريخ المجتمع»، بمعنى أن تأمل المباني وتصاميمها وأنماطها كفيل بأن يكشف لنا نماذج الثقافة السائدة والتأثيرات الخارجية التي مرّت على المجتمع. فالتراث المعماري أشبه بسجل مرئي حيّ لتاريخ الحضارة وتحولاتها. تعاملت السينما انطلاقًا من ذلك مع العمارة بوصفها نصًا بصريًا يحملُ دلالات تتجاوز وظيفته الشكلية، فارتفاعُ المبنى أو طرازه أو حالته الإنشائية ليست تفاصيل محايدة، بل علامات تشير إلى مستوى الثروة والسلطة أو درجة التحولات الاجتماعية والسياسية في زمن معين.

تتجلى هذه القراءة البصرية للعمارة في أمثلة عديدة على الشاشة العربية جعلت من الجدران والأزقة أبطالًا ناطقة تحكي تاريخ الناس والمكان. في القاهرة مثلاً، كثيرًا ما تُوظَّف المباني التراثية أو الاستعمارية في قراءة التحولات السياسية والاجتماعية. نعاود الحديث هنا عن «عمارة يعقوبيان» التي أصبحت مرآة للتحول الطبقي في مصر خلال نصف قرن. حلّت البرجوازية الجديدة طوابقها العليا مكان الباشوات التي سكنوها زمن الملكية، ومن ثم الفقراء فوق السطح بعد الثورة، فتحولت شرائح السكان تحت سقفٍ معماري واحد على مر العقود. تروي هذه الطبقات البشرية المتفاوتة سيرة التحول الاجتماعي من النظام الملكي إلى الاشتراكي ثم النيوليبرالي؛ أي أن الجدار الواحد حمل ذاكرة صراع طبقي ممتدّ عبر التاريخ الحديث. 

وفي بيروت ما بعد الحرب، حملت العمارة الحديثة رسائل سياسية مضمرة. فالأبراج الزجاجية والفنادق الفخمة المطلة على البحر كما ظهرت في فيلم «كراميل»  (2007) تخفي خلف بريقها جروح المدينة القديمة، وتبدو واجهاتها اللامعة أشبه بمكياج على وجه مصاب؛ فهي تستر ولا تمحو آثار الرصاص والشظايا على المباني الحجرية العتيقة التي ما زالت شاهدة على سنوات الحرب. يتحول هذا التناقض بين الخارج البرّاق والداخل المأزوم إلى رسالة بصرية عن محاولات طمس الذاكرة الجماعية تحت ستار الحداثة البراقة.

بدورها مثلت العمارة التقليدية في بعض المدن العربية هي الأخرى عنصرًا دراميًا يرمز للمقاومة حينًا وللمعضِلة الاجتماعية حينًا آخر. يظهر البيت الدمشقي القديم – بباحته الداخلية ونوافيره وغُرفه الموزعة حول الفناء -  في فيلم «أحلام المدينة» كسجن اجتماعي جميل المظهر لكنه صارم القواعد. فهذه البيوت المسوّرة التي تنغلقُ نوافذها على الأزقة وتعلي حيطانها للحفاظ على خصوصية سكانها، تحفظ التقاليد لكنها تفرض رقابة المجتمع بقوة على الفرد، خاصة المرأة. تتحول تلك الجدران السميكة إلى سجل للقهر الاجتماعي؛ فالحياة تدور خلفها في إطار من التراتبية الأبوية، ما يجعل حيطان المنازل تنطق بما يدور خلف الأبواب من صراعات بين الأجيال. 

في السينما التونسية، قدّم نوري بوزيد في فيلم «رجل الرماد» (1986) صورة كابوسية للمدينة العتيقة، فصورها كمتاهة تحاصر البطل. حيث جعلت الأزقة الضيقة المتشابكة والبيوت الصمّاء المتلاصقة الخروجَ من الحارة القديمة مهمةً شبه مستحيلة. بدا الحيّ العتيق كأنه سجن اجتماعي يُعيق شخصية الفيلم عن تحقيق حريتها وأحلامها. هنا ومن هذا الجانب الجزئي لا تبدو العمارة التقليدية شاعرية أو نوستالجية، بل كابوسية مرعبة تعكس واقعًا خانقًا من التقاليد الصارمة والرقابة الاجتماعية.

في الخليج، مثّلت الأفلام الحديثة ساحةً لتأمل العلاقة بين الحداثة والعزلة. جعل فيلم «وجدة» (2012) لهيفاء المنصور من شوارع الرياض رمزًا لمساحة الحلم الممكن داخل بيئة تتبدّل عمرانيًا بسرعة مذهلة. تفرض البنايات الجديدة والجدران العالية حضورها في الصورة، لكنها تشكل أيضًا خلفيةً لرحلة بطلةٍ صغيرةٍ تبحثُ عن ذاتها في مدينة تخطو بثقة نحو المستقبل. أما في فيلم «المرشحة المثالية» (2019) فيبدو المشهد العمراني في السعودية كمرآة للتغيير الاجتماعي، حيث تمتزج واجهات المؤسسات الحديثة مع الإحساس المستمر بأن المدينة ما زالت تتعلم لغة جديدة للحرية. لا تكون الحداثة هنا مجرد زينة بصرية، بل جزء من صراع الإنسان مع بنيته الثقافية.

تذهب السينما الإماراتية في اتجاه آخر، كما في فيلم «شباب شياب» (2018) لعلي مصطفى، حيث تتحول دبي، بكل ما فيها من بريق ناطحات السحاب، إلى خلفية ساخرة لأزمة جيلٍ يبحث عن معنى في مدينة فائقة الحداثة. يصبح الفضاء الزجاجي، رغم جماله، أداة للكشف عن هشاشة الإنسان الحديث وسط عالمٍ سريع التحوّل. يظهر المشهد ذاته بشكل أكثر شاعرية في «طيران إلى الوطن» (2023) الذي يصوّر الرحلة بين مطارات الخليج كرحلةٍ رمزية بين مدن متشابهة في الشكل لكنها مختلفة في الذاكرة.

لا تتعامل السينما مع العمارة في كل هذه التجارب كمشهدٍ ثابت، بل كوثيقة زمنية. فبين البيت الدمشقي التقليدي والمبنى الزجاجي في الخليج تمتد خيوط سردٍ واحدة؛ المكان العربي يعيش تحوّله الأكبر منذ قرن، والسينما تسجله بعينٍ ناقدة وحسٍ إنساني في آنٍ واحد.

هكذا نجد أن حكاية المدينة في السينما العربية هي في النهاية حكاية أمة بأكملها في مواجهة أسئلة الحداثة والهوية. لقد قرأت السينما تحولات المجتمعات العربية من خلال عمران مدنها: من الحارة التقليدية التي كانت رمزًا للتكافل والألفة الشعبية، إلى العمارة الشاهقة التي أصبحت رمز الاغتراب والفجوة الطبقية؛ ومن الأسواق القديمة التي مثّلت روح الاقتصاد الأهلي، إلى المولات الزجاجية التي جسّدت هيمنة الاستهلاك المعولم. في هذا السياق، تحولت الحارة على الشاشة إلى أيقونة للماضي المتماسك، بينما أصبحت العمارة الحديثة  رمزًا للحاضر المفكّك والتراتبية الاجتماعية القاسية. يكفي أن نُقارن دفء العلاقات في حارة فيلم قديم مثل «شارع الحب» (1958)، مع البرود والعزلة بين سكان عمارة ضخمة في فيلم معاصر مثل  «عمارة يعقوبيان» لندرك كيف تكشف السينما ذلك الانتقال من مجتمع جماعي متضامن إلى آخر هرمي يعاني تناقضات صارخة.

تكشف قراءة المدينة العربية على الشاشة عن بناءٍ ثلاثي الأبعاد، يتكاملُ فيه التاريخي والاجتماعي والجمالي. السينما هنا ليست ترفًا فنّيًا، بل أداة معرفية من طراز فريد تمزج بين التوثيق والشاعرية لفهم تطورات العمران والمجتمع. تُلغي الحواجز بين الواقعي والمتخيل، وتدعونا لتأمل المكان كمرآة لأنفسنا. 

لقد فرضَ المكان بصفته بطلاً دراميًا على النقد تجاوزَ الشكلِ الفني إلى قراءةِ النسيج العمراني كمؤشرٍ على أحوال المجتمع. وفي خضم البحث عن الهوية وسطَ حالة الحداثة العاصفة، تذكرنا السينما بأن مُدننا ليست مجرد إسمنت وحجارة، بل كائنات ثقافية نابضة تحمل ذاكرة الأمة وروحها، وأن الحفاظ على روح المدينة هو في جوهره حفاظٌ على ذاتنا الجمعية وهويتنا في مواجهة أسئلة الزمن.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى