أزمة انتقاد الفيلم السعودي

December 10, 2023

تكشف لنا مواعيد صدور أفلام الفترة المقبلة عن عديد من الأفلام السعودية، وكعادة كل فيلم يتم عرضه، تأتي فترة مطالعات النقاد والجمهور، وتتناثر الكلمات ما بين معجب ومنتقد. يتبين لكل مَن يطالع المشهد السينمائي المحلي في السعودية أن هناك حالة متفردة نسبيًا عن غيرها من أشكال الفنون الأخرى، حالة تنم عن تضارب أطراف عديدة حول رؤيتها للفيلم وعن مدى قابلية الحالة النقدية للعمل، والهدف من هذا المقال ليس تقديم دراسة تحليلية عميقة للوضع الراهن، ولكن محاولة متواضعة لرصد جزء من تمظهرات النقد السينمائي، والذي يُعدّ أحد الأركان الأساسية لتكوين السينما المحلية، ويكاد لا يوجد بلد ذو سينما ناجحة دون وجود حالة نقدية رصينة لمشهده المحلي.

ضعف الكتابة. إن من أكثر الانتقادات التي تطال الفيلم السعودي شيوعًا تتعلق بجودة الكتابة وتشابه حكاية الفيلم مع المجتمعات السعودية. هناك رغبة واضحة، ليس فقط من قِبَل المشاهدين، بل من صُنّاع الأفلام أنفسهم، أن يكونوا مرآة، وأن ينسجوا صورة هذا المجتمع عبر الضوء السينمائي. يعود هذا الاعتراض إلى سببين رئيسين، الأول جذور الثقافة التلفزيونية وسيطرة مخرجين غير سعوديين على القطاع، والآخر حساسية التطرق إلى موضوعات مثيرة للجدل. إن الإلحاح الجماهيري لمطالعة ما يشبهه يتجذر من عقدة الفشل التلفزيوني الدرامي التي اعتاد المُشاهد السعودي أن يُشهر سكاكينه عليها بسبب سيطرة المخرجين الأجانب على الإنتاج المحلي. 

يميل المُشاهد والناقد السعودي إلى التركيز على عناصر متنوعة في الأفلام مثل اللهجات المستخدمة وركاكتها أو واقعية الشخصيات وعمق كتابتها، بالإضافة إلى اختيار مواقع التصوير الداخلية ومدى تشابهها مع الهوية السعودية في الديكورات الداخلية والإضاءة وغيرها. تُظهر لنا هذه المقاربة أن هناك حالة من الامتعاض من الأفلام التي ابتعدت عن شكل الحياة اليومية في السعودية، إما من الناحية الشكلية للفيلم ما بين تصوير واستخدام «الميزانسين» (mise en scene)، أو من أداء الممثلين الذين لا ينتمون إلى البيئة المصورة. إن الإخلال في هذه التفاصيل يعيد إلى الذاكرة الجمعية أعمالاً تليفزيونية اعتدنا أن نشاهدها وهي تشوّه لهجات وتفاصيل الحياة اليومية مرارًا وتكرارًا، ويطرح سؤالاً لدى بعض الناس: «هل السينما ستكون فقط نسخة أخرى من المسلسلات؟». 

على الجانب الآخر، فإن التطرق إلى الموضوعات الحساسة -والتي لا تعد في العادة ظاهرة اجتماعية- يعد أمرًا محرمًا ومستنكَرًا عند العديد من المشاهدين ويدخل في حيّز القياس المجتمعي، أي أن هذه القصة ما هي إلا ضرب من شذوذ المجتمع ولا يجب أن تُصوَّر بوصفها ظاهرة اجتماعية. لمثل هذا النقد قبول مجتمعي كبير، بالنسبة إلى المُشاهد السينمائي أو إلى غيره، فالخصوصية المجتمعية عند السعوديين عالية، والتطرق إلى القضايا الحساسة يثير حفيظة بعض الناس، إلا أننا يجب أن نتذكر أن السينما يجب ألّا تكون محصورة لتصوير الظواهر العامة والشائعة في المجتمع، وأن صانع الفيلم يمتلك الحرية نفسها التي يمتلكها الصحفي والأديب والباحث الأكاديمي، بل إن السينما تمتلك قدرة كبيرة جدًا لتحليل وتفكيك هذه القضايا الحساسة، تلك القضايا التي كانت جزءًا مهمًا من نجاح سينمات كثيرة في أوروبا واليابان وإيران وغيرها من الدول. والأجدر لنا أن ننظّر لهذه الأفلام من زاوية المعالجة السينمائية والموقف الأخلاقي لا من منطلق أن هذه القصة حالة شاذة وأن المخرج كان عليه أن يتجنبها.

مشرط السينما الفنية والتجارية. ما لاحظته في كثير من المقالات والآراء التي تتعاطى مع الفيلم السعودي أنها تميل إلى توقعات فنية عالية بصرف النظر عن محتوى الفيلم ومعالجته الفنية. لا يخفى على القارئ أن هناك نوعين من السينما، أحدهما هدفه جماهيري وربحي والآخر فني ونقدي. والسينما التجارية بطابعها العام تتجنب المعالجة العميقة والدقيقة للقصة والشخصيات المصورة وتتجه أكثر إلى تصوير حبكات سهلة الاستهلاك ولا تتطلب حضورًا ذهنيًا عاليًا للمُشاهد العام. أفلام مثل «شمس المعارف» و«الخلاط» و«راس براس» و«سطّار» هي أفلام موجهة بوضوح إلى الجمهور العام، وقد حققت نجاحًا وقبولاً مثيرًا للإعجاب، ولكن في الوقت ذاته لاقت هذه الأفلام بعض ردود الفعل السلبية التي تتعلق بجوانب فنية من الفيلم كالتصوير السينمائي وسهولة الحبكة وضعف التمثيل أو حتى تبنّي هذه الأفلام بعض أساليب أفلام هوليوود، وعلى الرغم من أن هذا القياس النقدي يندرج تحت مظلة الجوانب الفنية وأن الفيلم التجاري ليس مطلوبًا منه بالمقام الأول إتقان جوانبه الفنية بقدر تقديم مادة، ترفيهية، يستطيع من خلالها أن يضخ مداخيل مالية ويبيع عددًا كبيرًا من التذاكر لخلق سوق محلي سينمائي يُقاس نجاحه من منطلقات اقتصادية في أغلب أحواله.

إن الفصل بين السينما الفنية والتجارية مهم جدًا. فالأولى هي سينما الثقافة العالية، تستهدف المهرجانات، وهي خطاب يميل إلى الخطاب الذاتي للمخرج. تعد السينما الفنية حلقة وصل بين المجتمعات العالمية ووسيلة إلى حكاية سرديّتنا، تحليل قضايانا، ونسج لوحة تضاريس هذه الأرض. من خلال السينما الفنية، يمكن لصانع الفيلم الطويل والقصير أن يجوب العالم، أن يدخل صالات العرض في مهرجانات آسيا الشرقية ومهرجانات المغرب العربي وغيرها من المجتمعات. أما في المقابل، فإن السينما التجارية قطاعٌ مهم للترفيه وخلق خط اقتصادي جديد قادر على أن يضخ آلاف الوظائف وأن يجعل هذا القطاع السينمائي قابلاً للاستدامة والتوسع في كل أرجاء البلاد.

الجانب الأخير، الخوف من النقد. يُعدّ النقد بحد ذاته، عند مجموعة من المُشتغلين بالسينما السعودية ومُشاهديها، أمرًا شائكًا ومحفوفًا بالتخوف من محاولات الإحباط أو النظرة التشاؤمية، فالملاحَظ أن هناك مجموعةً تميل إلى التحفظ، وعدم قبول النقد السلبي بذريعة أننا ما زلنا في بداية المشوار، والمعيب في هذه المقاربة أنها تتكئ على فاصل وهمي، ومقياس ضبابي، يحاول أن يرسم نقطة بداية جديدة يستطيع الناقد انطلاقا منها أن يُخرج فيها أسلحته. لذلك ليس مستغرَبًا أنك بعد الإدلاء برأيك حول فيلم سعودي أن تجد مجموعة من الأشخاص يردّون بأن كلامك تشاؤمي ومجحف وأننا موعودون بمستقبل أفضل وأننا في طريق التطور، وكأن النقد، وإن كان قاسيًا، هو بذاته عملية هدم لا عملية بناء، ناهيك عن محاولات تشتيت الحوار النقدي، لينتقل من الحديث عن الفيلم إلى الحديث عن جدوى النقد. إنني هنا لا أدحض حقيقة أننا ما زلنا في مرحلة التشكيل السينمائي، خصوصًا من الجانب الإنتاجي والعملي، وأننا في مسار تطوري ملحوظ، لكن هذا لا يستدعي التحسس من النقد، بكافة أشكاله، فالنقد عملية محفزة لفتح حوار فيه شد وجذب بين الرأي والرأي الآخر، وإننا بذلك نفتح آفاقًا جديدة تعيد صياغة سينما محلية نستطيع من خلالها أن نطوّع هذا الوسيط السينمائي لصالح روايتنا.

في الختام، لم تكن السينما يومًا عبر تاريخها، محصورةً في دور "مرآة المجتمع" بالنسبة لصانع الفيلم، بل إن الواقعية السينمائية ما هي إلا مدرسة وأسلوب لفن متعدد الأشكال ومتفرد القدرات. يميل كثيرٌ من المخرجين، كحال أي فن آخر، إلى التعبير الذاتي الفرداني الذي ينبع من تجارب شخصية عاشها كاتب أو مخرج الفيلم، وعلينا ألّا نحصر السينما في إطار الرواية المجتمعية. والقارئ بكل تأكيد لا يحتاج إلى التذكير بأن هناك أشكالاً متعددة للأساليب السينمائية، ما بين الخيال العلمي والسريالية والرعب، وجميعها أساليب من حق المخرج السعودي أن يتعاطاها في حيّز تنفيذ فني مقبول. إن التكريم الحقيقي للمخرج هو هذا السيل الكبير من ردود الفعل حول فيلمه، وهذا الحوار المتقد، الذي يحاول أن يفهم ويحلل تلك المادة التي قدّمها. إن الخوف من النقد، في نهاية المطاف، لا يجب أن يحجب أو يثبّط أقلام الكُتّاب ما دام النقد لم يدخل في دائرة المساس بالجانب الشخصي للأفراد.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى