إيريك رومير: فضاءُ الاحتمالات في مصادفةِ امرأة!

September 29, 2025

إيريك رومير مخرجٌ فرنسيّ، عمل صحفيًا ومحررًا، ولد عام 1920 باسم موريس هنري جوزيف شيرير (وسميَّ أيضًا باسمٍ آخر هو جان ماري)، وقد عُرف بوصفه آخرَ مُخرجي الموجة الفرنسية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية. يمتاز رومير بالطابعِ الأدبيّ الذي يغلِّف معظم أعماله، بالإضافة إلى تناوله للأخلاقيات الإنسانية في التعاملات اليومية، من خلال سرديات وسياقات مختلفة. إن مشاهدة أعماله التي تبدو مثل فصول متعاقبة، تبعث هذا الشعور بأنك تتصفح رواية مصورة، حيث الألوان الدافئة، التحريك البطيء، الكاميرا الحرة، اللقطات الواسعة، والحوارات التي تمثل أحد أهم الركائز التي تحرك الحبكة الدرامية في أفلامه. 

كتب رومير «ست حكايات أخلاقية» ككتاب قبل أن يُخرجها كسلسلة أفلام، ولم يكن قد حسَم أمره حينها بشأن ما كان يطمحُ أن يكونه: كاتبًا أم صانعَ أفلام. وقد طرح سؤالًا يبدو منطقيًا لشخص لم يحدِّد مصيرهُ بعد، سؤالًا تتجلى من خلاله حيرته في تحديد خيارهِ بين السينما والكتابة، ويصبُّ فيه كل ارتباكه؛ إذ يقول في بداية الحكاية: «لماذا نصوّر قصة، بينما يمكن للمرء أن يكتبها؟ ولماذا نكتب ما نحنُ قادرون على تصويره؟، هذا السؤال المزدوج ليس تافهًا كما يبدو، هذا هو السؤال الذي أطرحه على نفسي، لقد أُلهمتُ فكرة هذه الحكايات في عمرٍ لم أكن أعلم أنه بوسعي أن أكون صانع أفلام».

ثم صرّح لاحقًا أنه لم يبدأ بالكتابة الفعلية للأفلام إلا بعد أن قرر تصويرها، وقد كتبها بأسلوبٍ قصصيّ أدبيّ بحت، ولم يكتبها كنصوصٍ سينمائية. وهنا، مع هذا القرار الحكيم، يتداخل الطابعانِ فيما بينهما (الأدبي والسينمائي معًا)، في عالمٍ ثالث وهو عالم رومير، الذي بناه وشكَّله من معتقداته الخاصة، وتطلعاته؛ إذ رفض بقوة الاعتقادَ السائد آنذاك بأن السينما لا تزال في مهدها. وكان يؤمن أن السينما في منتصف القرن -وبينما انتقلت معظم أشكال الفن بتدرجٍ سريع نحو التجريد أو الانعكاس الذاتي بشكلٍ متزايد- لا تزالُ قادرةً، من خلال علاقتها المتينة بالواقع، على تجسيد الحياة في كل ما يُحجب عادةً عن قبضةِ الفن. لأن المخرج الوليد لا يدافع فقط عن قضية مساواة السينما بما هو أقدم منها من الفنون الشقيقة؛ بل يعلن بشكلٍ جدليّ تفوّق الوسيلة الجديدة عليها جميعًا: الأدب والرسم والموسيقى والهندسة المعمارية. 

ويقصد رومير أن بوسع السينما أن تكون مظلة واسعة لكل هذه الفنون معًا. وقد كان هذا ظاهرًا في اختياراته الدقيقة لأماكن التصوير، لإيمانه أنّ الفن والعمران قيمتَيْن مترابطتَيْن يعتبرهما مسقط الهدف للتعبير الفني؛ إذ يعكسان جمالية الحقيقة والحياة، ويمرران الرسالات الناعمة والرؤى التي كان يتطلع إليها. ولا عجب أن أبرز ما وُصِم به أنه صنع أفلامًا جميلةً وغيرَ عادية عن القبحِ اليوميّ للعلاقات الإنسانية، ولم يكرس أي مخرج نفسه لاستكشاف الحياة الطبيعية المذهلة للرومانسية المشؤومة مثل رومير، الذي تقوم سلسلة أفلامه السينمائية «ست حكايات أخلاقية» بتشريح الدوافع المعقدة التي يعمل من خلالها الناس في ألعاب التفاوض الرومانسي، وهنا أتناول الفيلم الأبرز من تلك السلسلة: «ليلتي عند مود» (1969 - Ma Nuit chez Maud).

هو الفيلم الثالث في سلسلة ست حكايات أخلاقية، والذي حاز به رومير على اعترافٍ دوليّ لا بصفته مخرجًا فحسب؛ بل ككاتب سيناريو أيضًا، حيث تم ترشيحه لجائزة الأوسكار في فئة «أفضل سيناريو أصلي».

تتمركز عبقرية هذا الفيلم في تجسيد الفكرة التي طالما راودتنا في هشيمِ المصادفاتِ المستحيلة للحبّ؛ إذ نترقب دومًا الحلمَ الجميل الذي يجمعنا بشخصِ الأحلام في سيناريو رومانتيكي عذب، وبتوقيتٍ مناسب دون معيقاتٍ تقف في طريقنا إليه. ومن الجدير بالذكر أن هذا يعتبر أسمى أمثولةٍ لخط سير الفن، إذ كلما جسّد العملُ الفني مخاوفَ البشرية وتطلعاتها المحالة دون تدخلٍ إصلاحيّ، كلّما كان أكثر تأثيرًا وأشد تجذرًا في التاريخ. 

يقول الدكتور عبد المنعم تليمة في كتابه مقدمة في نظرية الأدب: «تتبدى صلة البشر الجمالية بعالمهم في كل وجه من وجوه النشاط الإنساني؛ لكن هذه الصلةَ تبلغُ أرفع صورها في شكلٍ محددٍ من أشكال الثقافة والوعي الاجتماعي وهو الفن، فالمعاناة الجمالية -إحدى السمات الأساسية للبشر- تبدو في علاقتهم بالطبيعة من حولهم، وفي علاقتهم ببعضهم، كما أن الشعور الجمالي مُلازم للإنسان في كل إيماءة وكل حركة وكل عمل يقوم به، وفي كل وقع للحياة عليه. وإنما تجد تلك المعاناة وذلك الشعور تجسيدهما وكمالهما في الأعمال الفنية. 

ولقد رأينا أن العمل هو الذي فجر في البشر حاجاتهم الجمالية، وخلق معاناتهم ومشاعرهم، وأرهف حواسهم، ثم هو الذي ساعد على منح تلك الحاجات والمشاعر الجمالية أشكالًا مبكرةً للتعبير الفني ظلت مرتبطةً به وبغاياته النفعية، إلى أن تميز الفن -باعتباره أرقى صور العلاقة الجمالية بالواقع- عن العمل. وكانت المحاولات الفنية المبكرة في ميدان تشكيل المادة غالبًا، وهذا منطقي في المرحلة الباكرة من تميز الفن عن العمل؛ لأن تشكيل المادة قد تطور عن التجريب في الطبيعة وخاماتها، وعن استخدام أدوات العمل والتعامل معها، فكانت هذه المحاولات الفنية ارتقاءً بالتجريب المتصل بالحاجة المباشرة إلى أن يكون تشكيلاً ذا صبغةٍ جمالية». 

ولأن الفن بالأصل هو الصنعة التي تجسد «لو» المحرمة لفضاء الاحتمالات، وهو الذي يرسم أيضًا خط اِلتقاء الأكوان المتوازية للذات والأحلام، ولأننا لا نملك إلا حياةً واحدة فإن الفن أيضًا هو بوابةُ عيشِ واختبارِ أكثر من منظورٍ في هذا العالم.

في هذا الفيلم جمع رومير بين الأخلاق والأعراف، بطريقة يسهل الوصول إليها باعتبارها لوحات للمجتمع، فهي تعكس أهداف وتطلعات العصر وتكشف الكثير عن اهتماماته الأدبية والفلسفية والاجتماعية والسياسية. يقود الفيلم في بطولته (جان لوي) الذي يمثل الرجل الكاثوليكي، بوصفه شخصية نمطية متزمتة؛ حيث يؤمن بالتقاليد ويذهب إلى الكنيسة بانتظام، ويؤمن بضرورة مؤسسة الزواج، كما يريدها معلّبة بكل أعرافها، وأن تطابق زوجته جميع معاييره، بما فيها -بل أهمها- أن تقاسمه الدين والالتزام نفسه، وأهمية ذلك تتضح في اللحظة التي يؤكد فيها لصديقه قائلاً: "أنا كاثوليكي، كما كان أهلي". 

تمثل الكنيسة بالنسبة إلى (جان) الفضاء العيني لمصادفة (فرانسواز) الفتاة الشقراء بملامحها الباهية، والتي لمحها مرة واحدة أثناء أداء القداس، وأعجب بها حد أنه قرر في نفسه أن يتزوجها، وعلى الرغم من أنه لم يستطع تكوين نقطة تواصل بينهما، إلا أنه صار يترقبها في كل مرة يذهب إلى الكنيسة محاولاً تتبع طيفها. وخلال تلك الفترة يلتقي مصادفةً بصديقٍ قديم، وهو (فيدال) الذي صار أستاذًا لمادة الفلسفة في الجامعة، وكان مشهدًا حميمًا يجمع صديقَيْن بعد فراقٍ دام ثلاث عشرة سنة، في محاولة لإيجاد تقاربٍ فكري بينهما رغم الاختلافات. 

يمتد نقاشٌ طويل، بتبادل وجهات النظر، فيُرسي غيمةً من الأسئلة بين الشخصيات، تنزلق فيها الأفكار محاولةً استيعاب مفاهيم الآخر، فيما نشاهد طفوَ الأحاديث بينهما يستعرُ تارةً ويهدأُ أخرى. في السينما، تكشف الشخصيات غالبًا عن ذاتها من خلال تصرفاتها وسلوكياتها؛ ولكن في أعمال رومير يُسمح للشخصية بطرح فلسفتها الخاصة ووجهة نظرها أثناء خوض نقاشات مطولة وعميقة، حتى وإن ناقضت الشخصية ذاتها في نفس المشهد، فإن حديثها ينبعُ من محاولة رومير أخذَ دور "المتفرج على الشخصية"، تاركًا لتخبطاتها مطلق الحرية. 

يبادر فيدال بطرح سؤال على جان: «ما احتمالية أن تقابلني؟» ويقول له: «أني وبالرغم من حبي للرياضيات إلا أنه لا يمكنني حساب نسبة الاحتمالات دون المزيد من المعطيات» فيقول جان: «الشخص الفيلسوف والرياضي هما شخصٌ واحدٌ معًا». ناقش جان مع صديقه رهان باسكال وحساب الاحتمالات، ثم انطلق معه إلى حفلٍ موسيقيّ على مضض، وبالرغم من إلحاحِ صديقه الذي يمثل دفَّة الحبكة، كما هو الحال في غالبية أفلام رومير. إذ نرى على سبيل المثال، في فيلم «ركبة كلير» (1970 - Claire's knee)، أن صديقة البطل (إيرورا) كانت المحركَ الرئيس الذي يدفعه للتقرب، كأنها تمثل الدافع الغريزي نحو فعلٍ مخالفٍ لأخلاقه ومعتقداته الشخصية. 

ودائمًا ما كانت الشخصية الرئيسية لدى رومير تمثلُ شخصًا مُنقادًا يسهل دفعه لما يرفض، وخصوصًا الشخصيات الرجالية، وهذا ما يجعل رجال رومير منفّرين بالنسبة لي، لكنهم يمثلون ميل الإنسان الواقعي لغرائزه، وكسر حدوده والتعدي على ما يراه لاأخلاقيًا، حيث يخوض صراعًا داخليًا ضاريًا.
وهناك دومًا في أفلامه ما هو ممنوع/محرم، ولدى كل طرفٍ رغبةٌ شديدةٌ به، وسيطرةٌ لدرجة معينة على تلك الرغبة، كما أن هناك صديقًا ثانويًا يمثل حواءَ العاصيّة، التي تدفع آدم لأكل تلك الفاكهة المحرمة. 

عمومًا، وبعد حضور القداس في الكنيسة، يتفقد جان ما حوله باحثًا عن فتاةِ أحلامه الشقراء، كأنه اعتاد على فعل ذلك في كل مرة. يلحُّ صديقه فيدال عليه بالذهاب عند "مود" فيذهب، ولكنه يقول قبلها عبارة شيقة: «لا أريد الذهاب وحدي لكيلا أختلي بها، فينتهي بنا المطاف نمارس الجنس»، فرد عليه فيدال: «وليكن»، يجيبه: «إنني متدين»، يرد فيدال: «أكثر مني؟»، فيجيبه مرة ثانية: «أجل».
ومن هنا يتركه فيدال معها وحيدًا لاحقًا، ليبات الليلة عند أكثر امرأة جذابة حتى يكتشف ضعفه أمام ذاته.

«عاقبةُ الإيمان أفضل من عاقبةِ الكفر» 

— باسكال، نظرية الاحتمالات. 

تقف أفلام رومير على مسافةٍ من الواقع، ولا تؤيد كراهيةَ النساء المعروضةَ كما أنها لا تُدينها، وبالتالي توضح مدى شيوعها تمامًا. تقوم شخصياته الذكورية الشابة بتشييء النساء وتصنيفهنّ بناءً على فحوصاتٍ سريعةٍ للمظهر والسلوك، والتخلص منهنّ عندما يكون ذلك مناسبًا. ونادرًا ما تفكر نساء رومير لحظةً في مشاعرهنّ، كما يظهرن في صورٍ نمطية؛ ليست حكميةً أو مقدسة، بل هي صورٌ لشريحةٍ من حياةِ واقعٍ يوميّ، شئنا أم أبينا، وتعكس بطريقتها الخاصة أنماطًا اجتماعيةً حقيقية. 

تتقدم شخصية المرأة مود -دكتورة لديها طفلة ومطلقة- لتمثّل الشخصية التي تتمركز حول ذاتها، حول أفكارها الخاصة وملذاتها بالحياة، تنحدر من عائلة متحررة، تدير الحوار بطريقة متزنة وواثقة، ترد ردودًا ذكية بفضل اطلاعها الواسع، شعرها غامق وذات جمال أسمر، لا تشبه أيًا من خيالات ومعايير جان، لا من ناحية جسدية ولا من نواح فكرية، ولكنها تتضاد وتتحدى كل ما يشتهيه حد إثارة رغبته البالغة بها. 

لقد أعطته مود ما لم يكن يعلم أنه يرغب به بشدة في داخله، امرأة ذات حيلة واسعة، وقوامٍ رائعٍ، واستجاباتٍ غير متوقعة، وعقلٍ مملوء بأفكار منتقاة بعناية، لأنها تملك جمالًا مخيفًا لم يكن ليتطلَّع إليه من تلقاء نفسه لفرط ما بدا مستحيلًا ومخيفًا، كأنه لم يكن يدرك إمكانية وجوده. استمرت تلك الليلة كمخاضٍ طويل بين شد وجذب دراماتيكي، لم يكن مريحًا للمشاهدة كما لم يكن منفرًا، بين محاولاتها لجذبه وبين محاولته لمقاومةِ رغبته البالغة بها، إذ كان يدري أن تلك الليلة تمثل المفصل بين ما يؤمن وبين ما يرغب فيه، وحين أشرقت الشمس أخيرًا دون أن يلمسها كان ذلك انتصاره الأكبر.

خرج من عندها قاصدًا البحث عن فرانسواز، فالآن هو يستحقها بجدارة. قالت له جملةً في لحظة صراحة منها: «أنا لست الشخص الذي تظنه»؛ ولكنه اختار أن يتجاهل قولها مركزًا على الزواج منها.
تحدث المفارقة في أنه بعد خمس سنوات يكتشف أن المرأة التي كانت عشيقة زوج مود هي فرانسواز، أم طفله، وأنّ الكمال الذي سعى إليه كان مجرد خيارات مفتوحة لاحتمالية عالية بحدوثها، في أي وقت ومع أي شخص. وقد كان اعترافًا منه بهزيمته، عندما اختارَ أن يترك لزوجته فرانسواز الظن أنّ ليلته تلك، التي قضى فيها الليل كله يحارب مود، قد اكتملت لكيلا يكون بينهما حرج، غير أن مود في آخر لقاء ظلت حرة شهية قوية، تمثل الفاكهة التي لن يصل إليها جان أبدًا.

الهوامش:

1. الدكتور عبد المنعم تليمة، مقدمة في نظرية الأدب.
2. الأدبية في أفلام إيريك رومر Leah Vonderheide.
3. بحث «بين الكلاسيكية والحداثة» - جامعة أدنبرة.
4. صحيفة popMatters.

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى