اتخذ مؤتمر النقد السينمائي الدولي في نسخته الثالثة، والذي عُقد في الرياض، شعارًا لافتًا هو: "السينما... فنّ المكان"، مسلطًا الضوء على مركزية المكان في التجربة السينمائية. فلم يعد المكان مجرد خلفية للأحداث، بل تحوّل إلى كيان حي ينبض بالتاريخ والذاكرة والمشاعر. وبهذا المعنى، يمكن النظر إلى المخرج أو الكاتب بوصفه جغرافيًّا خفيًّا، يرسم تضاريسَ المكان المغلق أو الفضاء المفتوح بكثافة حسية لا تُشعِرنا بغياب الحبكة، أو تجعلنا واعين بذلك الغياب دون أن نكترث له، لأن توتّر المكان وطاقته الرمزية يشكّلان لبّ المعنى.
يتجلّى هذا المنظور بوضوح في سينما شانتال أكرمان، التي جعلت من المكان الضيق، كالمطبخ أو غرفة النوم أو الممر الطويل، بؤرةً سردية مشحونة بالانفعال والانكسار والروتين. فالعدسة الساكنة التي تراقب التفاصيل اليومية، من غسل الصحون إلى ترتيب السرير وانتظار الهاتف، تكثّف الزمن وتمنح الفضاء وزنًا وجوديًا خانقًا، بل تتعدى الصورةُ السردَ لتصبح تسجيلًا وجوديًا لانفعالٍ خفيّ.
في عرضه التقديمي "الفضاء المنزلي في السينما السعودية"، ميّز الأستاذ علي المجنوني بدقة بين مفهومي "المكان" و"الفضاء"، مبيّنًا أن الأول ثابت وجامد، يحدده تموضع العناصر وتنظيمها، بينما الثاني حيويّ، يُنتَج من خلال الحركة والفعل والممارسة اليومية، كالمشي، والطبخ، والقراءة، وبناء العلاقات. ومن ثم، فإن الفضاء أكثر ديناميكية وتغيّرًا، ويكتسب معناه من التجربة. هذه التفرقة، بحسب المجنوني، ضرورية للناقد حين يصف المشهد السينمائي، إذ تستوجب منه انتقاء المفردة الأنسب لتوصيف التجربة.
استدعى المجنوني في هذا السياق تأملات عدد من المفكرين الذين أسهموا في تشكيل مفهوم الفضاء بوصفه أداة سردية ومعرفية. فقد رأى ميشيل فوكو، في محاضرته "عن الفضاءات الأخرى" (1967)، أن القرن العشرين لم يعد عصر الزمن، بل عصر الفضاء، إذ لم يعد يُنظر إلى المكان كخلفية محايدة، بل كشبكة من العلاقات والسلطة والهويات. في المقابل، قدّم أونري لوفيفر في كتابه "إنتاج الفضاء" (1974) تصورًا ثلاثيًا يؤكد أن الفضاء لا يُعطى بل يُنتَج اجتماعيًا من خلال التفاعل بين ما يُمارَس في الحياة اليومية، وما يُخطَّط له، وما يُعاش في التجربة الحسية. أما ميشيل دو سيرتو، فقد أشار في "ممارسة الحياة اليومية" (1980) إلى أن الفضاء يُنتَج بفعل الحركات البسيطة التي يؤديها الأفراد، كالمشي والطهو والقراءة، مما يعني أنه كيان متحوّل لا ينفصل عن التجربة الفردية. في ضوء هذه الأطروحات، ينزاح مفهوم الفضاء عن كونه شكلًا جيومتريًا أو ماديًا صرفًا، ويتحول إلى حقل يتداخل فيه النفسي والاجتماعي والثقافي، ويُعاد إنتاجه عبر الممارسة والخطاب.
في مداخلته، لفتَ المجنوني نظرنا أيضًا إلى الفضاء بوصفه أداةً سرديةً فاعلة تؤثر في بنية الشخصيات والأحداث والانفعالات، وترتبط عضويًا بتكوين الصراعات وتوليد القرارات. واستشهد في ذلك بقولٍ للمخرج والناقد الفرنسي إيريك رومير بأن الفضاء السينمائي هو ذلك الفضاء الذهني الذي يُركّبه المشاهد داخل وعيه أثناء مشاهدة الفيلم، وهو ما يعيد الاعتبار لتجربة التلقي باعتبارها عمليةَ خلقٍ موازية.
وفي القسم الثاني من عرضه، تناول المجنوني رمزية المنزل بوصفه فضاءً سرديًا تتشكل داخله علاقات إنسانية وانفعالات نفسية معقدة. وقد ركز في هذا الجانب على السينما السعودية، مستشهدًا بفيلم «أربعون عامًا وليلة»، الذي يشكّل مثالًا حيًا على تفعيل الفضاء المنزلي داخل السرد السينمائي. إذ تدور معظم أحداث الفيلم داخل جدران منزل عائلي، لا بوصفه خلفية محايدة، بل كعامل سردي يحرّك الصراع ويحتضن التوترات بين الشخصيات. في هذا الفيلم، يُقدَّم المنزل كمساحة ثقيلة مشبعة بالتاريخ الأسري، تُترجِم فيه الجدران صمتًا قديمًا وتصدّعات متوارثة.
أجدني، ككاتبة لهذا المقال، أستحضر مقولة للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، لطالما كانت ملهمة لي في تأملاتي حول البيت: "البيت هو ركننا في العالم"، أو "كوننا الأول". فالمنزل ليس مجرد مأوى أو مسرح للأحداث، بل هو الكيانُ الأول الذي يتكوّن فيه وعينا، وتحمل جدرانه تفاصيل انفعالاتنا الأولى ومخاوفنا ومواساتنا. في هذا السياق، لا يكون الفضاء المنزلي عنصرًا بصريًا فحسب، بل هو مرآة حميمة للانتماء والذاكرة والهوية.
هذا الاستدعاء يعيدنا من جديد إلى أكرمان، التي لم تصور المكان بقدر ما أنطَقته. أفلامها تكرّس للفضاء الصغير قوةً رمزيةً لا تقل عن اتساع الصحراء أو المدن المترامية. غرفة نومها تنبض بصدى الوحدة، ومطبخها يفيض بالروتين حتى الغثيان، ولكن عبر عدستها الثابتة، يتحول كل ذلك إلى لغة بديلة، تتكلم عن الغياب، والرغبة، والانكسار، والانتظار.
إن مقاربةَ الفضاء بوصفه منتجًا ثقافيًا واجتماعيًا، كما يدعو إليه علي المجنوني، وانعكاس هذا الفهم في تجارب سينمائية كأعمالِ شانتال أكرمان أو فيلم «أربعون عامًا وليلة»، يكشف عن تحوّلٍ في كيفية تمثيل المكان في السينما المعاصرة. لم يعد البيتُ ديكورا فحسب، ولا المدينةُ مجرّد خلفية، بل أصبح كلاهما شخصيتين سرديتين تحملان توترات وصراعات وهوية. في السينما السعودية، التي ما تزال في طور بلورة لغتها البصرية الخاصة، يبدو التركيز على الفضاء المنزلي خطوةً نقديةً مهمة لفهم الذات والعلاقة بالمكان، ولإنتاج حكايات تنبع من الداخل، من الحجرات التي تشهد علينا ونحن نُكوِّن أنفسنا، ونتهشّم بصمت بين جدرانها.



