عندما اقتربت الموجة الواقعية الإيطالية الجديدة من نهايتها في أواخر الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي، اِنبعث من رمادها جيلٌ جديد من المخرجين فجّروا الطاقة السينمائية إلى أقصى حدودها، بأساليب مختلفة مرتكزة بالدرجة الأولى على إمكانات اللاوعي المتوهجة في أتون مُخيلاتهم الغنيّة بالصور السينمائية الخلّاقة، والبعيدة عن طُرق (الواقعية الجديدة) المطروقة سلفًا، فأخذوا بيد الصورة السينمائية إلى مناطق أبعد غَورًا في الأعماق، كاسرين بذلك الصورة النمطية للزمن السردي للفيلم، حيث تندمج الأزمنة والأمكنة ببعضها البعض مثل الكولاج، لا بداية لفضاءات دلالاته ولا منتهى. ومن أهم مخرجي هذه الحقبة الجديدة: مايكل أنجلو أنطونيوني (1912-2007)، بيير باولو بازوليني (1922-1975)، وفيدريكو فيلليني (1920-1993)، وهذا الأخير هو من ستركّز هذه المقالة على تجربته السينمائية الشعرية الفريدة من نوعها، والمؤثرة على السينما العالمية بشكل عميق، مع قراءة انطباعية لفيلمه البديع ½8 والذي أخرجه عام 1963م.
فيدريكو فيلليني:
انبثقت بدايات فيلليني السينمائية مع بروز الواقعية الإيطالية الجديدة في فيلم: (روما مدينة مفتوحة/Rome, Open City)، والذي أخرجه المخرج الإيطالي روبيرتو روسيلليني (1906-1977) عام 1945م، حيث اشترك فيلليني مع روسيلليني في كتابة سيناريو الفيلم. ثم توالت الأعمال المُشتركة مع روسيلليني حتى بِداياته الفعلية في الإخراج مع المخرج ألبيرتو لاتودو (1914-2005) في فيلم: (أضواء حفل المنوعات/Variety Lights) والذي أَخرَجاه عام 1950. في عام 1952 قام -مستقلاً بنفسه- بإخراج أول فيلم له بعنوان (الشيخ الأبيض/The white Sheik) ولكن لم تلقَ أعماله الصدى المدوي في الآفاق السينمائية، إلا بعد أن أخرج تحفته الفنية الخالدة: (الطريق/La Strada) عام 1954م،:ليضع بصمته السينمائية المؤثرة في المشهد السينمائي العالمي.
لم يكن فيلليني مهتمًا بالعالم الخارجي في أعماله السينمائية بقدر اهتمامه بعالمه الداخلي، بِذكرياته، وأحلامه وتَأمُلاته العميقة فيهما، وفي الرؤية الذاتية للوجود المنبثقة منهما؛ ولذلك أعاد السينما إلى الاستوديوهات التي تحرّرت منها سينما الواقعية الجديدة وهي في ذروتها، حيث الاستوديو هنا هو انعكاس لعالمه الداخلي كما تراه مخيلته المتوقدة. آمن فيلليني بالمنابع الذاتية للفن، ورأى الغنى في ذكرياته وأحلامه وآمن بمقدرتها على خلق أعمال إبداعية حقيقية تُلامس الآخرين وتؤثر فيهم، فراهن عليها وكسب الرهان. وهذه الرؤية الفنية هي رؤية شِعرية عميقة إذ يقول شاعر ألمانيا الكبير "ريلكه" (1875-1926) في كتابه البديع (رسائل إلى شاعر شاب): «انجُ بنفسك من معالجة المواضيع العمومية إلى تلك التي تتيحها لك حياتك اليومية. صِف أحزانك وأمانيك، والأفكار التي تعترضك وإيمانك بأي جمالٍ ما، صفْ ذلك كلهُ بصدقٍ حميمٍ وهادئ ومتواضع، واستخدم لتُعبر عن نفسك الأشياء الموجودة في محيطك، والصور التي تظهر في أحلامك، والأشياء التي تحتفظ بها ذاكرتك». ولذلك يُعتبر فيلليني أحد أعظم شعراء السينما من هذا المبدأ حيث «الشعر يكمن في الذاتي الخاص لا العام المُشترك» كما يُشير بذلك الشاعر والمفكر العربي المعاصر (أدونيس) في أحد حواراته التليفزيونية، وجماليات فنية أخرى عديدة تزخر بها فضاءات صُوره السينمائية وأسلوبه الفنيّ الفريد.
(½8) الفيلم/الحلم:
آمن فيلليني-كما السورياليون- بقدرة اللاوعي الهائلة على تفجير الطاقة الإبداعية في مخيلة الفنان بأقصى ما يمتلكه اللاوعي من مخزونٍ هائلٍ مُتمثلٍ في التجارب الحياتية الذاتية بمختلفِ أبعادها، صغيرها وكبيرها، مخفيّها وظاهرها، ولذلك حاول فيلليني في معظم أعماله سبر أغوار اللاوعي العميقة، والأحلام هي أبرز منابع اللاوعي الدفينة التي تناولها الفن، وأشبعها علم النفس تنظيرًا بدءًا من (سيغموند فرويد) مروراً بـ(كارل يونغ) وحتى (إيريك فروم) الذي سَأستشهد هنا ببعض ما جاء به عن الأحلام في كتابه البديع: (اللغة المنسية-دراسة ممهدة لِفهم الأحلام والحكايات العجيبة والأساطير).
«الأحلام هي الحقيقة الوحيدة» هذا ما قاله فيلليني في مذكراته (أنا فيلليني)، الصادرة عن دار المدى في طبعتها الأولى عام 2012، وقد عكس هذه الرؤية العميقة للأحلام في فيلمه البديع ½8 حيث يفتتح الفيلم بحلم! وهي واحدة من أجمل الافتتاحيات السينمائية على الإطلاق، إذ نجد بطل الفيلم (غويدو) الذي يؤدي دوره الممثل الإيطالي الكبير "مارسيلو ماستروياني" (1924-1996) محتجزًا داخل سيارته في إحدى الطُرق المزدحمة؛ حيث السيارات متكدسة والناس يحدقون في معاناته من خلال نوافذ المركبات بدمٍ بارد! نجده يقاوم للخروج من هذا الزحام الخانق من سيارته التي يملؤها الدخان، حتى يتحرر أخيرًا فيطير في الهواء، يطير بخفة وسكون، حتى يعبر الغيوم لأحد الشواطئ، فيقع ضحيةً لشخص طفولي على الشاطئ يَجرهُ بالحَبل المتدلي من قدمه إلى الأرض آمرًا إياه بالنزول، فيسقط في البحر وفي هذه اللحظة يستيقظ "غويدو" من حلمه. هذه الصورة المكثفة تختزل كل عذابات "غويدو" الداخلية في محاولاته لكتابة وإخراج فيلم ما، حيث يعاني البطل من "حبسة الكاتب" التي تزيد من معاناته وهو في سفره بعيدًا عن زوجته في رحلة علاجية؛ حيث لا هو ولا الناقد الذي استشاره مقتنعَيْن بما كتبه، وقد أجّل تصوير فيلمه لأسبوعين لأجل إنجاز هذا الفيلم. يريد "غويدو" التحرر والخلاص من الأفكار التي تُثقل رأسه دون جدوى، هذه الأفكار التي يصورها لنا "فيلليني" في بداية الفيلم/الحلم بالبشر المحدقة عيونهم الحجرية في "غويدو" دون تحريكِ ساكنٍ لإنقاذه.
وكما أن (اللاوعي) مُربك ومشوّش ولا تنتظم صوره في خط زمني مستقيم، يعكس "فيلليني" هذه الصفة في الفيلم ذاته عن طريق الانتقالات الفجائية المربكة للمُشاهد، حيث يختلط الواقع بالحلم والذكريات الممتدة إلى طفولة "غويدو" الدينية المتطرفة، ومغامراته المتمردة مع الأطفال، وذكرياته مع أمه وأبيه التي يسترجعها "غويدو" في ذهنه محاولاً الاستفادة من هذه المنابع في كتابة فيلمه، إلا أنه يظل غير مقتنع بأي من تلك الأفكار المستلهمة منها حتى نهاية الفيلم. يقول "غويدو" في إحدى حالات يأسه الطافحة: «ظننتُ أن أفكاري كانت واضحة، أردتُ أن أقوم بفيلم صادق لا أكاذيب فيه، ظننتُ أن لدي أشياء بسيطة لِأقولها، أشياء مفيدة للجميع، فيلم قد أحفره في أعماق الجميع، بدلاً من تلك الأشياء الميتة التي نحملها في داخلنا، بدلاً من ذلك لا أجد الشجاعة لأحقق شيئًا على الإطلاق»، هكذا يأخذنا الفيلم بسحره الغامر نحو منابع اللاوعي في أعماق "غويدو"، متلمسين مكابدات الفنان الهائلة في إنتاج عمله الإبداعيّ في خليطٍ مدهشٍ بين الواقع والأحلام والذكريات. هذا الواقع المتخيّل لـ"غويدو" هو ما يؤمن به فيلليني ذاته، وعكسه في الفيلم حيث يقول في مذكراته: «كل إنسان يعيش في عالمهِ المتخيل، ولكن معظم الناس لا يعون ذلك. لا أحد يدرك عالم الواقع، وكلٌ يعتبر -ببساطة- أن تخيلاته الشخصية هي الحقيقة. الفرق بيني وبين الآخرين هو أني أعرف أنني أعيش في عالم متخيل».
يؤمن (فيلليني) بالمرأة بكل أبعادها الحسيّة والمعنوية، في دورها الجوهري في إلهام المبدع حيث يقول: «العملية الإبداعية أشبه بلقاء غير متوقع مع امرأة! امرأة تَلحظها في لحظةٍ خاطفة، فتشعر بانجذابٍ غامضٍ نحوها، ثم تبدأ في تطوير علاقتك بها في خيالك. امرأة، في الواقع هي ذلك الجزء من ذاتك والذي لا تعرف، فتسلّط الضوء عليه لتكشف ذاتك، العملية الإبداعية تشبه ذلك. صورة المرأة حاضرة دومًا في أي محاولة إبداعية». ولربما صورة هذه المرأة الملهمة في ذهن فيلليني هي انعكاس لآلهات الإلهام "الميوزات" في الأساطير اليونانية؛ لذلك يعكس هذه الصورة على بَطله (غويدو) الذي يعيش حياة مزدوجة ومعقدة بين زوجته (لويزا) وخليلته (كارلا)؛ ولكن تتضح هذه الرؤية بشكل واضح في شخصية (كلوديا) التي تظهر على مشارف نهاية الفيلم، حيث يخرج من المسرح الذي تُقام فيه تجارب الأداء لاختيار الممثلين عند وصولها فيقول لها في السيارة: «أنتِ في غاية الجمال، إنني عاجزٌ عن الكلام، تجعلين قلبي ينبض كطالب مُراهق، ألستِ تصدّقينني، أنتِ مصدر إلهام شديد!».
المشهد الختامي للفيلم لا يقل جمالًا عن المشهد الافتتاحي، حيث يكون "غويدو" في موقع تصوير الفيلم الذي قرّر سلفًا عدم تصويره، فيشعر فجأة وهو في سيارته بسعادةٍ غامرة تدب في أعماقه، هي سعادة التحرر والخلاص حيث اكتشف بأن الطريقة الوحيدة للخلاص مما هو فيه من مكابدات أليمة، هي قول الحقيقة بكل صدق وبساطة شفيفة. يصغي "غويدو" للصوت الداخلي في أعماقه وهو يخاطبه ويخاطب "ميوزاته" بقوله: «ما هذه السعادة المفاجئة التي تجعلني أرتعد؟! وتمدّني بالقوة والحياة؟! اغفرن لي أيتها المخلوقات الحلوة، لم أفهم، لم أعرف، طبيعي جدًا أن أتقبلكن وأن أحبكن، وأمر بسيط … "لويزا" أشعر أني أصبحت حرًا، لم أعد أخشى قول الحقيقة، للأشياء التي أجهلها، التي أبحث عنها ولم أجدها، هذه الطريقة الوحيدة لأشعر أنني حيّ».
وهذا يحيلني إلى ما ذكرته الكاتبة الأمريكية "دوروثي براندي" في كتابها "لياقات الكاتب" عن (الغيبوبة الفنية ووصفة الكاتب السحرية) حيث تقول: «أحيانًا نسمع عن أناسٍ موهوبين، يوشكون على الانهيار لأنهم يشعرون بأنهم يمرون بمرحلة عقم، ولكن فجأة يرحل الصمت، ويشعرون برغبة في الكتابة، هذه المرحلة الغريبة، المتحفظة، والانفصالية، سُميت بـ(الغيبوبة الفنية) من قِبل مراقبين دُهاة لدرجة أنهم عرفوا أن الخمول ليس سوى خمول على مستوى السطح لا العمق. شيٌ ما يتحرك، ولكن بصمتٍ وعمق، بالغين لدرجة يصعب معها ملاحظة أي إشارة تدل عليه، إلى أن يجهز للخروج». وتلك اللحظة التي شعر فيها "غويدو" بأن هذا البركان الداخلي للإبداع سوف ينفجر، كانت لحظة احتفالية مُهيبة، حيث اجتمعت كل الشخوص الموجودة في الزمن الحاضر، وتلك الأخرى القادمة من البعيد، من ذكرياته النائية في مشهد احتفالي راقص انتهى على بهجتها الفيلم وابتدت رحلة "غويدو" في مخيلة المُشاهد لإخراج فيلمه المُنتظر.
ختامًا أعتقد بأن أدق وصف لهذا الفيلم البديع هو ما جاء في كتاب (اللغة المنسية) لعالِم النفس الألماني الشهير "إيريك فروم"، حيث يقول في مقدمة الكتاب عن الأحلام: «إنَّ لجلِّ أحلامنا: خاصية مشتركة: فهي لا تتبع قوانين المنطق التي تسود فكرنا اليقظ، فمقولتا المكان والزمان مهملتان فيها، إذ نرى الأموات والأحياء، والحوادث التي نراقبها في الحاضر قد حدثت قبل سنواتٍ كثيرة. ونحن نحلم بحادثتَيْن تجريان على نحوٍ متزامن، في حين أنه من المستحيل في الواقع أن تحدثا في الوقت ذاته، ولا نولي غير اهتمام طفيف جدًا لقوانين المكان. ويسيرٌ علينا أن ننتقل إلى مكان بعيد في لحظة، وأن نكون في مكانَيْن في وقتٍ واحد، وأن ندمج شخصين في شخص، أو أن يكون لنا شخص يتحول على حين غرة إلى آخر. وفي الحقيقة نحن في أحلامنا مبدعو عالم ليس للزمان والمكان اللذين يحددان كل نشاطات جسدنا، سلطانٌ عليه» .