إليني كاريندرو، تحديقٌ في الملحمة

May 7, 2023

«لو أن هوميروس كتب ملاحمه في شكل موسيقى، كانت ستبدو أشبه بموسيقى سوداء رخيمة، تعبق بالنبيذ وبمياه البحر الأجاج، تغلفها لمحة حزن، وإثارة حسية تحملها الكلمات الشادية عن الحب والفقد، وما يهيب بالروح البشرية لتحقيق كل ما عظم شأنه. ستكون موسيقا هوميروس هذه باختصار شيئا مشابهًا جدًا لموسيقى إليني كاريندرو، واحدة من أكثر موسيقيي اليونان بلاغةَ في الموسيقى».1

هكذا رأى الباحث الموسيقي مايكل والش، الملحمة الهومرية في روح نغمات المؤلفة الموسيقية اليونانية إليني كاريندرو، صاحبة الاسم اللامع في سماء الموسيقى التصويرية في أوروبا، وفي سينما "الآرت هاوس" بشكل عام.

إن الكتابة عن الموسيقى التصويرية بشكل عام، وعن إليني كاريندرو بشكل خاص لهو أمرٌ معقد. فالحديث عن الموسيقى السينمائية هو حديث عن السينما والمسرح والموسيقى بحد ذاتها. فما بإمكان المرء أن يقول حين تكون عن إليني كاريندرو التي ارتبط اسمها بالمخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس صاحب الصورة السينمائية المركبة المعقدة، التي تعيش صراع بنيويّ بين عالم حسّي ومحسوس.
إليني كاريندرو، التي أجمع نقاد السينما الأوروبية على أن موسيقاها لم تشكل وسيطًا مرافقًا للفيلم، ولم تمثل بُعدًا جماليًا فيه فقط، بل كانت جزءًا متأصلًا منه، يتسامى بها العمل الفني، أو كما يقول أنجيلوبولوس:
«موسيقى إليني هي الدم غير المسفوح على الشاشة».

ورغم ذلك كله، لا نجرؤ على تسمية موسيقاها بأنها مجرد موسيقى تصويرية، أي أنها لا تغدو تحمل نفس المعنى عند سماعها بمعزلٍ عن الفيلم المصاحبة له، فهي سينمائية في بنيتها دون الحاجة للمشاهد السينمائية المرافقة.

الجغرافيا والتاريخ:

ولدت إليني في "تيتشيو"، تلك القرية الصغيرة في جبال اليونان. حيث ترعرعت ودرست البيانو، والنظرية الموسيقية، بالإضافة إلى التاريخ وعلم الآثار في جامعة أثينا (وهذا ما يبرر الرمزية الواضحة للميثولوجيا الإغريقية في موسيقاها). كما درست أيضًا موسيقى الشعوب في جامعة السوربون في فرنسا بمنحةٍ من الحكومة الفرنسية. وبعد تخرجها اشتغلت في مجال تأليف الموسيقى التصويرية، فصنعت ما يقارب العشرين عملاً سينمائيًا، وما يزيد عن أربعين عملاً مسرحيًا وتلفزيونيًا. 

وقد نالت عن هذه الأعمال العديد من الجوائز. على الصعيد المحلي: جائزة الدولة للموسيقى عن عملها مع ثيو أنجيلوبولوس «الأبدية، ويوم واحد» (1998- Eternity and A Day)، وجائزة الصليب الذهبي عن مُجمل أعمالها. كما رشحت لجائزة أفضل موسيقى لفيلم أوروبي عن «ثلاثية المرج الباكي» (Trilogy the weeping meadow) إنتاج عام 2004، والذي رُشح بدوره لجائزة الأوسكار.

ومثلها مثل العديد من المثقفين والفنانين اليونانيين ومنهم رفيق دربها ثيو أنجيلوبولوس، هاجرت إليني بلدها اليونان بعد انقلاب عام 67، الذي أتى بالديكتاتورية العسكرية لسدة الحكم في اليونان، ونٌصّب فيه بابادوبولوس القائد العسكر نفسه كعدو للحركة اليسارية الثقافية في البلاد، والتي كانت في أوجها إبان الحرب الباردة بين الإتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. 

وقد يكون هذا ما ولّد لديها الحالة الثورية التي دفعتها لتقديم عمل بعنوان «الاستفاقة العظيمة» في منفاها بباريس في عام 1975 برفقة صديقتها المقربة فنانة المقاومة اليونانية آنذاك المطربة ماريا فارانتوري، وما زالت حتى يومنا هذا تؤدي فارانتوري الصوت الرئيسي في أعمال كاريندرو.

ومن المفارقات الطريفة أن اسم (إليني) يعني اليونان وفق الجذر، أو الأصل اللغوي للكلمة، وأن من ألقابها عروس الشعر العاشرة (نسبة إلى الميثولوجيا الإغريقية عن المُلهمات التسعة).


الدم غير المسفوح على الشاشة:

«مرثاة الإجتثاث» (Elegy of the uprooting):

مقطوعة مرثاة الاجتثاث

هذا العمل الملحمي والمميز في مسيرة إليني والصادر عام 2006، والذي سجلته بالأساس أوركسترا ضخمة مكونة من أكثر من مئة عازف، شاركتهم إليني بالعزف المنفرد على البيانو. بمصاحبة الفنانة الأوبرالية ماريا فارانتوري صاحبة الصوت الرخيم مغنّية الكونترالتو2 الذي يصل مداه للأوكتاف ونصف الأوكتاف. 

يحاكي العمل مسرحية الكاتب التراجيدي الإغريقي يوربيديس، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، يشمل العمل آلات القانون والناي التي أضافت طابعاً شرقيًا على اللحن، يمزج فيه بين موسيقى منطقة الأبيض المتوسط مع موسيقى منطقة البلقان. وتنقسم المقطوعة إلى ثلاث أقسام يمثل كل منها مشهدًا من الصيغة المحدّثة عن المسرحية:

  • القسم الأول: "أهزوجة الدموع". 

وفيها تبدأ الموسيقى بالعزف المنفرد لآلة للقانون يُسمع خلفه آلات البزق والسنطور مع مصاحبة الكورال المكون من أصواتٍ نسائية فقط (ووجود النساء يعزى لأن جزءًا من المسرحية عن نساء طروادة)، تشاركهم ماريا بعد ذلك مع تسارع إيقاعي ودخول آلات مختلفة مثل الناي.

وتقول إليني عن هذا القسم من العمل: «لقد صنعت من هذا العمل رحلةً موسيقية يلتقي فيها رَجلانِ أحدهما قديمٌ والأخر جديد، من خلال الإستماع إلى الأوبوا التي ميزت عملي مع أنجيلوبولوس في فيلم «رحلة إلى كيثيرا»   (A Voyage to Cythera-1984)، والاستماع إلى آلة الليرا البيزنطية التي ميّزت عمل آخر معه وهو «تحديقة يوليسيس» (Gaze of Ulysses-1995).
حيث يُهيّج هذا العمل مشاعر المنفى والمسافات، كما نستشعر هذا من خلال صوت ماريا والكورال من خلفها».

  • القسم الثاني: "إلي أرض فريجيا التي يعمّها الحِداد".

ويكون الإيقاع في هذا القسم أكثر تسارعًا، حيث تعلو أصوات السنطور والهارب في وابلٍ من القلق والحنين والخوف. تعتمد إليني في هذا القسم على التوغل في المشاعر الأكثر سوادًا، حيث تمارس فيه حَرفيّة المسمّيات فهي تحاول الوصول لمرحلة تجعل عاطفة المستمع مجتثة الصلابة، رخوة القوام، وزائدة الحنين.

  • القسم الثالث: "حبيبي، روحكَ جوّالة".

يتقاسم الهارب والقانون العزف في هذا الجزء بشكلٍ متسارع، وبمزاجٍ أكثر طمأنينة وكأنما استسلمت إليني لليأس. 

القسم الرابع: " البحيرة"

الأكورديون يصافح الماء، كما تفعل في فيلم «تحديقة يوليسيس»، حتى تعود المراثي لتستقيم في هذا العمل بشكل أكثر بؤسًا مما بدأت عليه إليني. من درجات سلم الـ (فا) والـ (لاا) صغير، وموسيقى تشبه موسيقى فيلم «المرج الباكي»، مع آهات الكورال من خلفهم يصاحبها صوت الهارب القلِق. لينتهي بالعزف المنفرد لآلة الليرا ذات طابعٍ يُذكر المستمع بالموسيقا الأرثوذوكسية المشرقية التي تنقله نغماتها الى عالم أخرويّ.

«تحديقة يوليسيس»

مقطوعة تحديقة يوليسيس

كيف يمكننا الحديث عن موسيقى هذا الفيلم دون الحديث عن الفيلم ذاته والتفاصيل التي يعج بها؟ 

يحكي الفيلم عن بدايات القرن العشرين عندما جاب الإخوان ماناكيس منطقة البلقان لتصوير فيلم عن المنطقة وأهلها. فيقوم مخرجٌ سينمائي يوناني بالعودة لهذه البلدان في أواخر القرن العشرين في رحلةٍ أوديسيَّة المعنى متنقلًا بين اليونان وألبانيا، مقدونيا، بلغراد، رومانيا، أوكرانيا، صربيا، كرواتيا، والبوسنة، بحثًا عن الأعمال المفقودة للأخوين نتيجة الحروب. ومن ثم يرى تقلّب أحوال البلاد التي صوّرها الأخوين مناكيس وكيف مزقتها الحروب والصراعات الأهلية، وتأثير انهيار الاتحاد السوفييتي والمشروع الشيوعي على تلك البقعة من العالم.

في هذه الموسيقى المشهورة (إن لم تكن الأشهر لإليني) عدة مشاهد تستدعي الوقوف عندها مطوّلا:

  • لينين طافيًا عبر الدانوب:

معزوفة لينين طافيًا عبر الدانوب

ها هو تمثال لينين مهشمًا، على سطح مركب يتهدهد فوق سطح نهر الدانوب. وها هو بطل الفيلم يتكئ على حافة المركب، تبدو عليه آثار الهزيمة ومراجعة الذات. وهكذا تفعل موسيقا إليني، بخليط من العزف المنفرد لآلات الفيولا والأبوا الحائرة تتخاطب فيما بينها بشكلٍ اغترابي، يزيده صوت التشيللو اغترابًا كلما تقدم المركب للأمام كمن يريد أن يعيدها للخلف موسيقيا. وتأتي بعد ذلك ايقاعات الأكورديون، التي يصفها أنجيلوبولوس -وهو من اختارها لهذا المشهد: «أنها تمثل الجو الموسيقي المناسب لتلك الرقعة من العالم».3

يمكننا القول أن هذا الفيلم عن الأشياء الأًوائل، فكما في أوديسة هوميروس عندما مكث يوليسيس فوق جزيرة محبوبته كاليبسو سبع سنوات، حينما كان يبكي عاجزًا أمام البحر متمنيًا العودة إلى حبه الأول زوجته بينلوبي. هذا ما يحدث ايضًا في هذا الفيلم، عن الموطنٌ الأول، والحب الأول، وكثير من الحنين في صفحات إليني الموسيقية لكل ما هو قديم، حتى يُخيّل للمرء أنها تود عودة أزليّة إلى الماضي.

  • اللقاء في الماضي:

المقطوعة المرافقة لمشهد مظلات المطر

يلتقي البطل بمحبوبته الأولى، بين الحراس والأوامر العرفية. يصاحب لقائهما صوت قسم الوتريات مع أصوات الآلات النحاسية (الترومبيت خاصة). تتميز الثيمة الموسيقية في هذا المشهد بأنها ذات نهايات مفتوحة، نهايات الجمل الموسيقية فيها كلها على النغمات العالية. في تمثيلٍ واضح لكلام قارئ النص في هذا المشهد الممثل الأمريكي هارفي كيتل وهو يقول:«أتمنى لو أخبرك أنني قد عدت، ولكن ثمة ما يمنعني. لا لم تنتهي الرحلة، لا ليس بعد».

ما يثير الاهتمام في هذا الفيلم هو الضباب المخيم على أجواء الفيلم كله تقريبًا، مهما تغيرت المدينة أو الدولة. إن الضباب هو الوسط المأساوي الذي يعيشه البطل وتعيشه موسيقا إليني، لذلك ربما ظهور الأوركسترا مرتين بالفيلم كان حزينًا، حيث يمر بجوارهما البطل دون أن يكون لهما دور فعلي في القصة، وفي كلتا المرتين كانتا تؤديان قداسًا جنائزيًا. ولو تأملنا مليًا في الجمل اللحنية التي تصوغها إليني لوجدناها في كل مشهدٍ تقدم موسيقى جنائزية ذات طابع ارتحالي، كما لو كانت تنظر للفيلم كرحلة للنهايات لا للبدايات.

«المرج الباكي»:

معزوفة المرج الباكي

هذه الملحمة الأنجيلوبولوسية التي تستغرق ما يقرب ثلاث ساعات، تجسدها كاريندرو بعبقرية فذة، جارت موسيقاها جماليات الفيلم وربما تفوقت عليها. على الرغم من نخبوية الفيلم وطابعه التأملي المُرهق إلا أن كاريندرو استطاعت صنع موسيقى تصويرية ذات جمل بسيطة أقصر مما اعتادت عليه في الأفلام السابقة. بالإضافة إلى أن ما خدمها في هذا الفيلم أكثر من غيره هو كثرة المشاهد التي يجري فيها تصوير الفرقة الموسيقية كجزء من الفيلم، في مشهد مشهور لدى متابعي أفلام أنجيلوبولوس، حيث يظهر فيه العازفون الجوالون، ولطالما افتتن بهم المخرج، وصوّرهم في أفلامه بصفتهم كائنات خفيفة سياسيًّا لا تعنيهم الحدود سواء كانوا غجرًا أم رومان أم ألبان:

مقطوعة العازفين المتجولين
الموسيقى في مشاهد القلق والبهجة تكتسب خصوصيتها من بساطتها، وربما من صدقها أيضًا. فهي لم تُسجَّل مسبقًا أو تُضاف كخلفية، بل جاءت حيّة من عزف موسيقيين جوّالين يؤدّون حقًا لا تمثيلًا. يتكرر هذا الحضور الموسيقي في الفيلم، لكن بتركيز على شخصية الموسيقار الجوال وآلاته الخفيفة التي يسهل حملها: الأكورديون، الكمان، الترومبيت، الكلارينيت، الماندولين والغيتار. وفي سياق الحكاية، تهرب البطلة من زفافها برفقة عشيقها ومجموعة الموسيقيين، غير أن العشيق يتخلى عنها لاحقًا، ويواصل رحلته بصحبة الفرقة ومسيرتهم الموسيقية.


مقطوعة الشاب الصغير 

في هذا المشهد، يظهر البطل "أليكسيس" وهو يحاول بيع أغلى ما يملك: مهارته وآلته، ورغم عدم اكتراث المستمع بموهبته وآلته، إلا أنه يستمر بالعزف بشغف في جملة إيقاعية ثلاثية سريعة مفعمة بالأمل. يجعل الأكورديون المشهد هنا كسائر مشاهد الفيلم من حيث الطابع الشعبي، فالموسيقا التصويرية في هذا العمل تشبه الموسيقى الشعبية رغم أنها فعليًا لا تمت للموسيقا اليونانية بأي صلة واضحة.

«رحلة إلى كيثيرا»

مقطوعة كودسيرتو ثيما اليكسندرو

هذا الفيلم الحالم تناسبه موسيقاه الحالمة ايضًا. فـ"كيثيرا" في الميثولوجيا الإغريقية، هي جزيرة الأحلام المستحيلة، التي ما إن يصلها المرء حتى يعيش في سعادة أبدية. وهي أيضًا، مكان ولادة إلهة الجمال أفروديت. نسمع في هذا الفيلم وفي أكثر من مشهد فيه موسيقى فيفالدي في الخلفية، إذا أمعنّا الإنصات إلى الثيمة الموسيقية الأساسية للفيلم وخاصة في الجزء التالي: 

رحلة إلى كيثيرا - عزف جورج دالاراس

سنلاحظ تماهيًا مع كونشيرتو فيفالدي على الماندولين من طبقة دو ماجير. وهذا يرجع لشغفٍ أنجيلوبولوس بهذا الكونشرتو: «يستيقظ بطل الفيلم مع الصباح، ويمد يده إلى المذياع ليضبط المؤشر باحثًا عن موسيقى تصغي لها روحه. وفي تلك اللحظة بالذات، كنت مأخوذًا على نحو خاص بكونشرتو فيفالدي للماندولين، الذي بدا لي آنذاك تجسيدًا خالصًا لفكرة الكمال.».4

«الأبدية ويوم واحد»:

قد يبدو غريبًا عنوان هذا العمل، وكأنه مفرطٌ في شاعريته ورمزيته، وهو كذلك فعلًا، فالعنوان مقتبس من نص مذكور في إحدى مسرحيات شكسبير «كما تشاء» والمكتوبة عام 1600.5 حيث يزعم "رولاندو" في المسرحية أن عشقه سيدوم للأبد ويزيد يوماً.

يدور هذا الفيلم حول شاعرٍ يوناني يحتضر في أيامه الأخيرة، يجسد شخصيته الممثل النمساوي الكبير برونو غانز. وبينما يستغرق في ذكريات زوجته الراحلة ويتوق إلى لقائها روحيًا، يتقاطع قدره مع طفل ألباني مشرّد يصادفه بالمصادفة. يعده الشاعر بمساعدته على عبور الحدود، مقابل أن يهديه الطفل كلماتٍ يونانية لم يعرفها من قبل، علّه يجد فيها شرارة جديدة للإبداع والحب ولو ليوم واحد فقط.

أما موسيقى الفيلم، فتُعد من أكثر أعمال إليني شاعرية ورومانسية؛ إذ تأتي بهدوئها العميق كخيطٍ رفيع يلامس الزمن، تمامًا كما يفعل الفيلم نفسه.

ألّفت إليني في هذا العمل عدة مقطوعات، تكاد تكون أشهرها موسيقى "بجوار البحر":

مقطوعة بجوار البحر

وهي فالس ثلاثي الإيقاع، يتفرده البيانو ويقف الكونترباص خلفه في الإيقاع. وما يجعل المقطوعة في غاية اللطف والشاعرية هو التنقل على السلم الموسيقي صعودًا ونزولًا -وهو أسلوب تكرره إليني في موسيقاها المبهجة- بوتيرة هادئة و إيقاع راقص.

أما الموسيقى الرئيسية للفيلم، فهي تحمل قلقًا داخليًا يتبدل بإيقاع زمنٍ ساكن، لكنها في الوقت نفسه بالغة الأناقة؛ إذ تنتشل المستمع برفق لتقذفه في فضاء فسيح تغشاه الغيوم، وتغمره زرقة ماء أزلي لا ينتهي.

الثيمة الرئيسية لفيلم الأبدية ويوم واحد

تتميز برخامة الأصوات، فالآلات المتسيدة هنا هي التشيللوهات والباسون. بينما تؤدي آلات الكمان (ومعها الأوبوا والماندولين) دور التغطية بشكل متقطع ومتكرر يبعث على القلق وعدم الأمان. بينما الباسون في أدائه المنفرد يشكل اللاعب الرئيسي في هذا السباق الموسيقي المحموم للأخذ بيد المستمع في عالم مضطرب من العواطف. أو كما تصفها أحد المراجعات: «لا يجد المرء صعوبة عند الاستماع لموسيقى إليني في تصوّر خَدر الوحدة وشعور العزلة».

وجديرٌ بالذكر أن والد إليني قد توفي قبل تصوير الفيلم بوقتٍ قصير، مما جعلها تؤلف أعمالًا وصفها ثيو بأنها ذات طابعٍ حزين، وقد رفضها كلها آنذاك، مما جعل إليني ترتجل موسيقى هذا الفيلم ارتجالًا!6

لمن يشاهد مجموعة أفلامٍ المخرج ثيو أنجيلوبولوس، سيخيل إليه أنه يشاهد تجسيدات مختلفة للأوديسة. قد يبدو ذلك غير مرفوض البتة، لكن جدية سيميوطيقا الرمز في أعمال المخرج، احتاجت لأعمال إليني كي تجعل كل فيلم شاركت في صنع موسيقاه فيلمًا مختلفًا، وإن تشابهت الفكرة الأساسية. بأسلوبٍ موسيقي بسيط يشبه بساطة موسيقى الفولك في الستينيات، تستطيع إليني جعل هذا الإنسجام في تأليفها الموسيقي أكثر ألوان التأليف الموسيقي جدية ورُقيّا، وتجسيدًا لخيال ملحمة يونانية خالدة عن النسيان والإنسان والمنفى والذاكرة.

الهوامش:

1.رابط
2. الكونترالتو: طبقة رخيمة من الصوت عند النساء تقع بين التينور والميزو سوبرانو.
3.عالم ثيو أنجوبولوبس السينمائي، دار الانتشار، صـ178.
4.ذات المصدر صـ175
5.ذات المصدر صـ363
6.عالم ثيو أنجوبولوبس السينمائي، دار الانتشار، صـ178.

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى