أيام مثالية للعيش ببطءٍ سعيد

«كل أمر في الحياة يدعوك إلى العجلة، إلا الفن يطالبك بالتريُّث».. منذ أن قرأت هذه الجملة قبل سنوات عدة لم أستطع تجاوزها، وسأدّعي أنها غيّرت لدي عددًا من السلوكيات المتعلقة بتلقي الفن وممارسته، كأن أتوقف لوقتٍ جيّد لتأمّل لوحةٍ عابرةٍ في غرفة انتظار، أو أتفحّص عملاً فنيًّا منشورًا عبر صفحةٍ ما، وأصغي إلى عديد من الأغنيات والمقطوعات الجديدة على أُذني. لكنّ المقام اليوم أريده في جانب آخر، عن هذا التمهل -بوصفه أسلوب حياة- الذي أظن أن فيلم اليوم جعلني أتأمّله.

مؤخرًا، شاهدت فيلم «أيام مثالية» (2023) Perfect Days، وهو فيلم درامي من إخراج فيم فيندرز، الذي تشارك كتابة السيناريو فيه مع تاكوما تاكاساكي عبر إنتاج مشترك بين اليابان وألمانيا، ويتناول الفيلم حكاية السيّد هيراياما، الذي يعيش روتين أيامه المثالية وحيدًا بين عمله منظّفَ مراحيض في طوكيو، وبين هواياته الشغوف، الاستماع إلى الموسيقى وقراءة الكتب وتأمل الأشجار وتصويرها، في وقتٍ تتكشف فيه جوانب من ماضيه عبر سلسلة من الأحداث والتقاطع مع الأشخاص العابرين.

في وقتٍ لاهثٍ من الحياة، وكلنا نركض بشكل أو آخر، أرغب في التوقف والجلوس جانبًا (ربما هو زمن مستقطع من ماراثون الحياة المتتابع) وقد صادفت مؤخرًا (وربما لم تكن مصادفة) عددًا من المقالات والنظريات عن اعتناق البطء بوصفه نمطًا للعيش. ولذلك، قبل سبر أغوار الفيلم، أرغب في التعريج على مفهوم فلسفة «الإيكيجاي» والتي يعني اسمها «الشيء الذي تعيش من أجله»، ولكي تحققه يجب أن تقوم بكل ما يعتبر امتدادًا طبيعيًا لذاتك ويعبّر عنها بصدق، وبتريّث.

للتعمق في جدوى هذه الفلسفة، عمل المؤلِّفان الإسبانيان هيكتور غارسيا وفرانسيس ميرالز على كتابهما «إيكيجاي: السر الياباني لعيش حياة مثمرة وسعيدة»، وقد وثَّقا فيه شهادات ميدانية لمُعمّري مدينة أوكيناوا اليابانية، التي يتركّز فيها أكبر عدد من المُعمِّرين الأصحاء في العالم، حيث اتفقت أغلب الشهادات على أن سرهم كان عيش فلسفة الإيكيجاي.

يقول أحدهم: «سر عمري الطويل هو أنني كنت أقول لنفسي دائما: "ببطء"، "بهدوء"».

لنتوقف هنا ونتأمل العبارة كمعبدٍ قديم: العيش ببطء وهدوء!

أما كتاب «في مديح البطء.. حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة» للكندي كارل أونوريه، فيتناول حراكًا عالميًّا يتنامى باتجاه إعادة الاعتبار للبطء ومجابهة الرتم السريع، التقى فيه عدد من المشاركين الذي أرادوا عرض تجربتهم في تبني البطء، واستعرضه الكتاب في قالبٍ سردي غالبًا، لكنه لا يخلو من الإحصاءات والنظريات التي تشير لأثر ذلك في جوانب مختلفة كالغذاء، والعمارة، والطبّ، والعمل، والاستجمام، والتربية، وغيرها.

في فيلم «أيام مثالية» لا يستخدم المخرج مفهوم الإبطاء السينمائي، فالرتم ديناميكي، واستحضار روتين البطل هيراياما يتم على نحو طبيعي علـى مستوى الزمن، لكن يمكنني القول بأنَّ شعورًا متسللاً بالبطء يغمرك عبر التفاصيل نفسها، مثلاً عبر خيار استماع البطل إلى أغنيات أشرطة كاسيت، وعبر مَشاهد عابرة لقراءة كتاب قبل النوم، ولحظةٍ خاطفةٍ لشراء قهوة معلبة من جهاز بيع ذاتي. هو شعور لا حقيقة، إذا أمكنني وصف الأمر.

كيف يبدأ الفيلم؟

يبدأ الفيلم بروتين يوميٍّ للبطل بصريٍّ للمُشاهد، حيث يصحو هيراياما مبكرًا جدًا، يمارس عاداته الصباحية، ويذهب إلى عمله، ليتقاطع مع زميل، أو تحدث مشكلة ما، أو يأخذ استراحة للغداء تضم فترة تأملية للأشجار، ثم يعود للعمل، بعدها يخرج إلى مطعم بعده، يشاهد مباريات البيسبول، ويستحم في حمام عمومي، ثم يعود إلى بيته حيث طقس القراءة قبل أن ينام، وهكذا.

رتم طبيعي، صح؟

وحين تشاهده تمر بمراحل شعورية عميقة، شيء من الرضا والبساطة التي تُحكى لنا عن زمنٍ لا نعرفه، في وقتٍ يحدث فيه كل هذا في مدينة متسارعة مثل طوكيو، وفي وقتِ ما بعد فيروس كوفيد-19 الذي يركض بكل العالم، فهل وجد هيراياما سرّ التحكم في إيقاع الوقت، وفشل كل الآخرين؟

أيضًا من التساؤلات التي توقفتُ عندها خلال المشاهدة: كيف يجيد عامل بسيط في مهنة بسيطة اللغة الإنجليزية، ويمتلك ثقافة لا تشبه بساطة ما يفعله؟ ثم تأتيك إجابة ذلك السؤال حينما تعرف أنّ كل هذا حصل من خيار اتخذه بـ«التخلي»، وسأترك لك كشف كيفية ذلك عبر مشاهدة الفيلم.

من ناحية أخرى يأتي الحضور النسائي في الفيلم بوصفه محرّكًا عضويًا للأحداث، بخفّةٍ أقرب ما تكون إلى أثر الفراشة، حيث لا صدامات، أو حوارات مكثفة، أو قصص حب أو كراهية، بل عبر ثيمة تكرّس تأثير العبور وما يخلّفه، وهذا ما نراه في شخصية صديقة زميل العمل التي تُعجب بتفصيل بسيط ورابط كالكاسيت، أو ابنة الأخت التي تزور بطلنا على نحو مفاجئ وتقضي معه بضعة أيام.

ومن الثنايا اللافتة في الفيلم حضور طوكيو بخليط كولاجي، من أزقة الحارات دون المتوسطة، والمطاعم المتواضعة، والحمامات والحدائق العامة، الأمر الذي يقابله حضور الكادحين المستمتعين بما يفعلون، المبتسمين طوال الوقت، والذين يتبادلون الأحاديث العابرة بلطف متناه.

من ناحية أخرى: أجزم بأنك عند الانتهاء من المشاهدة، ستتذكر ابتسامة هيراياما (الذي لعب دوره كوجي ياكوشو)، وربما على نحوٍ أكثر تفصيلاً ستستحضر انتفاخَ أسفل عينيه عندما يتبسم، لكنك -ويا للمفاجأة- قد لا تتذكر صوته أو أسلوبه في الحديث، لقلة اللحظات التي تكلّم فيها، حتى وهو على الهاتف، فإنه كان عندما يُضطر إلى الكلام يوجز قوله بأقصى قدرٍ ممكن.

إنه فيلم يمتدح البطء ويجعلك تعيشه كتحفة سينمائية.

وأخيرًا: هل تفكر باعتناق البطء؟

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى