في تاريخ السينما المصرية، قلّما صُنع فيلم شبيه بـ «المومياء - 1969» – المعروف أيضًا باسم (يوم أن تُحصى السنين) – سواء قبل أو بعد ظهوره. هذه الملحمة التي أبدعها شادي عبد السلام- تحكي عن عشيرة في صعيد مصر تعتاش من نهب مقبرة فرعونية في جبل تسيطر عليه- ما تزال حتى اليوم علامة هادية لكثير من صناع السينما المصريين، إذ تكشف عن الإمكانات الكامنة داخل الصناعة. غير أن الفشل التجاري الذي واجه الفيلم عند عرضه الأول ما زال يثير تساؤلات حول موقعه في تاريخ السينما المصرية، خاصة في ظل غياب محاولات مماثلة سارَت على خطاه: فهل كان «المومياء» محطة مفصلية في سينما مصر منتصف القرن العشرين، أم أنها تجربة استثنائية وحيدة قد لا تتكرر؟
إن الكتاب الساحر للمؤلف يوسف رخا «بره وزمان: الحداثة المصرية في مومياء شادي عبد السلام» يأخذ على عاتقه مهمة هائلة في محاولة وضعِ الفيلم في سياقين متوازيين: تاريخي وشخصي معًا؛ ونسجِ التاريخين السينمائي والسياسي اللذين خرج من رحمَيهما الفيلم مع علاقة الكاتب الرقيقة به. يقدم رخا نصًا نادرًا يمزج بين النقد والمذكرات والنظرية، في صياغة تحمل عمقًا أكاديميًا لا يقل قوة عن بعدها العاطفي الكاشف. ولعل كثافة الفيلم الطاغية هي ما يفرض مثل هذا النهج الهجين؛ فليس بوسع المرء مناقشة حبكة الفيلم دون التطرق إلى الأحداث التاريخية التي استند عليها، ولا يمكن الحديث عن زمن إنتاجه من غير تفكيك أثر هزيمة مصر في حرب الأيام الستة، أو ما يُعرف بالنكسة، وما خلّفته من صدمة جماعية. وقبل كل شيء، لا يمكن إدراك موقع «المومياء» في تاريخ السينما المصرية دون التوقف عند علاقته الملتبسة بالتيار السائد.
يعد فيلم «المومياء» مهمًّا من منظور تراثي؛ ليس لتأثيره المباشر فحسب، بل لبقائه تحفةً على مرّ الزمان. وهذه أحد الأسباب وراء أثره العميق حتى يومنا هذا، ببساطة لا يوجد له مثيل في السينما المصرية، أو أقل ما في الأمر لم يقترب أي فيلم آخر من مكانته وشهرته. ليس ثمة ما يضاهي التصوير الأخاذ لمدير التصوير عبد العزيز فهمي. الذي قام بتصوير الفيلم حسب المقاس الأكاديمي الكلاسيكي، وهو خيار نادر في السينما المصرية آنذاك. يصور فيه دهاليز الجبل الضيقة، وأراضي صعيد مصر الشاسعة بنفس قدر الجمال الآسر. أما المعابد، فيوحي حضورها البصري بمزيج ملموس من الرهبة والدهشة كلما اقتربت منها الكاميرا. وكأننا، مثل (ونيس) بطل الفيلم، نتعثر في مواجهة شيء هائل لا يمكن الإحاطة به؛ لحظة كونية حاسمة بلا عودة.
يستند البحث الممتع لرخا إلى المصطلحين اللذين يتألف منهما عنوان كتابه «بره» و«زمان»، وإذا ما تُرجما بحياد، بدا كل منهما بسيطًا: «خارج» و«منذ زمن بعيد». لكن في سياق الأمة، يكتسب استعمالهما في العربية المصرية المعاصرة شحنة وجدانية مكثفة من الحنين والشوق؛ فـ«بره» تحيل إلى مكان يُفترض أنه أفضل، و«زمان» تحيل إلى زمن يُفترض أنه كان أفضل. أما الضمير الغائب فقد يكون المقصود منه الوطن، أو الاقتصاد، أو المشهد الحضري.
لكنه في النهاية لا يهم، إذ يصبح مجرد ذريعة للهروب من الحاضر. بوصفه فيلمًا تاريخيًا تدور أحداثه عند فجر الاحتلال البريطاني لمصر، ويدور حول حقل المصريات الذي نشأ أساسًا في سياق استعماري، وصُنع بعد فاجعة النكسة، فإن «المومياء» يكاد يفرض الإطار التفسيري للكاتب فرضًا.
وفق رواية رخا لم يُنتج «المومياء» عبر الآليات التقليدية في صناعة السينما المصرية، كما لم يكن موجهًا من الأساس للجمهور التجاري. بل بالأحرى كان مصنوعًا من الألف إلى الياء كفيلم نخبوي رفيع، مُعدّ للعرض في المهرجانات السينمائية، وليكون المحاولة الأولى لمصر نحو نيل جائزة الأوسكار. ولولا جهود المُخرج الأسطوري روبرتو روسيليني نفسه لما رأى هذا الفيلم النور حيث آمن بقوة بنص عبدالسلام لدرجة أنه وصل إلى حد مواجهة وزير الثقافة المصري آنذاك مطالبا بتفسير لرفضه تمويل المشروع في البداية.
ظلت السينما المصرية غائبة عن دائرة الضوء في المهرجانات الدولية باستثناء عدد قليل من صانعي الأفلام يأتي على رأسهم يوسف شاهين نتيجة لانشغال الصناعة بالسوق المحلي. وهنا تكمن مفارقة جوهرية في الإرث المعقد للمومياء. فبينما سعى الفيلم إلى تعزيز المكانة الدولية للسينما المصرية، إلا أن الأمر اقتصر على تلبية متطلبات الموزعين والذائقة العالمية.
ومع ذلك، فإن القول بأن الفيلم لم يكن موجَّهًا للمصريين سيكون تبسيطًا مخلًّا وغير مُجْدٍ على الاطلاق. الأدق أن نقول إن الفيلم لم يكن معدًا لعرض تجاري جماهيري داخل مصر، لكن دوامة التساؤل هذه حول "الأصالة" هي بالضبط نوعية المتاهة التي يقع فيها المرء حين ينخرط في خطاب وطني متحمس عاطفيًا كالذي يحيط بفيلم «المومياء». فالفيلم نفسه واقع في حلقة مفرغة يائسة من محاولات إضفاء الشرعية على وجوده؛ سعيًا وراء ما هو حقيقي وجوهري «مصري»، لم تمسه يد الغرب أو الحداثة أو غيرهما.
ورخا يُميط اللثام عن كل هذه التعقيدات ببلاغة، حيث يأخذ القارئ في جولة سريعة عبر التطورات المبكرة لعلم المصريات، وكيف أن تاريخ هذا الحقل وحده يكشف استحالة العثور على إحساس "الأصالة" والحس الأبدي بالمصرية بمنأى عن الحداثة والاستعمار. فقد كان للمستعمرين والمستشرقين المحترفين الريادةُ والسبقُ فيه.
يشير الفيلم إلى هذه المفارقة الواقعية من خلال شخصية كمال (محمد خيري)، عالم الآثار الشاب الذي أُرسل إلى صعيد مصر من قِبل عالم المصريات الفرنسي الشهير غاستون ماسبيرو نفسه، فبسبب نهب عشيرة «الحربات» للمقبرة الكائنة في جبلها، بدأت تظهر قطع أثرية غير مسجلة في السوق السوداء الدولية، الأمر الذي أثار استياء علماء المصريات الأوروبيين أمثال ماسبيرو. ومن هنا، جاءت مهمة كمال للتحقق من مصدر هذه القطع المهرَّبة، ليقوده القدر إلى الوصول في اليوم نفسه الذي يموت فيه كبير الحربات تاركًا المهمة لابنه، وبطلنا، ونيس (أحمد مرعي).
يحرك الفيلم شعور ونيس بالرهبة والخسة حين يكتشف الطريقة التي ظلّت عشيرته تعتاش بها، على الأرجح منذ قرون.
لا تؤول إليه المسؤولية مباشرة، إذ تنتقل أولًا إلى شقيقه (أحمد حجازي)، الذي يُقتل سريعًا على يد أعمامه بعدما يعلن رفضه مواصلة حمل إرث العائلة. حينها ينتقل العبء إلى ونيس الذي يفوق رعبُه من احتمالية نهب القبر الأثري حزنَه على مقتل أخيه الأكبر. يجد خلاصه في وصول كمال، حيث يفدي عائلته ظاهريًا بإبلاغ السلطات عن المقبرة في الجبل، والتي ستصبح في الواقع معروفة باسم (خبيئة الدير البحري- الخبيئة الملكية). ورغم صعوبة انقلابه على عشيرته وتقاليدهم، فإن استسلام ونيس للسلطات القاهرية يُصوّر على أنه خطوة بطولية، انتصار الأمة الحديثة على القبيلة ما قبل الحديثة.
ويدعم المنطقُ الأخلاقي للفيلم الافتراضَ القائم على أن كل مصري -حتى قبل تأسيس الدولة القومية الحديثة كما نألفها اليوم- يؤمن بالفطرة أن القطع الأثرية المصرية القديمة ملك للدولة.
ينتاب ونيس الذعر من فكرة إزعاج الموتى وبيع كنوزهم لتحقيق الربح، لكن ما الذي يجعل إرسال هؤلاء الموتى إلى متحف في القاهرة مختلفًا في عام 1881؟، فبدون انتشار الخطاب القومي في القرن العشرين الذي ينظر إلى الآثار على أنها حق لجميع المصريين (يجب على الدولة بالطبع حمايتها)، لماذا قد يهتم فرد من عشيرة صعيدية بمن يحصل على غنائم الملوك الموتى؟.
ففي نهاية المطاف، عرضهم خلف زجاج المتاحف القاهرية لم يكن ليشكّل صفقة أفضل بالنسبة لأولئك الذين كانوا يومًا ما هذه المومياوات، مقارنة ببيعهم لأوروبا. وفي ظلّ غياب حق تملك القطع الأثرية المصرية القديمة في فترة ما بعد الاستعمار التي ظهرت أثناء الاحتلال البريطاني لمصر، لماذا كان من المفترض أن يكترث شخص مثل ونيس في القرن التاسع عشر أصلًا؟
هكذا هي قوة الإسقاط لآراء شادي عبد السلام لرؤيته القومية المعاصرة لمصر وتاريخها على أفراد عشائر الصعيد في أواخر القرن التاسع عشر. إن نظرة فيلم «المومياء» لعلاقة المصري الحديث بالقديم متعصبة ورومانسية إلى درجة أن يُؤخذ عمر الدولة القومية الحديث القصير وكأنه واقع بديهي.
كما يزخر الفيلم بالأيقونية المصرية بكثافة، حتى إنه يؤطر نفسه بمشهدين جنائزيين لعويل نساء الحربات، في اختزال جنساني للأمة ذاتها، مرة عند تشييع موت كبير العشيرة، ثم ثانية عند خروج الملوك المحنطين من جوف الجبل ليُحمَلوا إلى الباخرة التي ستشق النهر صعودًا نحو موطنهم الجديد.
ورغم كل هذا الهوس بمسألة الأصالة المصرية فإن فيلم «المومياء» ينأى بنفسه بعيدًا عن المُشاهد المصري المعاصر باختياره أن يكون الحوار بالعربية الفصحى بدلاً من اللهجات المصرية العامية. غياب العامية ليس صادمًا في حد ذاته، إذ لم يكن استخدام العربية الفصحى أمرًا غريبًا في السينما المصرية بحلول عام 1969. فقد اعتاد الجمهور سماعها في الأفلام الدينية والتاريخية خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وأشهرها حتى اليوم فيلم يوسف شاهين «الناصر صلاح الدين- 1963». لكن على عكس حكاية عبد السلام التي تدور في زمن حديث نسبيًا، فإن الغالبية العظمى من تلك الأفلام كانت تدور أحداثها قبل قرون، إن لم يكن قبل ألفية كاملة، من تاريخ إنتاجها.
ومثلها مثل الملحمات التوراتية والتاريخية في هوليوود خلال الحقبة نفسها، لم يكن استخدام العربية الفصحى في تلك الأفلام لكونها ملائمة زمنيًا أو دقيقة من الناحية التاريخية. بل كان الهدف إضفاء مسحة من الفخامة والهيبة، واستدعاء شعور متوهّج بالتاريخ. يمكن مقارنتها بما تفعله السينما الأمريكية حين تُسند إلى أفلامها التاريخية لغة إنجليزية بريطانية ملكية، على الرغم من أن الشخصيات في تلك الأزمنة لم تكن تتحدث الإنجليزية أصلًا.
غير أن المومياء يختلف؛ إذ تدور أحداثه قبل أقل من قرن على إنتاجه. وهنا تظهر مفارقة لافتة: فالمكان والزمان في الفيلم قديمان أكثر مما يسمح باستخدام لغة حديثة، لكن منطق رحلة البطل لا يمكن فهمه إلا في إطار قومي حديث في جوهره. هذه الفجوة في التناسق لم تخفف منها أيضًا الخلفية المسرحية الطاغية لمعظم الممثلين، التي أضفت على كل جملة حوارية مبالغة فخمة، وزادت من إحساس الاغتراب الذي يلف الحكاية بأسرها.
وفي الوقت نفسه، فإن هذه التناقضات عينها هي ما يفرض العودة المتواصلة إلى فيلم «المومياء». بينما أتفهم بشدة رد فعل رخا بأن الفيلم لم يأسر خياله أو يستفزه بالطريقة التي يتوقعها المرء من الفيلم "الجيد"، أشعر أن تجاهل العمل الروائي الطويل الوحيد لشادي عبد السلام ليس خيارًا ممكنًا. فبرغم ارتباك سياسته وتناقضاتها، لا يسع المرء إلا أن يأمل أن يواصل الفيلم إلهام مزيد من الكُتّاب، على شاكلة رخا، لمحاولة إنجاز مثل هذه المغامرات الأدبية والنقدية والشخصية النافذة.