في الفيلم الجديد للمخرج الأمريكي الكبير بول توماس أندرسون «معركة تلو أخرى» (One Battle After Another، 2025)، ثمة مشهدان هما في رأينا أجمل مشاهد الفيلم، وكلاهما يدور حول النسيان: أولهما نسيانٌ مَرضيٌّ في منتصف الفيلم تقريبًا، والآخرُ نسيانٌ درامي قرب النهاية.
المشهدُ الأول يأتي مُضفَّرًا مع مشاهدَ أخرى موازية في تتابعٍ طويلٍ يستغرقُ حوالي النصف ساعة أو يكاد من زمن الفيلم؛ من الدقيقة 59 إلى الدقيقة 88. ليوناردو دي كابريو، في دور بوب فرجسون، المحترف الثوري في المنظمة الفوضوية "فرنش 75" (اسم كوكتيل خمر من الجِن والشَمبانيا وعصير الليمون)، يعلمُ بأن الأجهزة الأمنية الأمريكية بقيادة شِن بِن، في دور العقيد ذي الميول النازية ستيفن لوكجو، تقومُ بعملية مداهمةٍ واسعةِ النطاق للقبض على أعضاء المنظمة، وأن أفرادًا من منظّمته قد اصطحبوا ابنته الوحيدة إلى مكان سريٍّ آمن.
النسيان صدمةُ البطل ومعضِلته
لمعرفة مكان ابنته، يتصل بوب، من هاتف عمومي، بـ "الخط الساخن" للمنظمة، فيرد عليه مسؤول الاتصال، ويطالبه بعدة كلمات للسر، قبل أن يكمل حديثه معه. يقول بوب لمسؤول الاتصال إن تذكّره لرقم الخط السري ولكلمات السر التي أجاب عليها حتى الآن يعدّ في حد ذاته معجزة، لأنه قد أَتلف دماغه بتعاطي المخدرات وإدمان الخمور طيلة الثلاثين عامًا الماضية، لكن بوب يفشلُ في تذكر الإجابة على كلمة السر الأخيرة: «كم الساعة الآن؟»، قائلا لمسؤول الاتصال: «أنا بوب فرجسون، ستيف لوك اقتحم منزلي وأنا أبحث عن ابنتي، لقد نسيت كلمة السر، أعطني إحداثيات نقطة الالتقاء، دعنا لا نتشدد بخصوص كلمات السر!».
لكن الرفيق جوش يُحكِّم رأيه: «كم الساعة الآن هو سؤال رئيسي، كان يجب عليك أن تراجع دليل العصيان». فيرد عليه: «نسيت بقية الأكواد الرمزية وكلمات السر، لقد أجبت على النصف حتى الآن، لا تكن أحمق واعطني مكان نقطة الالتقاء!». إلا أن جوش يُصرّ مجددا: «كان يجب عليك مراجعة دليل العصيان بشكل أفضل، اتصل بنا مرة أخرى حين تعرف كم الوقت الآن». ويُغلق الرفيق جوش الخط.
نسيان بوب لكلمة السر التي يعرفها كل أعضاء المنظمة، خصوصًا وأنه عضو بارز فيها بوصفه خبير المتفجرات وصانع القنابل الرئيسي، هو نسيان مَرضي ولا شك؛ فكما قال الرجل؛ ثلاثون سنة من تعاطي المخدرات وإدمان الخمر أدى إلى تلف جزء من الدماغ هو المسؤول عن استدعاء الذكريات، إنه فقدان ذاكرة مَرضي، ويدخل باثولوجيًا (علم الأمراض) في باب الأمنيجيا (فقدان الذاكرة)، وهذا النوع العضوي الفسيولوجي من تلف المخ هو فقدان ذاكرة لا رجعة عنه، ولا علاج له، يتسبب في محو المعلومات القديمة من الدماغ، وهو غير "فقدان الذاكرة النفسي" الذي يحدث نتيجة ضغط عصبي شديد وصدمة نفسية عنيفة، تحجب الذكريات، لكنها لا تُمحى، بل تعود بزوال الصدمة؛ وهذا الأخير هو ما نطلق عليه "النسيان الدرامي".
بوب إذن مصاب بفقدان ذاكرة مَرضي، وهذا المرض العضوي هو مرض انتقائي، بمعنى أنه يمحو بعض الذكريات من الخلايا العصبية المخية دون أخرى؛ أنت وحظك. ولعل هذا هو سبب تذكر بوب لبعض كلمات السر وإجابته عنها إجابة صحيحة، وفشله في تذكر الإجابة على كلمة السر الحاسمة: "كم الساعة الآن؟".
شرح المقامات
النسيان المَرضي في السينما والأدب أضعف من النسيان الدرامي. يأتي النسيان الدرامي نتيجة لصدمة عصبية، أو انفعال عنيف مكبوت؛ حالة جيشان في العاطفة تؤدي إلى النسيان المؤقت، أما النسيان المَرضي فهو ابن الباثولوجيا، يستخدمه كاتب السيناريو (الدراماترجي) كأحد سمات الشخصية عند بنائه لها، بغرض أن نرى تبعاته على سلوكها، أو تفاعل من حولها معها، فهو مفروض علينا فرضًا من المؤلف، وليس نابعًا من الحركة الحرة للدراما، وفوق هذا ليس له "ظاهريات"؛ أي لا يمكن تمثيله في صورة أو حركة أو فعل أو قول، ومن هنا مكمن ضعفه. أما النسيان الدرامي فهو "الظاهريات" بعينها؛ إنه تجلي الانفعالات والعواطف الدرامية المكبوتة، التي تظهر في صورة نسيان لحظي لما لا يُنسى.
وفي هذا السياق، نستحضر رثاء المرار بن سعيد لأخيه، بعد صدمة فقده، إذ يقول:
ألا يا لقومي، للتجلد والصبر وللقدر الساري إليك وما تدري
وللشيء تنساه وتذكر غيره وللشيء لا تنساه إلا على ذكر.
اللآلئ
فيدور بافلوفتش كارامازف ينسى، في غمرة انفعال عاطفي، أن أم ابنه إليوشا هي نفسها أم ابنه إيفان في (الإخوة كارامازوف، 1879). وفي (الجريمة والعقاب، 1866)، يقتل روديون راسكولنيكوف المرابية ويسرق جزءًا من مدخراتها، ويخبئ المسروقات، ثم ينساها. وفي رواية (ضجيج الجبل، 1954)، ينسى شنجو فجأة كيفية عقد ربطة عنقه، بعد أن داوم على هذه العملية الروتينية يوميًا طيلة أربعين عامًا.
وفي فيلم «المغامرة» (L'Avventura - 1960) لأنطونيوني، وبعد أن تختفي آنَّا صديقة كلوديا (مونيكا فيتي) في بداية الفيلم، يشرع جابرييل فرزيتي في دور حبيبها ساندرو في البحث عنها، ثم ينساها خلال رحلة البحث. وفي «رجل بلا ماض» (The man without a past - 2002) لآكي كورسماكي، يبدأ الفيلم بفقدان البطل لذاكرته، بسبب اعتداء بالضرب عليه من مجهولين، ورغم أنه نسيان مَرضي، لكن عظمة كورسماكي أنه لا يتوقف عند النسيان المَرضي، ولا يجعل بطله يخوض رحلة بحث عن الذات المنسية، بل يشرع في إنشاء حياة جديدة من الصفر، بذات جديدة، وأصدقاء جدد، ومهنة جديدة.
النسيان الدرامي مشهدٌ مُكتفٍ بنفسه، عظيمٌ دائمًا في السينما، رائعٌ في الأدب. أما النسيان المَرضي فيعتمد على استخدام الفنان له كوسيلة لرفع الدراما ودفعها، والمخرجون الكبار يعرفون هذا، ولذا يمرّون عليه سريعًا ولا يُطيلون الوقوفَ عنده، لأنهم يدركون أن مشهد النسيان المَرضي هو في حد ذاته مشهد فارغ دراميًا، مثله مثل مشهد خلاعي فارغ، والمخرجُ الكبير يتعمّد أن يضرب ضربة جمالية بعد هذا الفراغ.
تدوير المربع
ولأن بول توماس أندرسون مخرج كبير، فإنه يحاول أولاً تلطيف ملل النسيان المَرضي بتصعيد السخرية في المحادثة الهاتفية بين بوب فاقد الذاكرة ومسؤول الاتصال بالمنظمة، مؤجلاً ضربته الجمالية إلى المحادثة الهاتفية الثانية التي ستُجري بينهما بعد عشرين دقيقة من زمن الفيلم.
يصلُ بوب إلى مكان آمن، أثناء رحلة هروبه من قوات الأمن التي تلاحقه، والمتمثل في منزل مدرّبُ الكاراتيه سِرجيو سان كارلوس (بينوكيو دِل تورو)، الذي يساعد المهاجرين غير الشرعيين وصديق بوب في نفس الوقت، فتتاحُ له فرصة شحن هاتفه القديم من طراز "1G" غير القابل للتتبع أو التنصت عليه، ويتصل مرة أخرى بالخط الساخن للمنظمة، ويرد عليه الرفيق جوش، فيُعيد بوب على مسامعه الأسطوانة من جديد: «اسمي بوب فرجسون، لا أعرف إن كنت قد سمعت بي من قبل، إسمع، لقد كنتُ عضوًا في "فرنش 75" لسنوات طويلة، كانوا يطلقون عليَّ لقب "زبدة حي الجيتو" أو "رجل الصواريخ" أو شيئًا من هذا القبيل، المشكلة الوحيدة الآن أنني قد أتلفت دماغي منذ ذلك الحين يا رجل، لقد أسأت استخدام المخدرات والخمر على مدار الثلاثين عامًا الماضية يا رجل، أنا عاشق للمخدرات والخمر، وأقسم لك بحياتي وحياة ابنتي الوحيدة أنني لا أتذكر إجابة سؤالك "كم الساعة الآن؟"».
ورغم كل محاولات بوب لإقناع محدثه على الهاتف بشخصيته وأنه عضو في المنظمة، وأنه في أمس الحاجة إلى معلومة عن مكان تواجد ابنته التي تختبئ الآن مع أعضاء المنظمة في مكان سري، إلا أن الرفيق جوش يصرُّ على أن يسمع أولاً الإجابة على السؤال: «كم الساعة الآن؟».
عندها يضربُ بول توماس أندرسون ضربته الجمالية؛ إذ يطلب بوب من الرفيق جوش أن يُحيله إلى "السوبرفايزر" المشرف عليه. وما كنّا نشك فيه أثناء المحادثات الهاتفية بين بوب والرفيق جوش، ونحب لو تحقق، يصبح الآن واضحًا صريحًا ومكشوفًا بلا مواربة؛ إذ يلجأُ بول توماس أندرسون إلى استعمال كل حمولة المفردات الخاصة بالثقافة الاستهلاكية: "الكولنج سنتر"، والخط الساخن، و"التيليسِلر"، و"سوبرفايزر" المبيعات الهاتفية، ورضاء المستهلك، وتقييم البائع، وغيرها من المفردات، ليعيد موضعتها في النشاط الإرهابي الفوضوي.
يمينًا إلى اليمين الغربي
إن الثقافة الاستهلاكية للسوق، التي هي روح النظام الرأسمالي، تسرقُ اليوم من الجميع، وتعيد استعمال ما سرقته في دعم نفسها، ودعم الإفراط في الاستهلاك، وهي تسرق حتى من أعدائها، بل خصوصًا من أعدائها، من ذلك مثلاً أنها تسرق الآن آخر ما تبقى من رأسمال لليسار؛ أي المعاني والقيم والأسماء، ولعلك قد سمعت بالمصطلح الجديد في وصف العاهرين والعاهرات، الذين صاروا يسمون "عمال الجنس"، وهي كوميديا سوداء في الحقيقة، فإن كان هؤلاء عمالاً حقًا، فما هي أدوات الإنتاج؟!
ونحن نحب أن نفكر بأن بول توماس أندرسون يعكس عملية السرقة تلك؛ فهو يُعيد استخدام مصطلحات السوق الرأسمالي في الثقافة اليومية للفوضويين والإرهابيين، من باب السخرية.
وربما وَجب قول كلمةٍ في هذا الخصوص، فقد قرأنا عدَّة مراجعات تصفُ الفيلمَ بأنه "نقدٌ بصري للسياسات الأمريكية"، و"نص سياسي ثوري"، و"فيلم ينحاز لليسار الأمريكي"، وأشياء على هذا المنوال، ومن جانبنا لم يصلنا أثناء المشاهدة هذا الذي يقولون عنه، إلا أن نكون قد شاهدنا الفيلمَ الخطأ، فما اطمئن إليه ضميرنا هو أن الفيلم يسخر من الجميع؛ من اليمين المتطرف صاحبِ دعاوى التفوّق العرقي، ومن مدّعي الثوريَّة من الفوضويين والإرهابيين، ومن ثقافة السوق الرأسمالية التي تهيمن على الجميع، ولعل الحس السليم للمُشاهد العادي لن يخطئ نبرة السخرية الممتدة على طول الفيلم وعرضه، من أول الافتتاحية وحتى النهاية، وما قدَّمناه من إشارةٍ إلى قيامِ بول توماس أندرسون بإعادةِ مَوْضَعَةِ مصطلحات ثقافة السوق في التعبيرات المستخدمة من قبل أعضاء المنظمة الفوضوية هو دليلٌ على هذه السخرية.
كشف الظنون
والحق أن الأدلة تتضافرُ على تأييد فرضنا بأن الفيلم يسخرُ من الجميع، والأمثلة لا تعد ولا تحصى؛ فعلى سبيل المثال، تيانا تيلور في دور بيرفيديا بِفرلي هِلز زعيمة المقاومة التي ظهرت في النصف ساعة الأولى من الفيلم، والتي تتخلى عن ابنتها الرضيعة، وتضع مصلحتها الخاصة ورفاهيتها ولذتها الجسدية فوق مصلحة ابنتها، ثم تنبذها وتتركها لأبيها وتهرب إلى الخارج، هي نموذجٌ في الأمومة لا ينبغي لأي أم عاقلة اتباعه. أما بوب صانع المتفجرات بالمنظمة، فهو غارق في الخمر والمخدرات، لدرجة حدوث تلف عضوي في دماغه. ثم نرى أفراد المنظمة الفوضوية في عمليات سطو على البنوك كوسيلة للمعيشة وتدبير احتياجات المنظمة من سلاح وغيره. بل ونرى أيضًا بعضًا من عضوات المنظمة وقد تحوَّلن إلى راهبات في دير، مع الاستمرار في العمل مع المنظمة الإرهابية في نفس الوقت، بل ويقمن بزراعة المخدرات داخل أراضي الدير، وغيرها من الأمثلة الكثيرة.
كما أنه لن يخفى على المُشاهد السخريةُ الصريحة من الجانب الآخر أيضًا: منظمة "مغامرو عيد الميلاد"، معتنقي مبدأ التفوق الأبيض، الذين يمارسون عمليات التطهير العرقي على الأرض عمليًا، حتى إنهم يقومون بقتل زميلهم لوكجو بالغاز السام بعد علمهم بأنه قد أقام علاقة مع امرأة سوداء.
السخرية إذن تشمل الطرفين، وإن كنا نرى أنها أكثر فنيّة، وأشد قسوة على مدعي الثورية الذين يستخدمون نفس أساليب "العدو" في "كفاحهم الثوري"، ولعلك لاحظت في مشاهد اللاجئين غير الشرعيين، أن أوضاعهم المعيشية بعد تحريرهم من قبل المنظمة الفوضوية وأنصارها هي أسوأ من أوضاعهم التي رأيناها في بداية الفيلم في معسكرات الاعتقال الرسمية.
وفوق هذا فنحن لا نعرف لهذه المنظمة غايات، سوى أنهم يستهدفون "تحرير الحدود" و"تحرير الجسد"، فإن كانت هذه هي أهدافهم، حقّ لنا إذن وصفهم بالفوضويين، خصوصًا وأنهم غارقون في الفوضى حتى آذانهم، في حياتهم الشخصية، أي أنهم ليسوا نموذجًا يُغري المواطن بأن يسير خلفه ويقتفي أثره.
ولمن يهوى البحث في الرموز التي لا نهاية لها في الفيلم، سيجد مادة ممتعة شيقة من السخرية وراء كل اسم ومصطلح، وأداة، وموقع تصوير أو ديكور، وقطعة ملابس أو إكسسوار، وموديل سيارة، وثيمة موسيقية، إلى آخر هذا.
يقظة الغفلان
أما المشهد الثاني للنسيان، فهو مشهد نسيان درامي، يأتي في نهاية الفيلم، ويسبقه أولاً مشهدٌ طويلٌ رائع لمطاردة سيارات، جرى تصويره في طريقٍ يُعرف بـ "منحدر تكساس" في صحراء كاليفورنيا، وهو طريقٌ مشيّدٌ على تلال، كله منحدرات، طريق غاطس-طالع، حتى لا يكاد السائق يرى أمامه مئة متر أو مئتين، ولعل هذا الطريق تجسيدٌ بصريٌّ لعدم وضوح الرؤية، أو غياب اليقين، أو التشوش، أو عدم الاستقرار والفوضى، أو تقلبات المصائر والأحوال، أو الاستقطاب الحادّ والتطرف، أو الصدمات المتلاحقة التي يعيشها الإنسان الآن في أمريكا وكل أنحاء الكوكب.
تتعرضُ تشيز إنفينيتي في دور ويلا فرجسون، البالغة من العمر السابعة عشرة وابنة بوب، للخطف، ثم تعقبها تهديدات متلاحقة تواجهها، لتكتشف أن أمها ليست بطلة كما أفهمها أبوها، بل واشية خائنة، ثم تُصدم من جديد حين تعلم أن أباها البيولوجي الحقيقي هو العقيد لوكجو اليميني المتطرف عدو المنظمة التي تنتمي إليها عائلتها، ثم تتعرّض لمطاردة بالسيارات من عضو في جماعة "مغامرو عيد الميلاد"، ثم تَقتل إنسانًا لأول مرة في حياتها.
وكنتيجة منطقية مبررة دراميًا على نحو ذكي، فإنها حين تقابل أباها بوب عقب هذه الصدمات المتلاحقة، لا تعرفه، وتنساه تماما، وتظل تردد بعصبية وغضب كلمة السر اللازمة للتعارف بين أعضاء المنظمة: «جرين إيكرز.. بفِرلي هِل بِيليز.. هوتر فِل جنكشن.. من أنت؟»، وتكررها أكثر من مرة، بينما أبوها بوب لا ينفك يردد: «إنه أنا أبوكِ يا حبيبتي!»، ويتعمّد رمي سلاحه على الأرض، حتى لا تشعر البنت المصدومة بالتهديد من رؤية السلاح، ولعلها عميت عن رؤية أبيها من الصدمة، ولم تر إلا السلاح فقط، وهو وارد في الصدمات العصبية ومبرر دراميا. إنه إذن نسيان درامي، يزولُ مع خفوت وتلاشي صدمة البنت، فتتعرف على أبيها، وتهرع إليه، ويستقلان السيارة ويهمّان بمغادرة المكان.
لقد كان المشهدُ كله جميلًا، لكن ما ضاعفَ من جماله وقوَّته هو أن بول توماس أندرسون لم يلجأ إلى الإغراق العاطفي أو الإفراط الانفعالي في لقاء البنت مع أبيها، بل اكتفى بمجرد حضن سريع، ثم ركوب السيارة ومغادرة المكان.
وقد يحتملُ المشهد قراءة أخرى، فقد لا تكون ويلا مصابة بفقدان الذاكرة النفسي، وإنما قد تكون حالة غضب مكتوم من الأب "المزيف"، الذي اتضح أنه ليس أبوها الحقيقي، فلعل سؤالها "من أنت؟" هو سؤال استنكاري، أو لعله غضب من ضعف الأب وهشاشته، أو لأنه كذب عليها بخصوص أمها الواشية ورباها على فكرة أنها ابنة بطلة المنظمة، أو لعله غضبٌ تجاه شيء آخر. المهم أن حالة الغموض هذه ضاعفت من حلاوة المشهد، والغموض في الدراما جميلٌ محمود إن كان غموضًا في الدوافع النفسية، وطالما وجَّه تاركوفسكي ممثليه بأن يتعاملوا مع الشخصية كما لو كانت تحمل أسرارًا لا ينبغي البوح بها. ذلك أن نقيض الغموض في الدراما ليس الوضوح، بل الملل.



