هناك توجُّهٌ يكاد يكون عليه إجماع في وصف المخرج الراحل حاتم علي بـ "الناجح" تليفزيونيًا، و"المتعثّر" سينمائيًا؛ رغم أن سجلَّه السينمائي لا يرقى إلى مرحلة إصدار الأحكام عليه، فهي تجاربُ تعدّ على أصابع اليد الواحدة، وتبدو مسألةُ محاسبتها أمرًا معقدًا، لاسيما في مناخٍ عامٍ لا يرى السينما من منظورها الحقيقي والأصلي، ويعتبرها ترفًا لا يستحقه الصناع والجمهور بشكل عام.
وحتى نكون أكثر دقة، فإن أعماله السينمائية تقتصر على فيلم «العشاق» إنتاج سنة 2005، المقتبس من مسلسله الاجتماعي ذائع الصيت «أحلام كبيرة» من إنتاج شركة سوريا الدولية للإنتاج الفني. وقد أشرف في نفس السنة على إخراج فيلمٍ قصيرٍ بعنوان «شغف» من إنتاج المؤسسة العامة للسينما بسوريا.
وفي سنة 2008، أبصر الفيلم الغنائي «سيلينا» النور، وهو فيلم مأخوذ من نص كتبه الأخوين الرحباني منذ سنوات طويلة، وأنتَجه نادر الأتاسي وشاركت في بطولته الفنانة ميريام فارس؛ ويليه في نفس العام الفيلم الروائي «الليل الطويل» عن نصٍ للمخضرم هيثم حقي ومن إنتاج «أفلام ريل».
ويتوقّف العدّاد هنا بعد أن راوحَت هذه التجارب مكانها في ظلِّ غياب قاعات العرض والظروف المواتية لعروضٍ صحية جماهيريًا ونقديًا، أسوةً ببقية دول العالم التي تقدّر السينما ومكانتها المرموقة؛ فهل ينبغي الحكم على تجربة حاتم علي السينمائية بعد كل هذا؟ ومن أي منظور، ومن أي زاوية؟
هذه أسئلةٌ منطقيةٌ لابد من أخذها بعين الاعتبار قبل إصدار الأحكام الجاهزة؛ لكن المفارقة العجيبة التي لابد من التوقف عندها مليًا، ونحن نرصد مسيرةَ هذا الرجل، تكمن في نهايته الصادمة لكلّ عشاقه في الوطن العربي، حين باغتنا خبر رحيله الموجِع صبيحةَ يوم 29 من ديسمبر سنة 2020.
فقد انبرى الجميع آنذاك لاسترجاع مشاهد من روائعه التلفزيونية المتنوعة بين الدراما التاريخية من «الزير سالم» إلى «صلاح الدين الأيوبي» و«الثلاثية الأندلسية» و«عمر»، إلى الاجتماعية على غرار «أحلام كبيرة» و«عصي الدمع» و«الغفران» و«قلم حمرة»، وحتى الكوميدية مثل «الفصول الأربعة» بجزأيه و«عائلتي وأنا» وحتى سلسلة «مرايا» الشهيرة وغيرها الكثير؛ لكن الرسالة الأخيرة التي وجّهها حاتم علي إلى منتقديه قبل محبّيه، والتي لم تصل للمتلقي العربي بالصورة المُثلى، تتلخّص في مشاركته المهمة في آخر أعماله السينمائية، فيلم «سلام بالشوكولا».
وبالفعل، فقد ودَّعَ الجميعَ عبر بوابة السينما دون أن يسعفه القدَر لرؤية الفيلم وهو يُعرض على الشاشات ويجوب المهرجانات كما ظلّ يتمنى دائمًا؛ حيث كان العرض الأول بتاريخ 18 يونيو عام 2021، ضمن مهرجان تريبيكا السينمائي في نيويورك، ليكون بطَله غائبًا حاضرًا، وقد ظلّ طيفه يمشي متنقلًا في أرجاء القاعات وفي قلوب محبّيه.
يحمل فيلم «سلام بالشوكولا» في طياته موضوعًا لطالما راود تفكيرَ ومخيّلة حاتم علي قبل رحيله، إذ يتناول مأساةَ اللاجئين السوريين في بلاد المهجر؛ لكنه ينقل هذه المرة قصةَ نجاحٍ باهرةٍ أسَرَت قلوب الكنديين وجعلت رئيس وزرائهم حينها، جاستن ترودو، يذكرها في صميم خطابه أمام اجتماع الأمم المتحدة سنة 2017، وينوه بها، لتصبح من العلامات الفارقة في التعاطي الدولي مع قضية اللاجئين عمومًا، وتُحدث تغييرًا جذريًا في زوايا النظر إليها.
إنها قصة عائلة «عصام هدهد» الحقيقية، التي غادرت سوريا بعد أن طالت نيران الحرب مصنعها الخاص بالشوكولاتة في دمشق. فيُضطر بعدها اﻷب إلى قبول توسلات زوجته وابنه للمغادرة نحو لبنان، وبعدها إلى كندا للحصول على التأشيرة والالتحاق بابنه طارق الذي سبقهم، وواجه هناك صعوبات الغربة بمفرده.
أولى صراعاته كانت العيش في البرد القارس في مدينة أنتيغونيش، الواقعة في شمال شرق مقاطعة نوفا سكوشا في الشرق الكندي؛ أثناء انتظار وصول والديه اللذين لا يُتقنان اللغة الإنجليزية على الإطلاق، بل ويصرّان على عدم التفريط في إرثِهما الاجتماعي والثقافي والديني وسطَ محيطٍ مغايرٍ كليًا عما اعتادَا عليه. لتبدأ بذلك سلسلة من المفارقات التي لا تخلو من كوميديا الموقف، على غرار مشاهد صعوبة تواصل الأب مع الجيران، ولقائه الأول مع الشوكولاتة الكندية وإصراره على تنفيذ خلطته الخاصة التي اعتاد صنعها بمهارة ورشاقة في بلده الأم.
يجسد «حاتم علي» دور عصام، رب الأسرة، بينما تقوم الفنانة «يارا صبري» بدور زوجته شاهيناز و«نجلاء الخمري» في شخصية الابنة آلاء، وقد أبدع «أيهم أبو عمار» في دور الابن طارق؛ إلى جانب مشاركة مجموعة من الممثلين الكنديين على غرار «مارك كاماتشو» و«آرثر هولدن» و«كاري لورانس». وقد تولّى إخراج وكتابة الفيلم «جوناثان كايسر» (مخرج من أب أوروبي وأم أمريكية).
وعن سبب اختياره لهذه القصة بالضبط لتحويلها إلى عمل سينمائي يقول جوناثان أن ذلك يرجع إلى سببين رئيسين: «الأول أن القصة بحدّ ذاتها تشكّل مادة سينمائية دسمة؛ والسبب الثاني يكمن في أنني شخصيًا أردت تقديم عربون وفاء للشعب الكندي المضياف والطيب الذي استقبل عائلتي (الغريبة) بكل الترحاب والود، يوم أتت لتعيش في المدينة ذاتها التي تعيش فيها عائلة هدهد وهي أنتيغونيش».
لا يمكن تصنيفُ الفيلم على أنه وثائقي كليًا، كما أنه لا يندرج ضمن خانة العمل الروائي الخيالي؛ غير أنه يَدمج بين النوعين، وينقل قصةَ نجاح العائلة السورية التي أعادت بناء نفسها من الصفر بعد أن فقدت كل ما تملك في الحرب المأساوية بسوريا. ويقف ربّ العائلة أمام واقعٍ جديد مرير في بلد يجهل أبسطَ قواعدِه، ولا يُتقن حتى لغة التواصل السائدة فيه؛ لكن نداء العشق الأول والأخير الذي يربطه بالشوكولاتة كان أقوى من التحديات والعراقيل، حتى مع محاولات زوجته وابنه لإقناعه بأن زمنها قد ولَّى وراحَ إلى غير رجعة؛ والأجدر أن يبحثَ عن وسيلة أخرى للتكيّف مع المحيط الجديد، وينسى وصفاته وخلطاته التي ظلّت عالقة هناك في الشام.
لم يأبه اﻷب لكل تلك "اللاءات"، وظلّ مصرًا على ارتداء بدلة الطبخ البيضاء، بعد محاولة أولى فاشلة لإخبار صاحبة المطعم الكندية بأن وصفتها غير لذيذة وناقصة، إلا أن لغة التخاطب خانته، قبل أن يتدخل ابنه ويعتذر لها. إنه رجل ينسى همومه بمجرد أن تطأ أقدامه المطبخ، ويتحوّل إلى طفلٍ سوريٍّ يغني ويمرح مستمتعًا بمذاق الشوكولاتة الذي لا يُقاوم؛ وهنا كان التحدي الجديد الذي نجحَ حاتم علي في كسبه كممثل بعيدًا عن تجاربه الجدية في المسلسلات التلفزيونية حيث اعتاد الظهور كضيف شرف أو حتى شخصية رئيسة، أسوةً بدور "رشدي" في مسلسل «التغريبة الفلسطينية» و"نورس" في مسلسل «العراب» بجزأيه.
إذ أنه نجح، في الفيلم، في المزج بين الكوميديا السوداء أحيانًا والملامح الجدية الاعتيادية أحيانًا أخرى، ليُرسِل بذلك رسالةً غير مشفرة بقدراته التمثيلية التي لم يسعفه اهتمامه ودوره كمخرج في إبرازها بالشكل الأمثل في أفلامه، ليتمكن من تقديمها في آخر أدواره. والدليل على ذلك نيله جائزة أفضل ممثل في مهرجان بكندا، وأخرى في اليابان عن دور عصام هدهد.
يواصل عصام إيمانه بقدرته على تكرار نجاح تجربته في الشام، رغم كل السواد المحيط به في محطته الكندية؛ ليجد في جاره فرانك خير داعم وسند له، لاسيما بعد أن ذهل اﻷخير من جودة ما يصنعه. ومن ثمّ يبدآن سويًا ببيع الشوكولاتة بمبلغٍ رمزيٍ في الكنيسة. ويساعده جاره في الحصول على قرضٍ مجتمعيٍ دونَ فوائد، لشراء غرفة مُعدّة خصيصًا لعصام حتى يجد فيها متنفسًا له، ومكانًا محفزًا على إبداع وصنع المزيد، لاسيما بعد أن بدأ صيته ينتشر في المدينة وضواحيها إلى درجة اهتمام وسائل الإعلام بهذه التجربة الفريدة في صنع الشوكولاتة بلمسة سورية خالصة.
رغم تحسن أوضاع الأسرة، ظلّت التحديات قائمةً، وكان أبرزها عدم قدرة الابنة، التي قُتل زوجها في الحرب، على الالتحاق بأسرتها، وعدم قدرتها على استخراج تصريحِ السفر رغم كل المحاولات. كما برز إصرار طارق على استكمال حلمه بدراسة الطب في كندا رغم الصعوبات المحيطة بهذه الخطوة، ليصطدم بوالده الذي ما فتئ يُطالبه بمساعدته في مشروعه الجديد. حتى نراه يستسلم في النهاية ويتذوق قطعة شوكولاتة من يدي والده، ليقرّر الانخراط معه في عمله بعد إصابة والده بوعكة صحية ناجمة عن الإرهاق في عمله الجديد. شعر طارق إثر ذلك بتأنيب الضمير، فكسر صيامه عن تذوق وصفات أبيه التي أذهلت الكنديين.
مر الفيلم بمنعطفات متعدّدة، في رحلةِ أُسرة هدهد للبحث عن الذات، لتنجح في الأخير في بناء قصة النجاح التي بات القاصي والداني يعرفها، حيث افتتحت مصنعها الخاص الجديد بالشوكولاتة في كندا، مقتفيةً خطى نجاحها السابق في سوريا، الأمر الذي مكّنها من الحصول على جائزة «غود نيوز أواردز»، التي تُمنح لأصحاب القصص الإنسانية الملهمة.
لكن المؤكد أن تزامن عرض الفيلم مع ما أحدثته جائحة كورونا من أضرار متعددة، يمكن اعتباره من الأسباب الرئيسة التي قلّصت من حظ وصوله إلى شريحة أكبر من المشاهدين، وخصوصًا في الوطن العربي، حيث يحتل حاتم علي مكانةً خاصةً حفرها من خلال أعماله الخالدة في الوجدان. ورغم ذلك، يمكن العودة إلى مشاهدة الفيلم، ورؤية البرقية الأخيرة التي بعث بها إلى كل عشاقه، إذ نراه في صورة مختلفة عمّا عهدناه: يضحك، ويغني، ويبكي، ويفعل أشياءَ نراها لأول مرة، كأنه كان متيقنًا حقًا بأن الدور الذي يؤديه هو دوره الأخير، فيودّع بذلك الكاميرا والممثلين، ويصرّ على أنه مظلومٌ سينمائيًا، وأنه كان بالإمكان تحقيق أكثر مما كان.. لو كان في العمر بقية.



