ويل سميث وقلق السعي إلى السعادة: السعادة في السينما

أ. علي حمدون
و
August 30, 2024

لم تكن السعادة لفيلسوف اللذة أبيقور مقترنة بالمال كما هو شائع، فقد اكتُشِفَ لاحقًا أنه كان يشرب الماء وليس الخمر، ويستمتع بعشاء من الخبز والخضار والزيتون، بل وهناك رسالة لصديقه كتب فيها: «أرسل لي قِدرًا من الجبنة كي أقيم وليمة حين أرغب في ذلك». وهكذا كان بالإمكان استقاء الحياة المريحة بسهولة حتى ابتُدعت ماكينة الرأسمالية الطاحنة!

فإن استطاع أبيقور وأصدقاؤه حرث الحديقة بالقرب من منزلهم والاعتماد على أكل ما يسمّونه البليتون والكروميون والكينارا، محررين ذواتهم من أوامر رب العمل، والامتهان، فلن يستطيع إنسان اليوم عملَ المثل، كون منظومة اليوم تجبر المرء على أن يكون فاشلًا حين لا ينخرط بها، ويكون ترسًا في آلتها العملاقة.

ولعل أبيقور يتشابه إلى حد ضئيل مع شخصية كريستوفر غاردنر المستعبد من قِبَل الرأسمالية، حيث إن كليهما راضيان بالشيء القليل وكليهما يتفقان على شيء واحد، هو أن استقلال السعادة عن المال أمر نسبي، حيث لا بد قبل الاستقلال عن الأمور المادية توفير الوسائل اللازمة التي توفرها المادة، كالمسكن والملابس الدافئة والطعام، وهذا ما كان يبحث عنه كريستوفر الذي قام بدوره الممثل ويل سميث في فيلم «السعي إلى السعادة» للمخرج غابرييل موتشينو، المقتبس من قصة حقيقية، فلم يكن كريستوفر يبحث عن رحلة إلى صقلية أو طائرة خاصة من نوع غلف ستريم G600 أو ڤيلا في مدينة لوكا، بل كان يبحث عن العيشة الكريمة التي سيكافح من أجلها!

الفيلم يتناول حكاية رجل تتركه زوجته بسبب عدم قدرته على إعالتها وإعالة ابنه، بعد أن وضع أمواله كلها ليستثمر في بيع آلات كشف تكثيف العظام المتنقلة، متجولًا من عيادة إلى أخرى بصورة أقرب لمندوب مبيعات مكافح يحمل بذراعيه جهازين يبلغ ثقل كل واحد منهما عشرين كيلوجرامًا، معتمدًا كليًا على بيع آلتين في كل شهر على أقل تقدير ليدفع فواتيره التي دائمًا يتخلف عن سدادها وقيمة إيجار سكنه الذي يُطرد منه لاحقًا، يظهر لنا الوقت في الفيلم وهو يتسرب من بين يديه في عملية التقسيم المرضخة له، يصحو مبكرًا ليروّج لجهاز كشف تكثيف العظام المتنقل والذي يفشل غالبًا في بيعه، ليوصل بعدها ابنه إلى الحضانة، ليتوجه بعدها مباشرةً إلى العمل التدريبي الذي قد يؤهله لوظيفته المستقبلية التي تحتّم عليه منافسة عشرين متنافسًا، ليُجري أثناء التدريب مئات الاتصالات التي يُغلَق نصفها في وجهه، حيث كان ينجز في ست ساعات ما ينجزه منافسوه في تسع ساعات، بل ويتعلم تقنيات جديدة في كل يوم كي لا يستنزف الوقت الذي أصبح أثمن عملة في يومه، كأن يبقى على السماعة بأذنه بين المكالمات ويستخدم يده الأخرى لإغلاق الخط ومعاودة الاتصال، حيث أدرك مع التكرار أنه حين لا يُنزل السماعة من أذنه يكسب ثماني دقائق إضافية في اليوم. ولم يكن يشرب الماء أثناء العمل كي لا يضيع وقته في الحمام، وكل ذلك ليدرك باص الساعة الرابعة مساءً، ليخرج مبكرًا مستلمًا ابنه من الحضانة، متوجهًا إلى الملاجئ المؤقتة المخصصة للمشردين ليحجز سريرًا له ولابنه مبكرًا.

الفيلم يتلخص بالمسعى الذي يظن أنه صعب الوصول، خصوصًا في سان فرانسيسكو التي تختل فيها الطبقات. يمضي الجميع دون محاولة إنقاذ حقيقية للناس التي لم تجد فرصتها للمحاولة، فكما تقول الشاعرة الإندونيسية حنكين أفيفا: «الناس جميعًا في الأعلى يصرخون: "انقذ نفسك"، يقولون أشياء عن "السعادة" و"الأمل"، لكنهم منشغلون جدًا بحياتهم ليدركوا أن الأمر ربما يكون أسرع كثيرًا‏ -فقط-‏ لو أنهم أمدّوك بحبلٍ!»

أما المجازفة التي ذكرناها في البداية، المتعلقة بالأجهزة الطبية، المعنية في وضع كل ما يملكه المرء في سلة واحدة، سنجدها مكررة في فيلمه الآخر الذي فاز فيه على أدائه بجائزة الأوسكار، «الملك ريتشارد»، المقتبس كذلك من قصة حقيقية، حيث كان يستثمر في ابنتيه «الأخوات ويليامز» لاعبتَي التنس الشهيرتين، مفنيًا حياته في العمل مدربًا لكلتيهما نهارًا وسط مضايقات من أبناء جلدته، والعمل رجلَ أمن في الليل، ليبدأ يومه التالي في عملية الترويج لمهارات ابنتيه المنماة بفضل صرامته في التمرين، وكل ذلك ليبني صروحه التي يعتقدها، وسط مجتمع أمريكي متنوع الطبقات، يبحث فيه الفرد عن المكانة التي تسعده باستمرار!

نلحظ في الفيلمين أن لون البشرة في شخصيتَي ويل سميث، لها من التأثير الكبير على حظوظه الحياتية، كذلك فكرة الاستثمار في الأبناء الذين في الوقت نفسه تسببوا في فكرة ضيق المعيشة في البداية، كون الحياة الأُسرية التي تربط المجتمعات الفقيرة في كل دول العالم متشابهة، سواء كانوا أقليات أو أكثرية، فبالرغم من أن الإنجاب عبء مادي على الأسرة البائسة، فإن الأبناء قد يصبحون أقرب إلى بوليصة تأمين أو حتى تذكرة اليانصيب للسعادة التي طال البحث عنها؛ كلما أنجب التعساء أكثر أو استثمروا في أحد أبنائهم، تضاعفت فُرَصُهم في أن يجدوا معيلين لهم حين تهرم أجسادهم في المستقبل ويُطردون من شقق الإيجار غير الرحيمة بهم، أبناء يحققون أحلامهم الفانية التي تمنعت عليهم بسبب الظروف، وفي هذه الحيلة أتذكر القرطاجي حين قال: «أوجد طريقًا فإن لم تجد فشُقَّ واحدًا!»

دون ذكر مسيرة العائلتين التي يعيد الأبوان فيها ترميم جراحهما، كعملية إصلاحية ترسخ من الترابط القادم، فالوعود التي قطعها الأبوان لأبنائهم كانت تتعلق بعدم التخلي كما حصل لهما سابقًا، فأحدهما صرح بأنه رأى والده لأول مرة وهو في الثمانية والعشرين من عمره، وبسببه قرر أنه عندما ينجب أولادًا سيعرف أولاده من هو والدهم، والآخر تخلى عنه والده وهو صغير عندما لمس يدًا بيضاء بالخطأ، أثناء تفشي العنصرية، لينهال عليه العنصريون البِيض ضربًا، ليشاهد والده وهو يفر فزعًا دون أن يحاول إنقاذه.

ندرك حتمًا في الفيلمين قيمة المادة بوصفها مسببًا رئيسًا لعملية التحول المرجوّة. العمل الأول يخبرنا بأن السعادة متصلة بالسعي فقط وليس البلوغ، ولعل جميع المسرات التي تحصلت عليها العائلتان تبددت واستُبدل فيها بالطريق تحويلةً جديدة، فقد تعودنا على النهايات التي تنقل لنا لحظة الظفر، وليس ما بعدها، وقد لخص آلان دو بوتون محاججة أبيقور المحظوظ في عيشه وقتها في قوله إننا لو امتلكنا مالًا من دون أصدقاء، أو حرية، أو حياة منظمة، لن نكون سعداء فعلاً، ولو امتلكنا هذه العناصر مع الافتقار إلى الثروة، لن نكون تعساء أبدًا.

وكثيرون غير أبيقور حاولوا تفسير السعادة، مثل كونفوشيوس وبوذا وصولًا إلى أرسطو وأفلاطون. العلماء يعتقدون أن الوصول إلى السعادة الدائمة مستحيل، لأن النفس البشرية لا تمتلك حدودًا لرغباتها، ومنهم مَن قال إن السعادة ممكنة بشرط ألا يسعى الإنسان إلى تفصيل العالم على مقاس رغباته.

وهذا هو أهم مبدأ برأيي، بل إنه ينطبق بظرافة مطلقة وتعاطف شديد على ويل سميث نفسه بوصفه إنسانًا عندما ربط سعادته في وجود فتاة لا تخونه، كما صرّح في إحدى مقابلاته التي أجراها على برنامج «طاولة مستديرة» المقدَّم من قِبَل هوليوود ريبورتر.. قال: «عندما كنت في الخامسة عشرة، خانتني حبيبتي الأولى، أتذكر أنني اتخذت قرارًا، "لن يخونني أحد مجددًا"، والطريقة التي سأحقق من خلالها هذا القرار، هي من خلال التحوّل إلى أكبر نجم سينمائي على هذه الأرض.. كان لدي اعتقاد غريب، كلما تتصدر أفلامي شباك التذاكر حياتي ستصبح عظيمة!»

وهذا يناقض تمامًا ما تعرّض له من خيانة بددت ما يظنه السعادة الأبدية وهو في عز نجوميته، حيث إن حياته الشخصية أصبحت لبانة تلوكها ألسنة عشاق الفضائح والنمائم في هوليوود بل وفي العالم أجمع، وهذا ينافي تمامًا ارتباط السعادة بالمادة، بل ويوضح لنا أن المكانة لم تكن يومًا ملاذًا يحمينا من الأذى الذي تذوّقناه مسبقًا.

ولكن يبقى الباحث عن السعادة ملهمًا في عصرنا الحالي وفي كل العصور، يسحرنا الفاشل الرافض للفشل، المتجاهل لتعثره، من لا يكف عن نفضه للغبار الكاسي لهدومه بعد كل سقوط، من يخلق من كلمة أمل مرادفًا لا يتواجد إلا في قاموسه، ولا يقرأهُ أحد سواه، باحثًا عن السعادة المرجوة باستماتة الظمآن، سواء كانت السعادة مقترنة بالمال أو الصحة أو القوة.. وغيره.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى