تورية داود وصورته الضبابية

August 12, 2024

اسمح لي عزيزي القارئ، وقبل أن أبدأ بالحديث عن فيلم «أرض الخوف» (2000) للمخرج صاحب القلب المؤرق داود عبدالسيد، أن أذكرك بشيء بسيط، وهو أن ما تقرأه في السطور التالية هي قراءة، مجرد قراءة. هذا ليس ملخصًا لفكرة الفيلم أو شرحًا لفحواه، فحاشا أن أتجرأ وأجزم أن هذا ما أراده صانعه في هذا العمل أو في أي عمل فني آخر. في الواقع ورغم يقيني أنها مسلمات، وجب التأكيد على أن كل من يحاول تفكيك أي عمل فني أو يحاول شرح بعض معالمه ورمزياته، ما هي في النهاية إلا تأملات شخصية لا تتجاوز ذلك، فلا أحد يستطيع الجزم بما يدور في ذهن الفنان، بل ربما هو نفسه لا يدري.

أسئلة ورموز وتأملات وتفسيرات. تمتلئ عديدٌ من الأعمال الفنية بمَشاهد وكلمات وصور لا يجد صاحبها تفسيرًا؛ هو شعر بها فكتبها، رسمها، صورها، كما هي، كما خيلها له عقله، كما صورها له لاوعْيه، الذي ربما يكون واعيًا بالمعنى أكثر من إدراك الفنان لنفسه، ولذلك يحرص أغلب الفنانين على ترك الصورة مبهمة دون تأكيد أو الانتصار لرأي أو تصور، وذلك من أجل جعل العمل قابلًا لعديدٍ من التأويلات، فيصبح ملك عديدٍ من الجماهير أصحاب الرؤى المختلفة.

ولأن نظرة الفرد للحياة وإيمانه الشخصي يؤثران في تأويله لما يرى ويسمع، يحب الفنانون هذه الحالة الجدلية التي تجعل أعمالهم محل نقاش دائم، فتصبح خالدة في الذاكرة أكثر وأكثر؛ لذلك، هذه القراءة التي هي أقرب إلى التأمل ما هي إلا تصور شخصي لما شاهدته، وهذا أكثر ما أحبه في الفن وهو قدرته على إعادة تشكيل وعيي وإحساسي بالأشياء عن طريق تركي في حالة تأمل لما رأيت، وطرح أسئلة عليّ من دون إجابة، وربما لن أجد أنا إجابة أيضًا، ولكنه سيعيد ترتيب أفكاري ومشاعري أثناء هذه الرحلة التأملية كجلسة صوفية تهيم بداخلها، لكنك لا تخرج خفيف الروح كالدراويش، بل مثقلًا بأسئلة وجودية عن معنى الحياة وماذا نفعل هنا ولماذا نستمر ومن أين أتينا وإلى أين نذهب، وهل حقًا هناك إجابة عن هذه الأسئلة أم لا.

إن مُخرجنا فنانٌ حقيقي، والفن الحقيقي كالمرآة، تعكس صورة المتلقي فتختلف الصورة باختلاف الشخص، بل تختلف صورة الشخص الواحد باختلاف زاوية الرؤية. ومجددًا وقبل الشروع في الحديث، اسمح لي أن أوضح أنه ليس بالضرورة على الإطلاق أن يكون كل مشهد وكل جملة في قصتنا مكافئين لرمزيةٍ ما من البداية إلى النهاية، بل العظمة في رأيي أن تطرح قصة متماسكة كما صنعها داود في «أرض الخوف»، وأن تطرح في طياتها أسئلتك ورؤيتك للعالم وضبابية الصورة، ولذلك، سأكتفي بمشهدين لأنهما الأكثر إخلاصًا لجوهر الفيلم في تأويلي الشخصي.

تورية سينمائية.. التورية في اللغة العربية هي كلمة أو جملة لها معنيان: قريبٌ ظاهر غير مُراد وغير مقصود، وبعيدٌ خفيٌ وهو المُراد. في فيلم «أرض الخوف»، يمارس داود عبدالسيد هذه اللعبة اللغوية في شاعرية تامة. آدم أبو البشر وفقًا لميثولوجيا الديانات الإبراهيمية، هو اسم يكتب به بطلنا «يحيى أبو دبورة» -الضابط الذي ستدسه الداخلية في عالم الجريمة- خطاباته التي يرسلها إلى الجهات العليا، وهنا في رمزية تصبح أكثر وضوحًا عندما يتناول بطلنا تفاحة ويقضمها تجسيدًا لقصة آدم الذي أغواه الشيطان بأكل التفاحة من الشجرة المحرمة.. استطاع الشيطان أن يصور لآدم التفاحة وكأنها كنز يستحق الشقاء والمجازفة بحياته الهانئة في الجنة.

قصة آدم هي خير قصة تمثل البشر الساعين إلى بلوغ أحلام وطموحات ليست في أيديهم، مضحّين في سبيل ذلك بكل شيء، وربما يُضحّي بعضٌ منهم بحياته مجازًا أو فعليًا في سبيل ذلك. يميل الإنسان إلى المغامرة، متسلحًا بدفعات من الأدرينالين، أملًا في الحصول على جرعات مماثلة من الدوبامين عند الوصول إلى سعيه. يميل الإنسان إلى تخيل كل ما ليس في يده على أنه الأفضل والأجمل ما دام لم يقطفه وما دام لم يقضمه.

«الحقيقة يا ابني المهمة مش سهلة، مش هتاخد قدام كل ده إلا لحظات قليلة من السعادة، هتخلقها لنفسك في حياتك الجديدة، ولذة المغامرة، وخدمة هدف سامي».
«أرض الخوف» – داود عبدالسيد

في فيلمنا، آدم ليس صورة عن أبي البشر، رغم وضوح التشابه من الاسم والتفاحة، لكن آدم هنا هو الإنسان، والمهمة هي الدِين الذي سيحمله على عاتقه طوال رحلته -طوال حياته- مؤمنًا به وداعيًا إليه وملتزمًا بتعاليمه. هذا الدين لن يحميه من تقلبات الدنيا وأخطارها، لن يمنعه من التعرض للظلم أو الإصابة بالمرض كما لن تحمي المهمة يحيى أبو دبورة من رجال الداخلية، وذلك من أجل أن تنطلي الحيلة -من أجل الصعود في مجال تجارة المخدرات والوصول إلى أعمق أسرار التجارة المحرمة- كرحلة الإنسان في الحياة كما تصورها الأديان الإبراهيمية، فالدنيا دار بلاء سيمر فيها الإنسان بكل شقاء، ومَن يتجاوز ذلك ويظل صامدًا سيصبح من المصطفين من ساكني جنة النعيم، فالدين هو الغواية التي حملها الإنسان ليخاطر بمتع حياته التي بين يديه من أجل الوصول إلى طعم التفاحة الذي لم يذقه، من أجل الوصول إلى الجنة.

كما أن السر -في حالة يحيى- لن يعرفه إلا وزير الداخلية ومدير المخابرات العامة ووزير العدل، ثالوث كالأب والابن والروح القدس، وهم أناسٌ لن يستطيع الإنسان العادي سؤالهم أو الوصول إليهم، كما لن يتم الإشارة إليه في السجلات الرسمية، كحال الأديان، فلا توجد وثائق تاريخية تثبتها ولا تستطيع أن تخاطب من دعوا لهذه الديانات فهم من آلاف السنين. لذلك، تصبح رحلة الإنسان في الإيمان بشيء غيبي مُهلكة لروحه لعدم وجود دليل مادي يستطيع أن يضعه أمام روحه للإجابة عن الأسئلة الكبرى عند الشك، ورغم ذلك تدعوه إلى التمسك بها والحفاظ عليها ويظل متمسكًا بها حتى لا يجد نفسه وحيدًا في عالم بلا معنى.

«فأنا أخاطب وأراسل شخصيات لا أعرفها مجردة وكأني أكلم حائطًا أصمّ».
«أرض الخوف» – داود عبدالسيد

من هو موسى؟ يلتقي يحيى أبو دبورة بموسى في مسجد السلطان حسن، في لقاء أشبه بالاعتراف في المسيحية، يود فيه يحيى أن يلقي من على عاتقه ذنوبه، يعترف بها لأحدهم ليعطيه صك الغفران أو ليؤكد له أنه على طريق الصواب وأن الأجهزة العليا -الإله- راضٍ عنه. أكسب المسجد الطابع الديني للقاء، كما كان اختيار اسم موسى تورية أخرى كما فعلها مع اسم آدم، فموسى هنا لا يرمز لنبيِ اليهودية، بل إن اختيار اسم نبي هو فقط للدلالة على الرمزية الدينية التي يجسدها موسى في الفيلم، فهو هنا رمز للدين وبالأخص رجاله.

في البداية، أول ما يسعى إليه يحيى هو أن يتأكد أنه على المسار الصحيح.. أنه لم يضل الطريق حتى لا يضيع جهده وألمه هباء منثورًا ويتبخر حلمه في الوصول إلى غايته، ولكنه يفاجَأ برد موسى: «معرفش». موسى هو الوسيط كرجال الدين بالضبط، فهم حلقة الوصل بين الإنسان والإله، كأنهم حاملي الرسائل بين الطرفين، وفي صدفة ليست بالغريبة، موسى موظف بمصلحة البريد.

يفاجأ يحيى برد موسى وفي خاطره: إن لم تستطع أن تعرف، فمن سيعرف؟ وما فائدتك بالإساس إذا كنت تجهل العلم بمثل هذه الأمور؟ في إحالة إلى رجال الدين الذي وضعوا أنفسهم كوسيط بين الإنسان والإله، ولكنهم حلقة مكسورة بلا فائدة. وفي هذه اللحظة التي يغمرها اليأس، يبدأ يحيى في الاعتراف، محاولًا الاستفادة بأي شيء، فإن لم يكن يستطيع أن يعرف هل هو على صواب أم لا، فعلى أقل تقدير يريد أن يزيل هذا الجبل من على صدره.

«أنا لما ابتديت المهمة كنت قادر أشوف كل حاجة بوضوح، كنت متأكد من اللي أنا باعمله.
بعد كده ابتديت أحس إن أنا بشوف الصورة من ورا لوح إزاز، وبالتدريج ابتدت تتكون طبقة كده زي التراب.
المشكلة إن التراب ابتدى يزيد لدرجة إن أنا ما بقيتش شايف أي حاجة، صورة ضبابية.
الذكريات اختلطت مع الأحلام مع الأوهام مع الحقائق.
الفترة الأخيرة بقيت أحلم بكوابيس وأصحى خايف مش عارف ليه.
بقيت أحس إن محكوم عليّ بالوحدة، متعلق في الهوا، لا قادر أمسك حاجة بإيديا ولا فيه أرض تحتي. بقيت أسأل نفسي سؤال: أنا ليه بقيت كده؟»
«أرض الخوف» – داود عبدالسيد

في نهاية المشهد وفي نبرة بها كثير من الحزم، يرتفع صوت يحيى عندما يخبره موسى أنه يود المساعدة لكنه لا يعرف كيف؛ بداخل يحيى غضب من عدم تلقيه ردًا، غضب مشابه لغضب الإنسان من صمت الإله، فيقول: «أنا عايز أعرف اللي بَعمِلُه صح ولا غلط، انتم راضيين عنه؟ فيه فائدة من وراه؟»، ليكرر موسى إجابته بعدم معرفته: «ماتسألنيش أسئلة أنا ماعرفش إجابتها»، ليصرخ به يحيى قائلًا: «أنا مش بسألك انت، أنا بسأل الجهة اللي بشتغل لحسابها وإذا كنت انت مش عارف اِسألهم ورُد عليّ».

صرخة يحيى هي صرخة إنسان أهلكته أسئلته، يود أن يعرف حقيقته، سئم من غموض الرحلة ومصاعبها التي فاقت قدرته، يود أن يكلمه الإله، وبخاطره سؤال: إذا لم يعرف رجال الإله ما يريده، فمن سيعرف؟ ولماذا لا يعرفون؟ هل هم مخادعون، أم أن الدين كله خدعة! وهل يعني ذلك أنه كُتب عليه البقاء في صحرائه مع أسئلته من دون إجابات ترويها، وإلى متى بإمكانه السير في هذا الطريق الذي لا يعرف آخره ويشك في جدواه؟

يذكرني «أرض الخوف» ويحيى وأسئلته برائعة نجيب محفوظ «الحرافيش»، وخاصة حالة الشك وعدم اليقين التي خالجت شخصية «عاشور الناجي»، وطلبه الإجابة والعون من الإله، ولكن في المقابل لا يجد إلا كثيرًا من المِحَن دون إجابات.

«ويسأل الغوث من الرحمن فتنسكب عليه خمر الفتن.
«الحرافيش» - نجيب محفوظ

هذه المقابلة تركت ليحيى أسئلة أكثر مما تركت إجابات، بل ما زاد الوضع سوءًا أنها تركته في شك مؤرق يحرق روحه ليلتهمه الشك حتى يشك بنفسه ذاتها.

«لم تُرِحني مقابلة موسى، إحساس غريب بالشك انتابني، حتى لقد بدأت أحس أنني أعيش في أوهام خلقتها، ومهمات غير حقيقية ابتكرها خيالي».
«أرض الخوف» – داود عبدالسيد

في الصورة الكبيرة، هل يحيي صورةٌ لنا؟

ربما يختلف معي كثيرون، وهذا طبيعي لأننا بشر مختلفون، وكما ذكرت، هذا انطباع شخصي طاردني لأيام كما طاردني الأرق لأيام أخرى فحاولت إخراجه من عقلي لعلي أجد سبيلًا للنوم، كسعي يحيى أبو دبورة لإيجاد إجابة تساعده على تهدئة ما بداخله من نار. وفي النهاية، ربما نختلف على رمزية موسى أو المهمة، ولكننا -أظن- سنتفق أن يحيى أبو دبورة هو نحن بتساؤلاتنا وضياعنا ورغبتنا في الحصول على إجابة في ظل هذا الصمت المخيف لما نشاهده من مشاهد حولنا تثير رعبنا أكثر وأكثر.

ويبقى سؤال يحيى في بداية الفيلم بلا إجابة.

«عاد السؤال الذي يدور في عقلي منذ اخترت قدري الجديد: هل أخطأت أم أصبت الاختيار؟»
«أرض الخوف» – داود عبدالسيد

الإنسان الذي يبحث عن معنى لحياته في كل هذا الصمت، يحاول أن يجد سببًا مقنعًا للبقاء، للمواصلة، ولكن، ليصل إلى ماذا؟ وكيف؟ وأي سبيل يسلك؟ أسئلة لم يجبها داود وربما لن يجيبها أحد بإجابة قاطعة، ليظل الإنسان مؤرقًا مرهقًا في رحلة البحث التي لا تنتهي.

في رحلة الإنسان ورحلة يحيى أبو دبورة، سيواجه كلاهما المصاعب والأسئلة المهلكة والتجارب التي ربما تُفني روحهم قبل جسدهم، من أجل الوصول إلى الجنة، من أجل كشف عالم الجريمة وأن يصبح بطلًا، ولكن يبقى التساؤل: هل كان من الضروري على آدم ويحيى أن يمرّا بكل ذلك منذ البداية؟

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى