السينما فن الصورة. هكذا بدأت وهكذا سحرت أعين المشاهدين وخطفت قلوبهم. الصورة بكل ما يكتنفها من صمت، وبما تحمل في أبعادها من رموز وإيحاءات متعددة الدلالات، كافية لأن تخلق فنًا خالصًا يسمو بالمتلقي إلى فضاءات الدهشة والجمال. هكذا كانت السينما، جوهرها الصورة الصامتة قبل أن يجتاحها التطور التقني المتسارع ويُدخل الصوت عليها. وحينها بدأ الصمت يفقد شيئًا فشيئًا هيبة حضوره في الصورة السينمائية بسبب طغيان اللغة المنطوقة على لغة الصمت الخلاقة. ولكن هناك من المخرجين مَن أعادوا للصمت في كثير من أعمالهم هيبته الوقور داخل إطار الفيلم وأعادوا له مكانته السامية في عالم السينما، ومنهم المخرج التايواني تساي مينغ ليانغ والمخرج المجري بيلا تار وغيرهم. مجمل أعمال هؤلاء المخرجين تميزت بقلة الحوارات، حيث ركّزوا على السرد البصري بالدرجة الأولى، وعلى لغة الجسد في تواصل شخصيات الفيلم مع بعضهم بعضًا، وعلى نقل هذه المشاعر المختلفة للشخصيات عبر الصورة إلى المشاهدين. لذلك يقول تساي مينغ ليانغ في أحد حواراته التي ينقلها الأستاذ الأديب والكاتب السينمائي أمين صالح في كتابه «تساي مينغ ليانغ - عودة إلى جوهر السينما» : «الفيلم فن. لهذا السبب أنا أعود دومًا إلى جوهر الفيلم حين أحقق فيلمًا. والجوهر بالنسبة إلي، الصورة وليست القصة، ولا حتى الأداء. لذلك أبذل الكثير من الجهد في تحسين صور أفلامي وصقلها». من هنا تتخذ الصورة مكانتها الحقيقية في عناصر تكوين الفيلم حيث الصورة «جوهر الفيلم» كما عبّر عنها ليانغ.
الصمت والمعنى الضمني:
يقول العالم الأنثروبولجي الفرنسي دافيد لوبروطون في كتابه «الصمت - لغة المعنى والوجود» الذي ترجمه الكاتب المغربي فريد الزاهي: «إن قدرة الصمت على قول العديد من الأشياء في الآن نفسه يسمح بجوابٍ حاذق على سؤالٍ صعب أو صياغة غامضة. يتعلق الأمر حينها باللجوء إلى الأشكال العرفية للمعنى الضمني، وباقتراح المعنى من غير تصريح..» ومن هنا نستطيع أن ندرك قوة حضور الصمت في الصورة السينمائية حيث إنها تُشرِك المتلقي معها في عملية خلق الدلالات وتشريح المعنى الضمني داخل الصورة، حيث الصورة الصامتة تقول أكثر مما يقوله الكلام المنطوق الذي يُصرح ولا يلمح. ومن خلال هذه الرؤية نفهم لماذا الحوارات في سينما تساي مينغ ليانغ -على سبيل المثال- مقتضبة ومكثفة، تدفع أحداث الفيلم بإيقاع هادئ وبطيء على خطه الزمني إلى الأمام.
ارتباط الصمت بالحس الروحي والحس الشعري:
للصمت جذوره العميقة في الفنون والديانات والثقافات المختلفة، فلن تجد ديانةً أو حضارةً ما في مختلف الأزمنة إلا وللصمت حضور جوهري فيها، حيث يعيدنا الصمت إلى ما قبل الخلق، إلى الصفاء الكامل. وهذا ينعكس على الصورة السينمائية الفنية الخالصة التي تحمل في أبعادها الأحاسيس الروحية والشعرية، حيث الصورة هي نتيجة عملية خلق في مخيلة مبدعها المخرج الفنان، فمن الجانب الروحاني -مثلاً- ينقل دافيد لوبروطون في كتابه قولَ الفيلسوف الألماني الصوفي جاكوب بوهم: «حين تلزم الصمت فأنت حينها تكون ما كانه الرب قبل الطبيعة والخليقة، ومن حيث كوّن الطبيعة والخليقة. وحينها تُبصر وتسمع ما كان يرى به ويسمع فيك قبل أن تولد إرادتك وصمتك»، فإذا ما كانت الصورة السينمائية الصامتة خُلقت بحس فني عالٍ، فإنها ترفع من مستوى هذا الإحساس الروحي بالصورة عند المتلقي وبالتالي الإحساس الشعري ذاته، حيث الدهشة الفنية الروحية هي دهشة شعرية بالمقام الأول. وكما أن جوهر الفيلم هو «الصورة» الصامتة كما يقول ليانغ، فإن جوهر الشعر الحقيقي أيضًا هو انبعاثه من الصمت، حيث يقول الفيلسوف السويسري-الألماني ماكس بيكارد في كتابه «عالم الصمت»: «ينبعث الشعر من الصمت ويحن إلى الصمت...مثلما أن أرضية البيت مزخرفة بالموزاييك، فإن أرضية الصمت مزخرفة بالشعر. الشعر العظيم هو موزاييك مرصع بالصمت». إذن وبالرغم من أنه ليس كل صورة سينمائية صامتة تنضح بملامح روحانية أو شعرية، لأن ذلك يعتمد على عوامل عديدة فنية وذاتية تشارك في انبثاق هذا الحس الشعري أو الروحاني من أعماق الصورة مثل مستوى الحساسية الشعرية لدى المخرج، فإن الصمت أحد العناصر الجوهرية التي تساعد على رفع المستوى الروحاني أو الشعري للصورة السينمائية.
مثال من الأفلام:
- فيلم «الجزيرة العارية»:
أحد الشواهد الملهمة والمهمة لقوة حضور الصمت في عالم السينما هو فيلم «الجزيرة العارية» The Naked Island الذي أخرجه أحد أهم مخرجي الموجة اليابانية الجديدة التي انبثقت في ستينيات القرن الماضي، كانيتو شيندو. يعرض الفيلم قصة عائلة صغيرة مكونة من زوج وزوجة وطفلين يعيشون وحدهم على جزيرة صغيرة معزولة عن القرى المجاورة. لا نعرف على وجه الدقة سبب وجودهم في هذا المكان المنعزل عن العالم، ولا من أين أو كيف جاؤوا وآثروا العيش على هذه الجزيرة بالرغم من أنها تخلو من أبسط مقومات الحياة، إذ نرى الزوجين يعبران البحيرة إلى الجزيرة المقابلة التي تدب فيها الحياة يوميًا لملء دلائهم بالماء من أجل الشرب وريّ المحاصيل الزراعية والاستحمام، كما يعبرانها لإيصال أحد الطفلين إلى المدرسة وغير ذلك. الفيلم خالٍ تمامًا من الحوارات، والأسرة تتواصل مع بعضها بالصمت، متكئةً على لغة الجسد التي تنعكس عليها المشاعر المختلفة من الفرح أو الحزن والغضب. يعيشون في الحالة الطبيعية لهم في روتين دائم، ولذلك يعرف كل شخص منهم أدواره دون الحاجة إلى الكلام، وهذا يظهر جليًا منذ اجتماعهم الأول معًا في بداية الفيلم على مائدة الطعام، إذ نرى الطفلين يُعدّان المائدة لوالديهما اللذين وصلا للتو، حاملَين الماء على ظهريهما إلى قمة التلة، حيث تسكن العائلة. أحد عناصر قوة هذا الفيلم المتكامل على مستوى الصورة والأداء والتأليف الموسيقي الساحر، هو حضور الصمت الطاغي فيه، فمن خلال السرد البصري البديع لحياة هذه العائلة، أبدع كانيتو شيندو أحد أهم الأفلام التي تتمتع بروح الشعر وسحره الغامض، المنفتح على التآويل الكثيرة بسبب قوة حضور الصمت في شخصياته، الصمت الذي يمنح الفرصة للمُشاهد لقراءة إيماءات وإيحاءات اللغة الجسدية لهذه الشخصيات وتأويل تصرفاتها والإحساس بمشاعرها المختلفة عن طريقها دون الحاجة إلى الكلام، بالإضافة إلى فتح باب التآويل للفيلم فيما يتعلق بإسقاطاته الأشمل اجتماعيًا، واقتصاديًا، وسياسيًا.