مؤتمر النقد السينمائي الدولي: نحو بناءِ أطلسٍ سينمائيٍّ نقديّ

November 7, 2025

منذ عصر النهضة وجّه الفن اهتمامه نحو "المكان" بوصفه مصدر الإلهام الأبرز، وكانت اللوحة الفنية هي المهدَ الأول لنظرة الفنان المُتأمّلة والمُستغرقة في أبعادِ المكان ومكوّناته على اتساعها، من المناظر الطبيعية وصولًا إلى المساحات العمرانية. ولم تكتف الفنونُ بالتقاط صورةٍ مجرّدةٍ للمكان، بل حوَّلته إلى صفحةٍ يقرأُ فيها الفنان ذاته ووجدانه، فيصبح في النهاية انعكاسًا للمكان وامتدادًا له.

ومع تطوّر السينما، تزايدَ اهتمامُ النقَّاد وصناع السينما بالمكان بعد أن أدركوا حجمَ الإمكانيات الجمالية التي يحُوزها، ومثل أجدادهم من المنظّرين والرواد الأوائل في الفن التشكيلي، وجدوا طريقتهم الخاصة في إلقاء الضوء عليه واستكشاف أبعاده، وحوّلوه إلى فضاءٍ أشبه بأستوديو أو ورشة فنية هائلة يمكن للمرء أن يُسقطَ فيها ذاته كيفما شاء، ويُؤطّرها مفاهيميًا تأطيرًا يجعل المكانَ متعدّد المعنى. وقد ظلَّ المكانُ عبر الزمن يفرضُ على الفنان عددًا من التحديات، انطلاقًا من وُعورة المكان نفسه والتعقيدات التي قد ينطوي عليها، وصولًا إلى صعوبة تأطير المكان في مشهدٍ سينمائي، يتسم بالعمق ويتجاوز سطحية التمثيل، حيث يتجاور فيه المكان مع الفكرة والمعنى. 

 

في دورته الثالثة، جاء مؤتمر النقد السينمائي محمّلًا بزخمٍ جديد، وهذه المرة من بوابة "فن المكان" وجمالياته وقدرته على إحداث أثرٍ فني كبير قادر على إعادة هيكلة وتوجيه السرد والحكاية. وقد أعلنت "هيئة الأفلام" عن إطلاق الدورة الثالثة من مؤتمر النقد السينمائي الدولي في محطته الأخيرة "الرياض"، خلال الفترة من 7 إلى 9 نوفمبر 2025م تحت شعار "السينما.. فن المكان"، في قصر الثقافة بحي السفارات. فبعد أن جابَ مدنًا زاخرةً بخصوصيتها الجغرافية وغنى مناظرها الطبيعية، ها هو يحط الرحال في مدينة الرياض، التي تجمع بين التراث والعصرنة، ليواصل رحلته في تعزيز الحوار السينمائي في المملكة. 

المكان في السينما الإيطالية 

تقلّد المكانُ في السينما الإيطالية موقعًا هامًا. فقد تمتَّعت المدينةُ الإيطالية، قديمةً كانت أم حديثة، بجاذبية تصويرية هائلة، وإمكانيات فنية جعلتها موتيفًا ساحرًا لا يغيب عن أفلام الواقعية الإيطالية الجديدة. وبعكس المدن الأوروبية الأخرى، ظلَّت المدنُ الإيطالية مساحةً تلتقي فيها الحداثة مع تيار ما بعد الحداثة، في فضاء زاخرٍ أتاحَ لرواد الواقعية الجديدة تأطيرَ جمالياتها عبر عدسةٍ فنيةٍ وثَّقت تدفُّق الحياة في شوارع إيطاليا ببراعة آسرة، راصدةً هذه العلاقة الحيوية بين الإنسان والمدينة والريف. 

وحين كانت التحولات الكبيرة تتعاقب على إيطاليا، صار الشارعُ صفحةً ممتدةً يُكتب عليها التاريخ. فأدرك المخرجون أهمية المدن كوسيط تاريخي واجتماعي وفني في الوقت ذاته، وانتقل الشارع من الواقع إلى الشاشة، مُؤطَرًا تأطيرًا سينمائيًا، يستكشفُ أبعادا جديدة لموضوعَاته، ويعيدُ تعريفَ الشارع والمدينة في صُورٍ وأوجهٍ شتّى.  

في هذا السياق، ولتسليط الضوء على أهمية المكان في السينما الإيطالية، فقد حظيت هذه الثيمة بالحصة الأكبر من الفعاليات والجلسات، انطلاقًا من جلسة الافتتاح التي تبحرُ في جماليات السينما الإيطالية، باستضافة المخرج الإيطالي ماركو بيلوتشيو، ضيف الشرف لهذه الدورة، حيث يتألق الفضاءُ الحضري بوصفه العنصر الجمالي الأبرز في السينما الإيطالية. كما تقام جلسة مميزة يسترسلُ فيها الناقد ومدير المتحف الدولي للسينما في إيطاليا كارلو شاتريان في حديث معمّق عن تحولات السينما المعاصرة، وعلاقة المخرجين بعالمهم وبالجُمهور، مسلطًا الضوء على نماذج من إيطاليا وأخرى من مختلف أنحاء العالم. 

وعن مدينة ميلانو، معقل الفن والسينما، تطرحُ الباحثة كيارا سبانيولي مفاهيمها عن تمثيلات المدن، مستعرضةً العلاقة الوطيدة بين مدينتها والسينما. هذه المدينة العريقة التي ارتبطت تاريخيا بالعديد من الأفلام والمخرجين والأحداث، فصارت مرآة للسينما الإيطالية وتحولاتها. تنطلقُ الناقدة من أفلام إيطالية دارت أحداثها في مدينة ميلانو مثل فيلم فيسكونتي الشهير «روكو وإخوته» (1960 - Rocco and His Brothers) وتنتهي بفيلم «بيت غوتشي» (2021 - House of Gucci) الذي قدّم المدينة من منظور أمريكي معاصر. ومن خلال هذه القراءة تستكشِف الناقدة الإيطالية كيف تتغير نظرةُ السينما إلى المدن عبر الزمن وعبر الثقافات. 

وانطلاقًا من سينما برتولوتشي، يستعرضُ الناقد سعيد المزواري رفقة الباحثة إيفا بيدرو سانز القوةَ السردية للمكان، لا بوصفه ديكورا فقط وإنما كعنصر سردي مهم يعكس الحالات النفسية والوجودية  للشخصيات. حيث تُظهر أفلام برتولوتشي البارزة مثل «الحالمون»، و«التناغو الأخير في باريس» (Last Tango in Paris)، و«الإمبراطور الأخير» (The Last Emperor) كيف تصبح البيئات المغلقة والفضَاءات الشاسعة والهندسة المعمارية وسائطَ للتعبير عن العزلة والصراع الداخلي، حيث ترصدُ إيفا بيدرو سانز هذا التوظيف المكثف للمكان في سينما برتولوتشي، وأسلوبه الذي يحيلُ الموقع إلى عنصرٍ حيوي محمَّل بالدلالات.  

مؤتمر النقد السينمائي: أطلسٌ سينمائيٌّ للعالم

تعتبر السينما آلةَ سفر عبر الزمن وفي المكان على حد سواء، نجوبُ من خلالها الزمن والجغرافيا لنسبر أغوار الإنسان وتجاربه، من خلال استكشاف المدن والثقافات المختلفة والقصص الإنسانية التي تتكثف وتتعدد أبعادها. وإذا كانت المدينة هي واجهة كل ثقافةٍ ومرآةَ كل زخمٍ إنساني تحمله الثقافات، فإن مؤتمرَ النقد السينمائي الدولي اتخذ من المدن محاورَ لموضُوعاته، راسمًا بذلك أطلسًا سينمائيًا متنوعًا، يجوبُ المدن عبر العالم ليرصدَ سحر المدينة في السينما وكيف نجحت في تأطير مدن العالم، واستنطاق كلّ محكي فيها، عبر عدسةٍ وإطارٍ يلتقطُ خباياها وجوانِبها الخفية، ويحفظ معالمها الثقافية والرمزية.

من ميلانو إلى دكا وتبليسي، وصولًا إلى بيروت والإسكندرية، ومن السينما البرتغالية إلى السينما الكازاخية والجورجية، انتهاءً بالسينما العربية، تنتقلُ الجلسات والعروض التقديمية بين المدن لتلتقط سحرها وترصد التفاعل الحيوي بين الإنسان ومدينته، مظهرةً كيف نجحَ صانعُ الفيلم في تقديم المدن سينمائيًّا. 

 نظرة على المكان في الفضاء العربي

أما عربيًا فقد ظلّت البيئة المحلية، بثرائها المادي والمعنوي، محطَّ اهتمام المخرج العربي ومنطلقه الأبرز، وكانت على الدوام رأس مال كبير، لم يدّخر شيئًا في سبيل استثماره حق الاستثمار، إذ وقف أمام سحرها متأملًا بعيون من يرى الأشياءَ للمرة الأولى، وغاصَ في تعقيداتها حاملًا مشرَط الناقد تارة، وكشّاف المنبهر المعجب تارة أخرى.

ولأن الصحراء هي الفضاءُ الأسطوري والشاعري والدرامي الأكثر سحرًا، فقد حظيت بأهمية كبيرة حيث خُصّصت جلسةٌ حواريةٌ كاملة لها، إذ يمضي المخرج عبدالله الحبيب رفقةَ الناقد رامي عبدالرازق في رحلةٍ لاكتشافِ بهاء وسحر الصحراء، التي ظلَّت على الدوام قبلةً للمخرجين السعوديين والعرب، ومصدرَ إلهامٍ لصناعِ الأفلام في كل أنحاء العالم. تتناولُ هذه الجلسة عددًا من الأفلام السعودية التي قدّمت تناولًا وتوظيفًا متفردًا للصحراء، مثل فيلم "هوبال" و"هجان" من السعودية، وفيلم "الثلث الخالي" من المغرب العربي. 

واحتفاءً بالمدن والعواصم العربية، ستُقام جلسة نقاشية ثرية تبحرُ في ذاكرة المدن في السينما من القاهرة إلى بيروت ودمشق والرياض، وصولا إلى الإسكندرية، تُقدِّمها الدكتورة سمية الضميّد والدكتور جورجي بارون والمخرج عمار عزت. كما ينطلقُ علي المجنوني من المكان بوصفه ذاكرة ليستعرض كيف تتحول الجغرافيا إلى شخصية في الفيلم، من خلال قراءات متنوعة للمدن في الأفلام.

من سحر المكان إلى فضاء النقد 

يحطُّ مؤتمرُ النقد السينمائي كلَّ سنة رحالَه، معيدًا إلى الواجهة هذا السؤال المهم: ما دور النقد السينمائي في الارتقاء بالحراك السينمائي؟ وفي هذا الصدد تقدّم الدورة الثالثة من المؤتمر مجموعةً من الورش والماستر كلاس التي تتناول أدوات تحليل الفيلم، يستعرضُ فيها كل من الناقد الكندي مارك بيرانسون والباحث ريتشارد بينا خلاصةَ تجاربهم في قراءة الأفلام قراءةً نقديةً وفهم رسائله الفنية والجمالية، إلى جانب ورش متنوعة يقدمها كل من فهد الأسطاء الذي يتناول مبادئ وأسس النقد السينمائي، إلى جانب ورشة تقدّمها المخرجة سارة بالغنيم عن أساليب تحليل اللغة المرئية في الأفلام.

ويظلُّ النقد العنصر الأهم في خضم كل حراك سينمائي، فهو منهج شامل يتمتع فيه الناقد بإلمام كبير بالسينما بوصفها فنا وصناعة في الآن ذاته، فيغوصُ في جماليات الأفلام ويحلّلها على ضوء تاريخ ونظريات السينما. وتسمحُ هذه المراجعات والدراسات النقدية بدفع حركة التجديد المستمر على مستوى المعالجة والرؤية السينمائية. 

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى