راؤول بيك... في مواجهة وحشِ النسيان

August 17, 2025

«لماذا أصنعُ الأفلام؟ لأنَّه أكثر ملاءمةً لي مِن أن أحتجَّ بحرقِ المركبات»، هي الجملة التي شدتني يومًا إلى اقتحام عوالم المخرج الهايتي راؤول بيك الذي استطاع، بأسلوبه الفنِّي والتزامه السياسي، أن يرسِّخ مفاهيم جديدةً عبر مجموعةٍ من الأعمال المركَّبة والمعقَّدة، بين أفلام روائيَّةٍ وأخرى وثائقيَّةٍ نالت شهرةً عالميَّةً على مدار الأربعين سنة الماضية، أبطالُه هم أولئك السياسيُّون أو الفنَّانون الذين فكّكوا الرواية الأحاديَّة للتاريخ الغربي الرسمي، وانخرط معهم المخرِج في سردٍ شخصيٍّ وأدبيٍّ يتتبَّع جذورَ العنف والاستعمار والعنصريَّة وعدم المساواة إلى يومنا هذا.

ابن المنفى الذي يُحيي قصصَ أشباهِه

أن تأتي إلى السينما عن طريق السياسة، أن تؤمنَ بمقولةِ أنَّ للفن دوره المركزي في المجتمع، أن يكون اختيارُك لأعمالكَ متناغمًا مع اختلاف مستويات السرد القصصي من أجل فهمٍ أعمق للصراعات الحاليَّة، أن تُحقِّق مقاربتُك الفنيَّة تأثيرَها المترامي في اشتباكٍ وثيقٍ مع ما تُكافح لأجله اليوم، فأنت لا تُنجز أعمالًا سينمائيَّةً أو أفلامًا وثائقيَّةً عن الماضي فحسب، إنَّما سؤالك الجوهري هو كيفيَّة ارتباط هذه القصة أو تلك، إرثُ هذه الشخصية أو تلك، بما يحدث اليوم وما يشهده الواقع من تقلُّبات. حينها ستَتبنَّى قصصَ أبطالكَ المنسيِّين وتروي حكايتهم بضميرِ المتكلم، معيدًا لهم صوتَهم المغيَّب، مستندًا إلى عملٍ مضنٍ من البحث في الأرشيف، والتنقيب عمَّا تركوه من رسائل أو نصوص، أو مقابلاتٍ تليفزيونيَّةٍ أو مقاطع فيديو، تُعيد من خلالها كتابةَ الأجزاء المفقودة من تلك الحيوات المليئة بالاضطهاد والنضال، منتصرًا لسرديَّةِ مواجهة الحقائق والدفاع عن الحريَّات وكشفِ مصير الإنسان ومستقبلهِ الغامض؛ لتُقدِّم كلَّ ذلك في شكلِ فيلمٍ وثائقيٍّ أو روائيٍّ لا يُعرَض غالبًا إلا مع كتابٍ يحملُ عنوان الفيلم ذاته، يُوثق للنصوص والصور والمواد التي رافقت تصوير الشريط الطويل، خالقةً نهجًا في التلقي الصادم، ومواجهة الذاكرة وطرح الأسئلة حول جلِّ القضايا الملحَّة في مناطق الصراع المشتعلة على هذا الكوكب… ليس غريبًا إذن أن تكون: راؤول بيك!

مولودًا في هايتي سنة 1953، ومهجَّرًا منها في عمر الثامنة إلى الكونغو بسببِ اعتقالِ والده المتكرِّر خلال سنواتِ الحكم الديكتاتوري لفرانسوا دوفالييه، ثم متنقلًا لإكمالِ دراسته والعمل بين فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، تخرّج راؤول بيك مهندسًا من جامعة برلين سنة 1990، ليُزاولَ بعدها مهنة التصوير الفوتوغرافي والكتابة الصحفيَّة. يذكُر بيك أن والده كثيرًا ما أهداه كاميرات احترافيَّة وعلَّمه التصوير منذ الصغر. بدأ بإخراج بعض الأشرطة القصيرة قبل أن يقرِّر دراسة السينما في العاصمة الألمانية. وهناك التقى - وهو ابن المنفى أيضًا - بجلِّ قادة التحرُّر من أفريقيا وأميركا اللاتينيَّة والشرق الأوسط وانخرطَ سياسيًّا وفنيًّا في خطِّهم النضالي التحرُّري لرفع صوت المقهورين والمظلومين والمستَغلِّين في هذا العالم. عمل سنة 1994 أستاذًا في جامعة نيويورك، قبل أن يُعيَّن وزيرًا للثقافة في بلده الأصلي هايتي بين 1995 و1997. كما كان صاحب فيلم «كارل ماركس الشاب» (The Young Karl Marx - 2017) رئيسًا لـ "المدرسة الفرنسية العليا لمِهن الصورة والصوت" (La Fémis) من 2010 إلى غاية 2019.

تأثير الصرخة المكتومة

وصفت الصحيفة الأسبوعية الفرنسيَّة (Le 1) ناشطَ حقوق الإنسان والصحافي وكاتب السيناريو ومخرج الأفلام راؤول بيك بأنَّه «صوتٌ قويٌّ يهزّ المشاعر ويؤثر في النفوس» بعد نشرِها لنصٍّ طويلٍ له بعنوان «أنا أختنق»، وهي الصرخة المكتومة التي أطلقها "جورج فلويد" قبل موته مخنوقًا تحتَ ركبة شرطيٍّ أميركي يوم 25 أيار/مايو 2020. لكن بيك سلَّط الضوء في نصِّهِ على معاناة أبناء الجاليَّة الإفريقيَّة والعربيَّة الفقراء والمهمّشين والمعطّلين عن العمل. كتبَ قائلًا: «أدركتُ للتو أنَّ قصَّتي مع فرنسا قد انتهت. هذا البلد الذي رحَّب بي منذ أكثر من خمسين عامًا، والذي رافقني طوال حياتي المهنيَّة ومنحني مكافآتٍ هائلة، ومسؤوليَّاتٍ صعبة، وإنجازاتٍ فرديَّةٍ حقيقيَّةٍ بل وجماعيَّةٍ أحيانًا. هذا البلد الذي حافظتُ معه دائمًا على علاقةٍ دقيقةٍ بين عدم ثقةٍ مُحبطٍ وثقةٍ واقعيَّة، بين تسامحٍ بنَّاء وريبةٍ مُريعة. بلدٌ، ومع ذلك، لم أجامله أبدًا بكلماتي. لقد تلاشت رؤيتي لهذا البلد».

تستندُ منطلقات بيك في هذه الرؤية الحادَّة والانتقاد اللاذع إلى حالة الإنكار العامَّة التي تشهدها فرنسا، وأنَّ شعارها "حرية، مساواة، أخوّة" قد استوفى شروطه منذ عقود ولا وجود هنا للظلم الطبقي والممارسات العنصريَّة، كما يتشدَّق الحكَّام والأحزاب وحتى النقابات ووسائل الإعلام الموجَّهة بقوة رأس المال، فما يصدر من قوانين جائرةٍ ومواجهاتٍ مستمرَّةٍ مع أصحاب السترات الصفراء وغيرهم من الطبقات الهشَّة لا يُخفي هذا التمييز الطبقيِّ الذي يعود إلى إرثٍ استعماريٍّ ثقيلٍ تجاه الآخر، الضعيف (غير المهم) في نظر آلة الرأسماليَّة المتوحِّشة والشركات الاحتكاريَّة التي تحقِّق أرباحها وتضاعف أموالها على حساب بؤسٍ لم يطل المهاجرين وخدهم، بل وصل إلى الفرنسيِّين أنفسهم. 

يُضيف بيك: «فرنسا مذعورةً من انحطاطٍ لم تعد قادرةً على إخفائه»، وهي «في حالة إنكارٍ لأنَّها ترفض قبول فكرة فقدانها لمكانتها المرموقة وإمبراطوريَّتها»، في حين «أنَّ كلَّ ما نحتاجه هو بذل الجهد لفهم أنَّنا وصلنا ببساطةٍ إلى نهايةِ ذلك الإرث الثقيل، من الظلم والإنكار والاستغلال، المبنيِّ على بؤس الآخرين».

ليس هذا الإيغال في رؤى وأفكار ومبادئ راؤول بيك إلَّا توطئةً لتقديم عمَلين له بوصفه أحد أهمِّ المخرجين العالمييِّن في وقتنا هذا، فهو لا يقف عند حدود تزويد المتلقي بالمعلومات، وإن كانت نادرةً وحصريَّةً وجديدة، إنَّما يبحث دائمًا عن الطبقات متعدِّدة المستويات لإنجاز العمل وثائقيًا كان أو سينمائيًّا، آملًا في منحِ المتلقي غير الكسول لحظات وعي مُلهمةٍ للنظر بتفحُّصٍ وتساؤلٍ إلى الأحداث والصراعات بعيدًا عن بروباغندا الإعلام المتلوِّن بما يضعه من مساحيقَ تجعل لونَ الدم الأحمر المتدفِّق في الشارع، مثلًا، يبدو أخضرَ ناعمًا كعشبِ الحدائق العامَّة!

أدركتُ منذ مشاهدَتي لعدد من أعمال راؤول بيك، كذلك متابعتي لعددٍ من حواراته وتصريحاته القويَّة غير المهادنة، أنَّه مخرجٌ غاضبٌ محتجٌّ، ولكنَّه بارعٌ في مطابقة الكلمات بالصور، يمتلك رؤيةً حداثيَّةً لها أن ترمي بظلالها على فتراتٍ زمنيَّةٍ بعيدةٍ وجغرافيَّاتٍ شاسعة، دون تقصيرٍ بصريٍّ أو إغفالٍ للتفاصيل، سواء في سيرة الأشخاص أو الجماعات أو المناطق التي يتصدَّى لها، بذكاءٍ ومتعة، وأيضًا بجديَّةٍ والتزام، فهو صاحب مرجعيَّةٍ سينمائيَّةٍ مهمَّة خصَّص معظمها للدفاع عن حقوق السود المدنيَّة والتطرُّق إلى مشاكلهم الجوهريَّة من بينها أفلام: «لومومبا» (Lumumba - 2000)، «أحيانًا في أبريل» (Sometimes in April - 2005)، «أنا لست زنجيك» (I Am Not Your Negro - 2016)، وسلسلة وثائقيَّة من أربع حلقاتٍ بعنوان «أبيدوا جميع المتوحشين» (Exterminate All the Brutes - 2021)، و«إرنست كول: الضائع والمستعاد» (Ernest Cole: Lost and Found - 2024).

أوَّل من كشف أهوال نظام الفصل العنصريِّ للعالم

بعد عقدين ونصف تقريبًا على إجابته عن سؤال «لماذا تصنع الأفلام»، عاد راؤول بيك وقال إنَّه يفعل ذلك «ليُجيبَ على أسئلة»، وهي فعلًا أسئلةٌ مشتعلةٌ لا تهدأ ولا تحترمُ منطقة الراحة التي يغطُّ فيها الكثيرون في نومٍ عميق، كما لو أنَّها – أي تلك الأسئلة – مركباتٌ محترقةٌ في شارعٍ يعجُّ بالمتظاهرين الذين لا يجدون وسيلةً لمواجهة عنف الشرطة سوى الشغب. بهذا المعنى أَعتَبِر بيك مشاغبًا عاقِلًا، حادَّ الطباع، متطلِّبًا ومبدعًا وفيًّا لحريَّة اختياراته في فكِّ الكثير من القصص المشفَّرة.

البداية كانت سنة 2017، أي بعد خمسين سنةً من إصدار المصور الفوتوغرافي الجنوب إفريقي إرنست كول لكتابه «بيت العبودية» (House of Bondage)، حينَ عُثِرَ على أكثر من 60 ألف شريطٍ ضوئيٍّ لصُوَر كول وعددٍ من دفاتر الملاحظات الموجهة إلى عائلته، في ثلاثة صناديق معدنيَّةٍ كبيرة الحجم مخفيَّةٍ كودائع مصرفيَّةٍ لدى بنكٍ في العاصمة ستوكهولم. كان يُعتقد إلى وقتٍ قريب أنَّها فُقِدت أو ضاعت كما ضاعت ونُسيت حياةُ صاحبها الذي كان يتردَّد - بعد نفيهِ إلى أميركا - على عددٍ من البلدان الأوروبيَّة ومنها السويد، وربَّما قام بتأمين صورِه وأشرطته وحتى صور كتابه «بيت العبودية» لدى أصدقاءَ احتفظوا بمواده الأرشيفيَّة. إلَّا أنَّ أثر هذه المواد فُقِدَ لعقودٍ قبل أن تُكتشفَ تلك الصناديق التي تحتاج إلى مبالغَ معتبرةٍ كانت تدفعها إحدى المؤسسات كلَّ سنةٍ ليبقى أثرُ كول مخفيًّا وغير متداول! صرَّح بيك في أكثر من لقاء أنَّه يعرف اسمَ تلك المؤسسة والغرض من إخفاء أرشيف هذا المصوِّر الفوتوغرافي الإشكالي، وهو على الأقل عدم إخراج تلك الصور التي توثِّق لما ارتُكب من فظائع زمن الأبارتايد والتمييز العنصري، سواء في أميركا أو في جنوب أفريقيا، البلد الذي يوفِّر الثروات والمعادن الثمينة للغرب.

«لكن ذلك لم يعد مهمًّا الآن»، يضيف بيك، «فكل من غشَّ أو سرق أو أخفى تلك المواد والأعمال يتحمَّل مسؤوليته الأخلاقيَّة، وحتى لا نجعلها قصَّة "اختفاء" أو "إخفاء"، آثرتُ مع الورثة الذين كلَّفوني بإنجاز الفيلم إعطاء الأولويَّة لقصة إرنست وإبراز أعماله وجانبًا من حياته القصيرة نسبيًّا». هنا ينطلق بيك في إنجاز فيلمه بدايةً من نصوصِ كتاب «بيت العبودية» الذي نشره كول عام 1967 وضمَّ صورًا ومقالات تشرح رؤيته للسياسة والعالم، ونقدهِ لممارسات الفصل العنصري في بلده جنوب أفريقيا، والذي دفع ثمنه بالنفي إلى أميركا.

لم يخترع فريق العمل نصَّ فيلم «إرنست كول: الضائع والمستعاد» الحائز على جائزة العين الذهبيَّة لأفضل فيلمٍ وثائقيٍّ في مهرجان كان مناصفةً مع الفيلم المصري «رفعت عيني للسما» (2024)، فكلُّ ما هو موجود كسردٍ ينطلق ممَّا كتبه كول أو قاله في الرسائل أو لأصدقائه أو لمن عرفوه أو التقوا به. لذلك يقول بيك: «قمنا بإجراء مقابلات مع 80 شخصًا ممَّن رووا لنا ما عرفوه عنه في فترةٍ ما من حياته وهذا ما جعلناه يرويه بلسانهِ، بالصوت المرافق للممثل الأميركي لاكيث ستانفيلد، أي أنَّ صوتَ الراوي لم يكن خارجيًّا، إنَّما هو صوت الشخصيَّة ذاتها وهي تروي قصَّتها». 

هنا تظهرُ عبقرية بيك في توظيف صوت ستانفيلد، بنبرته الحزينة وأدائه الجاد والعميق الذي يخترق نسيج العمل، وهو ينقل السرد من الماضي إلى الحاضر بانتقالات تبدو حينًا مكثَّفة بين صوَر كول بالأبيض والأسود مع لمحاتٍ لونيَّة للتعبير عن مرور الزمن، وحينًا آخر تبدو - تلك الانتقالات - أقلَّ صقلًا، ممَّا يصرف المشاهد عن الصور ذاتها جرَّاء محاولةِ المخرِج الدائمة لنسجِ أوجه التشابه بين الأمس واليوم.

أنا أجمعُ الأدلَّة على مرأى من الوحش!

باقتراحٍ بصريٍّ فريد، وتعاقب للصور التي التقطَها أولًا إرنست كول في جنوب أفريقيا وفيديو تسجيلي بالأبيض والأسود يتحدث فيه على طريقته ونهجه في العمل، يبدأ الفيلم الذي ترافقه موسيقى تلك الحقبة متخذًا مسارًا يسلِّط الضوء على شهرة هذا الفنان المحتفى به وبكتابه وأعماله في ستينيَّات القرن الماضي، وصولًا إلى ما انتهى إليه من حياة التيه والتشرُّد بعد توقفهِ عن التصوير الفوتوغرافي ورفضه أن يُختزَل في تسميةِ "مؤرِّخ البؤس"! فالمهام والتحقيقات الصحافيَّة لم تكن توكل إليه بصفته مصوِّرًا محترفًا فقط، إنما كمصوِّرٍ أسود البشرة. هذا ما يتقاطع فيه إرنست كول مع جيمس بالدوين (1924-1987) الذي قال: «لن أسمح لأحد أن يقول لي من أنا، ولا أن يملي عليَّ ما أفعل، ولا في أيِّ صندوق يُريد حشري». هذا الحظر جعل كول يتوقَّف عن التصوير في أميركا لأنَّ طموحه كان أن يصبح مصوِّرًا للعالم ولكل ما يرغب في التقاطهِ وتوثيقهِ من صور الحياة، وليست صور البؤس الناجم عن التمييز العنصري في ستينيَّات وحتى سبعينيَّات القرن الماضي إلا جزءًا منها. وقد عُثِر في تلك الصناديق على صورٍ عديدة حول الموضة والرقص ومواضيع أخرى لا علاقة لها بمأساة السود، ولكنَّها لم تنل حظَّها من النشر والاهتمام في وقتها، لأن ستَّة أشهرٍ في نيويورك كانت كافيةً لكول حتى يكتشف حدود حريَّته، لم تخفَ عنه العلامات، لغة الجسد، المظاهر، والتي كانت أيضًا تمارِس تمييزًا عنصريًّا وتصنيفًا طبقيًّا جليًّا.

«في جنوب أفريقيا كنت أخاف من الاعتقال، وفي جنوب أميركا أصبحتُ أخاف من الاغتيال! ولكنَّني لم أتوقَّف عن التصوير الفوتوغرافي لحظةً واحدة». بهذه الجملة يواجه كول نفسه في بداية رحلته خارج بلاده، ويروي "قصة انحدارهِ البطيء نحو الذل والهبوط إلى الجحيم". سلاحهُ الذي تعطَّل لاحقًا، كاميرا واقعية تلتقطُ ملامح الوجوهِ التي تحكي يومياتها بصمتٍ، وفق سياق تاريخيٍّ تتقاطع فيه المصائر والأفكار.

في سن السادسة والعشرين من عمره كان إرنست كول مشهورًا ومعروفًا في أميركا بعد نشره لكتابه «بيت العبودية»، والذي يوثق صور وأحداث التمييز العنصريِّ من الداخل، عن طريقِ مصوِّرٍ جنوبِ إفريقي توجَّه إلى مناجم البلاتين والماس والذهب والحديد (مصدر الثروة والسلطة)، ونقلَ معاناة العمَّال والعنف الممارَس على المزارعين والنساء والأطفال في الحقول والشوارع والساحات العامَّة ومحطَّات النقل. صورٌ تعكسُ حالات التفرقة الطبقيَّة، وهي تُظهر نسخةَ بلدٍ ملطَّخ بالدماء والعار ينتصرُ للبيض وهو يضع لافتاتٍ على المداخل والمقاعد ونوافير شرب الماء، مكتوبٌ عليها "للأوروبيين فقط". صورُ تلك اللافتات هي بمثابة صفعاتٍ متكرِّرة في الفيلم، بينما يمضي إرنست كول بكاميراته المرفوعة كرايةٍ حمراء في وجهِ المسؤولين، مخاطرًا بحياته ومعرَّضًا للاعتقال: «أنا أجمعُ الأدلَّة على مرأى من الوحش»، كما أنه وثق عملية محوِ أحياءٍ بأكملها ونقل المواطنين السود إلى أحياءٍ حكوميَّةٍ ذات أسقفٍ من صفيح، مع فرض رقابةٍ دائمةٍ لتحركاتهم من خلال "دفتر مرور"، ناهيك عن معسكرات النفي النائية حيث كان يُنقل المغضوب عليهم بعيدًا عن عائلاتهم. التقطَ كول كذلك العنف العلني في مذبحة شاربفيل يوم 21 مارس/آذار 1960 عندما قتلَ النظامُ 69 شخصًا بلا رحمة. صورٌ صادمةٌ تضاف كلُّها إلى تلكَ التي نراها لأوَّل مرة عن الوضع في أميركا، بشكلٍ مشابهٍ لحالات العنفِ والاغتيال والتشرُّد والنوم في الشارع، في سياسةٍ ممنهجةٍ وشبه خفيَّة لمنع السود من أن يكونوا بشرًا غير ناقصين مقارنةً بالبيض.

توفيَ إرنست كول متأثرًا بالسرطان عن عمرٍ يناهزُ 49 سنةً يوم 19 فبراير/شباط 1990، أي بعدَ أيَّامٍ قليلةٍ من خروج نيلسون مانديلا من السجن، وبهذا الحدث يختم بيك فيلمه في ما يشبه الانتصار، لأنَّ كول في التصريحات القليلة المصوَّرة له قال: «إن جنوب أفريقيا ستتحرَّر يومًا ما». وهو الذي كرَّس حياته كمصوِّر صحافي، التزمَ تجاه قضيَّة تحرُّر بلده، ونقل معاناة السود في كلِّ مكان، وخاصة إرادته في توثيق الحالة الإنسانيَّة.

البشرة البيضاء حالةٌ ذهنيَّةٌ لا أكثر

بالعودةِ إلى فيلمه الأيقوني «أنا لست زنجيك»، الحائز على عدة جوائز وترشيحات منها جائزة الأكاديميَّة البريطانيَّة لأفضل فيلم وثائقي (BAFTA) والترشُّح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلمٍ وثائقي عام 2017؛ يتناولُ راؤول بيك حياةَ جيمس بالدوين من خلال استكمالِ ما تركه الكاتبُ من صفحات مخطوطته غير المكتملة «تذكّر هذا البيت»، والتي تتضمَّن ملاحظات وتعليقات بالدوين، الشاعر والمفكِّر وناشط الحقوق المدنيَّة، حول الحقائق المريرة لقرونٍ من العنصريَّة السريَّة والمعلنة. ثلاثون صفحة كانت كافية لتكون سجلًا تاريخيًّا من استباحة دم الناشطين ذوي البشرة السوداء، من أيقونات النضال والأصدقاء الذين اغتيلوا تباعًا: مارتن لوثر كينغ، مدغار إيفرز، ومالكوم إكس… في ما يشبه وثيقة إدانةٍ حقيقيَّة، يستعيدُ الفيلم كلمات وتصريحات جيمس بالدوين حول الحقوق المدنيَّة المهدورة للسود، ليُعرِّف المشاهدين على النضالات السياسيَّة والإعلامية لهؤلاء الذين تنعتهم السلطة ووسائل الإعلام بالزنوج (نِغرو)، وتُتَّهم بممارسة العنف والهمجية، في حين انبرى بالدوين طيلة حياته لتحطيم هذه السرديَّة وكسرِ تفوُّق الرجل الأبيض وادِّعائه الواهمِ بأنَّه صانع حضارة وتاريخ، فـ«البشرة البيضاء هي حالةٌ ذهنيَّةٌ لا أكثر» كما يقول بالدوين.

الهمسُ الهامشيُّ ضدَّ سطوة السلطة

يحرِّك الفيلمَ الوثائقي، الجريءَ والصادقَ للغاية، صوتُ الممثل الأميركي صامويل إل. جاكسون العميق والمؤثر، والذي يكادُ يكون موسيقيًّا وهو يتبنَّى كلماتِ جيمس بالدوين المكتوبة وتلك المقاطع النثريَّة التي كتبها المخرج راؤول بيك لينقل لنا التصوُّر المذهل لعمق الصراع بين الكآبة والشكِّ الذاتي والقدرة على رؤية الحقيقة لدى بالدوين، بوصفه رجلًا أسودَ اجتمعت فيه جوانبُ عدَّة، شخصيَّة وسياسيَّة وجنسيَّة، تتكشَّف بطريقةٍ شفَّافةٍ وصريحة. هنا يرى بعض النقَّاد أنَّ فيلم «إرنست كول» هو عملٌ يحاولُ مضاهاة كلمات بالدوين اللاذعة وعبقريَّته الأدبيَّة، بالصور الفوتوغرافيَّة الجارحة والواقعيَّة التي تشغل معظم أجزاء الفيلم.

إذن، على اختلاف تجربتيهما وظروف حياتيهما، يستخدم راؤول بيك في إنجاز فيلميه الوثائقيَّين قراءةً مزدوجةً لما هو ناقصٌ أو غير مكتمل، بمجاورة الجوانب الشخصيَّة مع الحالة السياسيَّة والقضايا التي دافع عنها الفنَّانان كلٌّ بطريقته. كما أنَّ التجربة الحياتيَّة النضاليَّة انقطعت في منتصف الرحلة لكليهما، وإن كان بوقتٍ أبكر بالنسبة لكول، إلا أنَّ بيك خبيرٌ في تفكيك المواقف، وترحيلها زمنيًّا، ليواجه من خلالها الحاضر بأسئلته الشائكة.

حالة الضياع والتيه والمنفى تكادُ تكون مشتركة أيضًا، يقول بالدوين: «انتقلتُ إلى فرنسا ومعي 40 دولارًا فقط، لكنَّني لم أرغب في العودة إلى أميركا، لأنَّ ما يحدث لي هنا لن يكون بدرجة سوءِ ما يحدث لي هناك». وأمام ما تبثُّه وسائل الإعلام من سموم يصبحُ همسُ الفنانَين الهامشي متنًا قويًّا وصادمًا لمواجهة سطوة سرديَّة السلطة.

أورويل كمفتاح للمستقبل، يقول بيك مرّة أخرى

مع فيلم راؤول بيك الأخير، «أورويل: 2+2=5» (Orwell: 2+2=5 - 2025)، تتكرَّر الفكرة ذاتُها. حيث يصرُّ بيك على أنَّ العمل الأخير لأي كاتبٍ أو فنان هو بيانه النهائي، دمغته الحياتيَّة الأخيرة التي يتركُ لنا من خلالها رؤى وأفكارًا تتجاوزُ، بقوَّتها الذهنيَّة المتبصِّرة، زمنَها الماضي. ولا يتوانى المخرِج في استعادة مقاطع مؤثِّرة من عمل جورج أورويل الشهير «1984»، روايةُ الديستوبيا في عالمٍ لا تهدأ فيه الحروب، ورقابة الأنظمة والحكومات والتلاعب بالجماهير. كما هو واضحٌ في العنوان بمعادلته الخاطئة، حيث استخدمَ أورويل هذه المغالطة الرياضيَّة ليُظهر كيفيَّة التلاعب بالبشر وبرمجتهم ليضيعوا بين الكذب والحقيقة، وقد دخلت مصطلحات مماثلة من الرواية إلى الاستخدام الشائع منذ نشرها، ومنها: "الأخ الكبير"، و"التفكير المزدوج"، و"جريمة فكر"، و"الغرفة 101"، و"شاشة العرض"، و"بئر الذكريات".

يستند راؤول بيك إلى مقتطفاتٍ من كتابات ومقالات أورويل ليُعيد اكتشاف هذا الكاتب وعمله الأخير الفريد من نوعه، نحن هنا أمام عملٍ وثائقي غير سِيَري، بل هو قصَّة مكثَّفة عن الأشهُر الأخيرة لحياة هذا الكاتب، قصَّة مليئة بالموسيقى والصوَر والمقاطع النثريَّة المنتقاة بصوتِ داميان لويس وهو يمضي عبر شوارع مدمَّرةٍ بعد معركة البصرة سنة 2003 في العراق. أو راصدًا، سنة 2023، معاناة رجل يحتضنُ جثة ابنهِ في غزّة.

إذا كان جورج أورويل قد كتبَ ليُدينَ كذبةً، فإنَّ راؤول بيك يصنعُ أفلامًا ليُدينَ كذبةً، ويناضلُ ليُدينَ أخرى، ويحاولُ أن يكشفَ ألاعيب من يملأ الذاكرة بالأكاذيب، ويضاعفُ جرعات التحذير القادمة من الماضي لتفادي ديستوبيا المستقبل.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى