جدلية تكوين الذات في فيلم «خلّي بالك من زوزو»

September 28, 2025

عند التطرّق إلى السينما المصرية العريقة لا يمكن أن نغفل عن ذكر قائمة أهم مئة فيلم مصري، والتي أعدها مهرجان القاهرة الدولي في دورته العشرين عام 1996 بمناسبة مئوية السينما المصرية، مع ذكرى حلول أول عرض سينمائي في مصر عام 1869. تضمّنت هذه القائمة -التي كانت نتيجة استفتاءٍ فنّي شارك فيه العديد من النقاد السينمائيين المصريين- أفلامًا خالدةً في الوسطِ السينمائيّ العربيّ والعالميّ على حدٍ سواء. وواحد من أبرز أفلام هذه القائمة المهمة هو الفيلم الغنائي الرومانسي: «خلّي بالك من زوزو»، والذي كتبه الأديب الشاعر والسيناريست: صلاح جاهين، وأخرجه حسن الإمام عام 1972. وشارك في بطولته عددٌ من نجوم السينما أبرزهم سندريلا السينما العربية سعاد حسني، والفنان حسين فهمي، والفنان سمير غانم، والفنانة تحية كاريوكا.

لقي هذا الفيلم صدىً واسعًا لدى محبّي السينما ومرتاديها؛ ولذا استمرّ عرضه لمدة سنة كاملة في سبعينيات القرن الماضي محققًا بذلك رقمًا قياسيًا في إيراداته المالية من شبّاك التذاكر. وتدور قصة الفيلم الرئيسية حول زوزو والتي تؤدي شخصيتها سعاد حسني، وهي فتاة تعيش صراعًا بين تحقيق أحلامها كطالبة جامعية حالمة بالاستقرار المهنيّ، وبين تحقيق رغبة أمها نعيمة ألماظية، التي تؤدي دورها الفنانة تحية كاريوكا، في أن تظل راقصة أفراح؛ لتحقيق المردود المادي الذي يعين أسرتها على ضنك العيش في شارع محمد علي. ومن ثم تأخذ حياتها انعطافةً أخرى عندما تلتقي مصادفة بالمخرج المسرحي سعيد كامل، والذي يؤدي دوره الفنان حسين فهمي، فيقعانِ في شرك الحب، وعندها تعيش في صراعٍ آخر هو صراع الطبقية الاجتماعية، عندما تكتشف بأنه من أسرة برجوازية على عكس أسرتها الفقيرة المتحدرة من شارع محمد علي.

هذه هي الحبكة الرئيسية التي من خلالها تظهر بعض التفرعات لتناول بعض القضايا الاجتماعية الشائكة، من خلال شخصيات الفيلم (مثل شخصية عمران المتطرفة دينيًا والتي لعبها الفنان محيي إسماعيل، والتي ظلّت تهاجم زوزو حتى نهاية الفيلم باعتبارها رمزًا للخطيئة)، أو من خلال الحوارات التي تميزت في بعض تمظهراتها بالبساطةِ والعمقِ في آن.

في المشهد الافتتاحي للفيلم تظهر الفنانة سعاد حسني بقوامها الممشوق، وهي تشارك في سباق الجري المُقام في الجامعة، لتحقق المركز الأول فيه انتصارًا لها ولكلّيتها. هذا المشهد المكثف يختزل شخصية زوزو الحالمة والطموحة في سعيها الدؤوب لتحقيق أحلامها الذاتية في النجاح والتألق في الجامعة -التي ستتكشف شيئًا فشيئًا مع تقدم الحبكة للأمام- لا أن تحقق رغبة أمها في امتهان الرقص في الأفراح. وقام المخرج بالتعريف بشخصية زوزو للمشاهدين من خلال الحوار السريع الذي أجرته إحدى الصحفيات العاملات في صحيفة "الحركة الإيجابية" الجامعية في المشهد الثاني الذي صُور في حمام السباحة، حيث تظهر لنا الصورة الانطباعية عن شخصية زوزو المرحة والحالمة من خلال إجاباتها على الأسئلة الموجهة إليها بواقعية ومرح مثل: «لماذا اخترتِ رياضة الجري؟! ما هو هدفك؟! ما هي مشروعاتك؟! هل تؤمنين بالزواج؟! هل أنتِ سعيدة؟! … إلخ»، وبهذا تتكون لدى المُشاهد صورة انطباعية أولى شاملة عن شخصية الفاتنة زوزو.

يضم الفيلم جماليات فنية عديدة، غير أني سأقف هنا عند مشهدَين استوقفاني لحظة مشاهدتهما، وقد عالجهما الكاتب بطرحٍ بسيطٍ، رغم ما يحمله الحوار من أبعادٍ عميقة: 

المشهد الأول: لقاء العشيقَيْن:

زوزو الحالمة بمستقبلٍ مستقرّ ومثمر، ترى في منامها فارس أحلامها، وبعد استيقاظها تهم بالخروج للجامعة فتفاجأ -مصادفةً- بسيارة عابرة تكاد تدهسها في الطريق، فتتبادل مع سائقها جدالاً حادًا فتتذكر أنه هو ذاته (فارس أحلامها) الذي رأته في المنام، وتتوالى المصادفات ليتضح أن هذا السائق هو المخرج سعيد كامل الذي سيلقي ندوة عن المسرح في جامعتها. يستقبل مقدّم الندوة الأسئلة من الجمهور، فيقرأ على المخرج السؤال ليجيب عليه، إلا سؤالًا واحدًا جاء من زوزو -التي بادلته نظرات المحبة والإعجاب- وهو «من أنت؟!». ولو أجاب سعيد كامل هنا على السؤال المطروح بأية إجابة لما كان للسؤال قيمته الوجودية العميقة، خصوصًا أنّ شخصيته "الظاهرية" معروفة لدى الجميع وزوزو من ضمنهم؛ لذلك يلتزم المخرجُ الواعي هنا بالقيمة الفلسفية للسؤال المطروح الصمتَ، ومن ثم يعلل عدم إجابته على السؤال عند لقائه بِـ«زوزو» بعد الندوة في مواقف السيارات بأن: «أصعب سؤال في الدنيا هو "من أنت؟!"».

هذا المشهد، على بساطته، يثيرُ أحدَ أهم الأسئلة الوجودية الكبرى المتعلقة بوجود الإنسان وماهيّته، حيث "الوجود يسبق الماهية" وهو المبدأ الذي ترتكز عليه الفلسفة الوجودية؛ حيث أنه كما يقول الفيلسوف والأديب الوجودي الفرنسي جان بول سارتر: «الإنسان هو كائن أولًا، ثم يتحول فيصير هذا الإنسان أو ذاك، وعلى الإنسان أن يخلق ماهيته الخاصة». ومن هذا الباب نفهم حيرة «سعيد كامل» في الإجابة على هذا السؤال الصعب حيث أنه -كما سيتضح لاحقًا في تقدم الحبكة- يصارع لأجل هويته الخاصة على الصعيد الفنيّ، الذي يحاول فيه رغم كل الصعوبات التي يواجهها تطبيقَ ما درسه في الخارج من مناهجِ الفن في بلده، وعلى الصعيد العاطفي الشخصي المتمثل في صراعه لإنجاحِ الحبّ بينه وبين زوزو، بالرغم من الهوة الشاسعة بينهما على المستوى الاجتماعيّ والاقتصاديّ.

المشهد الختامي - (الذات تصِفُ نفسها):

في المشهد الختامي للفيلم يُقيم طلاب الجامعة ندوةً لمناقشة موقف زوزو حينها، لعزمها على التوقف عن الدراسة بسبب الصدمات الاجتماعية التي أثَّرت على نفسيتها خلال تصاعدِ حبكةِ قصتها في الخط الزمني للفيلم، ويتساءلون: «ما هو ذنبها؟!»، وبين الأصوات الداعمة لإكمال مسيرتها الدراسية والأصوات المناهضة لذلك، تدخل زوزو في مشهدِ اعترافٍ مهيب تصف فيه ذاتها المنقسمة بين الفتاة الجامعية المثالية والفتاة الراقصة «الألماظية»، من خلال "الاعتراف" بالذنب القائم على "المخاطبة" بينها وبين الشخصية الدينية المتطرفة في الفيلم أثناء الاعتراف.

هذا المشهد البصري يتقاطع مع بعض التنظيرات الفلسفية التي وردت في كتاب «الذات تصف نفسها» للفيلسوفة الأمريكية المعاصرة جوديث بتلر، والصادرة ترجمتهُ ضمن مشروع إصدار الدراسات الفكرية لجامعة الكوفة بالتعاون مع دار التنوير. ترمي زوزو في بداية حديثها إلى أن ذنبها بأنها: «شالت وصمة "نعيمة الألماظية" أمها» التي بدورها «شالت وصمة شارع محمد علي»، الذي بدوره «شايل وصمة الزمن المتخلف!».
تشير هذه التداعيات الاجتماعية إلى دورها الجوهريّ في تكوين ذات «زوزو» التي تحاول في هذا المشهد وصفها. وهذا يحيلني إلى ما أشارت إليه «بتلر» في فصل (وصف الذات) إذ تقول: «لا تقف الـ"أنا" بمعزلٍ عن قالبٍ مُهيمن من المعايير الأخلاقية والأطر الخلُقية المتصارعة. عندما تسعى الـ"أنا" لتقديم وصفٍ لنفسها، وصف لا بد أن يتضمن ظروف نشوئها الخاص، فإن عليها بالضرورة أن تتخذ دور المنظر الاجتماعي"؛ إذ لا يمكن وصف الذات من دون الإشارة إلى دور المحيط الاجتماعي في تكوين هذه الذات».

وتقول زوزو في المشهد كذلك، في سياق وصفها لذاتها، بأن ذنبها يكمن في إخفاء حقيقتها خوفًا من الاضطهاد، فكانت هي أول واحدة تضطهد نفسها: «زوزو الفتاة المثالية تضطهد زوزو الألماظية»، وهذا يتقاطع مع ما ذكرته «بتلر» في فصل (مشاهد المخاطبة) حيث تقول: «في جينيالوجيا الأخلاق يقدم نيتشه وصفًا إشكاليًا للطريقة التي نبدأ بها تأمل أفعالنا، ونتبوأ بها موضعًا نستطيع منه تقديم وصف لما فعلناه من قبل، وهو يلاحظ أننا لا نصبح واعين بأنفسنا إلا بعد أن نتعرض لأضرار معينة. هنالك شخص يعاني نتيجة ضرر، وهذا الشخص، أو من يدافع عنه في نظام عدالة معين، يسعى إلى معرفة سبب تلك المعاناة، ويسألنا إن كان ثمة احتمال أن نكون نحن سببها»، نجد في هذا المشهد مثالاً حيًا على ما نظّر له الفيلسوف الألماني نيتشه هنا، في أنّ وصف الذات لا يتم إلا حين مثول الشخص أمام (نظام عدالة أو عقابٍ ما). 

ختامًا، أحبّ أن أشير إلى أن الأغاني في الفيلم كانت متجانسة مع أحداثهِ، وتمشي بالتوازي معها؛ بحيث أضفت عليها طابعَ البهجةِ والمرح من بداية الفيلم وحتى نهايته السعيدة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى