(أين الأيكة؟ ولّت.
أين النسر؟ اختفى.
ما معنى أن تقول وداعًا للصيد وللحصان الرشيق؟
إنها نهاية الحياة وبداية مغالبة الموت.)
- خطبة “سياتل” زعيم هنود «دواميش» وتعرف بـ «خطبة الهندي الأحمر».
في العام 1970 نشر المؤرخ والباحث الأمريكي دوريس براون كتابه الأشهر «ادفنوا قلبي عند الركبة الجريحة»، والذي يعيد فيه كتابة التاريخ السياسي والاجتماعي للولايات المتحدة في الفترة ما بين 1830 وحتى 1890، عبر سردية بديلة قائمة على منظور السكان الأصليين للأحداث. أثار الكتاب جدلًا كثيرًا، وفتح أبوابًا واسعةً للنقاش حول التاريخ الأمريكي، وحقيقة الصراع بين الحكومة - ومن قبلها المستوطنين - من جهة، والسكان الأصليين، أو الهنود الحمر حسب التسمية الرائجة، من جهة أخرى. وقد أدى هذا الصراع، في نهايته المأساوية، إلى ما يشبه الانقراض لهذه الشعوب، التي كانت تسكن الأرض (حسب وجهة النظر الأوروبية) قبل الاكتشاف الذي قام به كريستوفر كولومبس في عام 1492.
عنوان الكتاب الشاعري في مأساويته، والمثير جدًا للاهتمام، أخذه دوريس براون من اسم مجزرة شهيرة، حدثت في ديسمبر من العام 1890 بالقرب من غدير يسمى «الركبة الجريحة»، في جنوب ولاية داكوتا الجنوبية بالقرب من الحدود مع ولاية نبراسكا. وقد كانت نقطة النهاية في الصراع الذي أودى بحياة الشعوب الأصلية في الولايات المتحدة.
بعد أربعة عقود تقريبًا من صدور الكتاب، قامت شبكة «إتش بي أو» HBO التلفزيونية بإنتاج فيلم يحمل نفس عنوان الكتاب «ادفنوا قلبي عند الركبة الجريحة»، لسرد قصة المذبحة سينمائيًا، مستندين في روايةِ الوقائعِ إلى ما أرَّخ له دوريس براون.
مأساوية الحكاية وقسوة النهاية عند الركبة الجريحة
في بعض الأحيان، يبدو لنا أن التاريخَ شاعرٌ حريصٌ على تشذيب قصائده والاشتغال على استعاراتها وبلاغة كلماتها، وإن كان هناك من نموذج يؤكد على هذا فهو مذبحة «الركبة الجريحة».
بعد قرون من المذابح، والقتل الوحشي بكل الطرق والوسائل الممكنة، كُتِبت نهاية النضال الشعبي للهنود الحمر في العام 1890 عند غدير الركبة الجريحة، إذ قتل آخر زعمائهم المهمِّين «الثورُ الرابض - سيتينغ بول»، وتمّ إخضاعهم للقوانين القاسية التي سنتها حكومة الولايات المتحدة من أجل تدجينهم داخل ما تمت تسميته بالمحميات الهنديّة، وغاب أثرهم، وأصبحوا يشكلون أقلية صامتة، لا أثر لها ولا قيمة، بعد أن كانت الأرض لهم، والماء لهم، والسماء كلها. لم يموتوا فقط، بل تم تشويه سيرتهم، ووصمُهم بصفاتٍ الوحشية، وقد ألصقت بهم الأفعالُ التي مُورست عليهم لإبادتهم. فشُوِّه وجودهم، وتاريخهم، ومستقبلهم كذلك.
مذبحة الركبة الجريحة، كانت هي مشهد النهاية. مشهدٌ كتبه التاريخُ بصيغة سينمائية، اختصر كل الحكاية في عدّة لقطات. والأمر يبدأ قبل المذبحة بعدة أشهر، بداية العام 1890 حينما أعلن الزعيم فوفوكا أحد زعماء شعب البايوت -أحد شعوب السكان الأصليين- عن نبوءته الخلاصية بعودة المسيح، وبعثه من جديد في صورة أحد أبناء الهنود الحمر.
ولتحقيق النبوءة، فإن على كل أبناء الشعوب الهندية ممارسة طقسٍ ديني، أسماه رقصة الشبح، والتي بممارستها ستتمازج أرواح الراقصين بأرواح الموتى الذين سيهبون للقتال معهم، وسينتهي زحف الرجل الأبيض نحو الغرب، وبها ستتوحد القبائل، ويعم الرخاء والازدهار والأمن. وبدأ خبر هذه النبوءة والطقس الديني ينتشر مثل نارٍ في الهشيم بين أبناء السكان الأصليين، وهم الغرقى الباحثون عن قشةٍ لتُنجيهم، فأخذوا يمارسونها في كل وقت، وفي كل مكان.
شيئًا فشيئًا أخذت هذه الرقصة تثيرُ ذعر وريبة المستوطنين الأمريكيين، حيث ظنوا أن هذه الرقصة هي استعدادٌ لبدء تمرّدٍ مسلّح، وهو ذات الشعور الذي تنامى عند المسؤولين الحكوميين، وأُخذ القرار في نبراسكا بنزع سلاح الهنود القاطنين في المحميات الشمالية، وأسر كبار قادتهم كي تهدأ الأمور.
وبالطبع، لم تسِر الأحداث كما خطط لها، ففي الخامس عشر من ديسمبر وعند محاولة أسر الزعيم «الثور الرابض - سيتينغ بول» حدثت مقاومة من أتباعه، الأمر الذي دفع الجنود الأمريكيين لإطلاق النار وقتله هو وعددٍ من أتباعه بطريقة وحشية، فهرب من استطاع الهروب، وأخذوا النساء والأطفال ليحصلوا على الأمان عند زعيم آخر من زعماء شعب لاكوتا، وهو الزعيم «الأيل المرقّط - سبوتد إلك»، لكن الجنود تبعوهم، وتمّت محاصرتهم مع زعيمهم الجديد بالقرب من غدير الركبة الجريحة. وبعد ثلاثة أيام، انتهى الأمر بوقوع المجزرة، التي راح ضحيتها 300 إنسان حسب الكثير من التقديرات، أغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ. تركت جثثهم في العراء لأيام حتى جمدها الثلج، ليُدفنوا بعد ذلك في مقابر جماعية. واستكمالًا لمأساوية المشهد، قام الجيش الأمريكي بتكريم أكثر من عشرين جنديًّا شاركوا في المذبحة بوسام الشرف؛ أعلى تكريم عسكري تمنحه القوات المسلحة الأمريكية.
إن هذه المشاهدة القاسية، بنهاياتها المثيرة للسخرية حيث يكرم المجرمون، هي اختصارٌ لقصةِ معاناة الشعوب الأصلية على مدى قرون. ولذا اختار دوريس براون هذه المذبحة عنوانًا لكتابه الذي يروي تفاصيلَ مئات المذابح، ولذا كانت مناسبةً ليتم تناولها سينمائيًا.
السكان الأصليون والسينما الأمريكية: بين التهميش التام والتشويه القاسي
قبل خمسة أعوام أنتج الأخوان كوين فيلمها «ملحمة بستر إسكريجز» (The Ballad of Buster Scruggs - 2018)، وهو فيلم غرب أمريكي يحكي عدة قصص متفرقة. إلا أن الثيمة المؤكدة في الفيلم، هي إظهار السكان الأصليين بشكل متوحّش، يتصرّفون كالمجانين، يعذبون قتلاهم، ويسلخون فروات رؤوسهم بعد أن يفرغوا منهم. وهي روايةٌ مغلوطة، وصورةٌ بدأت تتغير في مخيلة الناس عن السكان الأصليين بعدما أفنى الكثير من المؤرخين عمرهم في محاولة تبيان الحقيقة وتفكيك الحملة الإعلامية الشرسة التي وجهها المستوطنون من أجل تبرير الإبادة والاستيلاء على الأرض، وكل الجرائم الأخرى.
إن إنتاج فيلم في العام 2018، يحمل مضمونًا عنصريًا ضد الهنود الحمر، يمكننا من فهم ماهية وجودهم في السردية السينمائية، فهم بين حالة تهميش تام، لا يتم ذكرهم ولا حتى التلميح إليهم، أو حالة تشويه قاسية، بتصويرهم كوحوشٍ جاءت الحضارة الأوروبية لتدجينهم وجعلهم بشرًا.
وقد نتذكر في هذا السياق حادثة رفض مارلون براندو لاستلام جائزة الأوسكار حينما حضرت الممثلة التي تنحدر من أصول السكان الأصليين ساشين ليتلفيثر لتقرأ خطاب رفضه للجائزة اعتراضًا على تصوير هوليوود للسكان الأصليين في أفلامها، وهو أمرٌ لم يتغير منذ ذلك الزمن، رغم مرور خمسين عامًا على الحادثة، ولذا حينما نقرأ عن فيلم «ادفنوا قلبي عند الركبة الجريحة»، وهو فيلم درامي، تاريخي، كتب بطريقة جيّدة، وتم تمثيله بطريقة ممتازة، نرى بأنه فيلم مغمور، لا يعرف عنه أحد، لدرجة أنه لم يطرح في صالات السينما في بادئ الأمر، وإنما كان فيلمًا تليفزيونيًا في الأساس.
وحينما نحاول أن نستحضر من الذاكرة اسم فيلم تناول الهنود الحمر بأسلوب جيّد، فإنا لا نتذكر إلا أسماءً تعدّ على أصابع اليد الواحدة، ولعل أهمها فيلم المخرج المكسيكي أليخاندرو إيناريتو «العائد» (2015 - The Revenant)، والذي صور الطبائع الإنسانية للهنود، دون أي تشويه ولا حتى محاولة لتجميلهم. وكلها تفاصيل تؤكد أن هذه الشعوب، وبطريقة متعمدة، ما زالت ترزح تحت ستار سميك يخفيها عن الوجود، ويمنعها من الظهور لتروي قصتها بالطريقة التي تراها، وتعبر عن نفسها بالشكل الذي ترغب به.