هل ولدت الأفلام المصرية الطويلة في الصحراء؟

حين طُلب مني المشاركة في إحدى الندوات الخاصة بالنسخة الثالثة من مؤتمر النقد السينمائي في الرياض (7-9 نوفمبر) حول الصحراء في السينما العربية، وجدتني أستدعي من ذاكرتي - ودون ترتيب - كمًا من الأفلام المصرية الكلاسيكية التي تتضمّن كلمة "صحراء" في عناوينها، ولا سيما الأفلام التي أُخرِجت خلال سنوات الانطلاق والتأسيس، منذ نهاية العشرينيات مرورًا بالثلاثينيات والأربعينيات. ثم قادتني الذاكرة الانتقائية إلى عناوين أفلام بعينها في مسيرة مخرجينَ كبار، أمثال صلاح أبو سيف ويوسف شاهين، أفلام مرّت بالصحراء أو دارت أحداثها فيها، في مرحلة ما من رحلتهم في صناعة السينما. 

تدريجيًا، وخلال عملية البحث التي سبقت المداخلة، تشكّلت لدي العديد من الأسئلة التي راحت تترابط إلى أن وضعتني أمام سؤالٍ واحدٍ كبير استقرّ في خيالي، واخترت أن يكون مدخلًا لمشاركتي في النقاش: هل ولدت الأفلام الروائية الطويلة المصرية في الصحراء؟ هل كانت الصحراءُ مجرد فضاءٍ درامي يوفر مساحات للمعارك ولهجة بدوية تختلف عن لهجة المدن المصرية من أجل خلق بيئة مغايرة، تجذب العين وتسلّي الذهن، أم أنها قدّمت أيضًا مجالًا حيويًا مستحقًا لسماع الشعر على الشاشة الجديدة بما يحمله من موسيقى وملاحم؟ وهل أوجدت مساحة للتحرر من الزمن - بالعودة إلى الماضي بتجليات قصصه وحكاياته التي هرستها المدينة - فأوجدت فسحةً للإسقاطات السياسية في زمن الرقابة المتجهمة؟ ناهيك عن بديهية حضور مواقع التصوير الخارجي المفتوح بصريًا، بعيدًا عن شوارع المحروسة المتخمة بأثر التقدّم المعماري والبذخ الحضاري.

فهل يستحق كل ما وفّرته الصحراءُ للسينما المصرية في بواكير إنتاجاتها، أن نتوقّف عنده بالتساؤل ومحاولة تفكيك الأسباب؟ أو أن نُطلقَ، على الأقل، العنان لتأمّلٍ مختلفٍ في مُيولِ وأفكارِ الرواد الذي خرجوا من الشوارع إلى الرمال المحيطة بالمدن المصرية.

تجدر الإشارة إلى أن واحدة من أهداف المؤتمرات المتخصصة هي فتحُ الباب أمام هذا النوع من الأسئلة والمساءلات، ليس فقط على مستوى النقاش المحدد بزمنِ الندوة ولكن فيما بعد، كواحدة من الخلاصات أو النتائج التي يمكن أن تفرز ردودًا على ما طُرح أو توسعًا في شرح وتأصيل ما تم إثارته أو حتى معارضته ومناقضته بصورٍ مختلفة، وربما أيضا توليد اتجاهٍ أو استراتيجيةٍ نافعةٍ لتطوير سياقات ومناهج تشكيل الموضوعات التي يمكن اقتراحها، والعثور على ثيماتٍ تخص الدورات القادمة.

في ظني أنه لا يمكن تصور نجاح أي دورةٍ لمؤتمرٍ يجمع أهل التخصص، دون أن ينتهي بمثل هذه الأسئلة الجدلية أو المفتوحة أمام النقاش، والمساهمة الممتدّة، بعد انتهاء أيامه، وهو ما يُمكن اعتباره قد تحقق ولو جزئيًا خلال الدورة الجديدة لمؤتمر النقد السينمائي الوحيد في المنطقة العربية والشرق الأوسط.

ولكن الرمل وعى

«هذه الربوة كانت ملعبًا       لشبابينا وكانت مرتعا‏‏

كم بنينا في حصاها أربعًا    ‏‏ وانثنينا فمحونا الأربعا‏‏

وخططنا في نقا الرمل   فلم‏‏ تحفظِ الريحُ ولا الرملُ وعَى‏‏»

(أحمد شوقي- جبل التوباد)

الصحراء ليست مجرّد بيئة درامية تسمح بالتصوير الخارجي، ومغامرات ركوب الخيل، والمطاردات عبر الرمال الهائلة وذرى التلال، أو ظلمة الكهوف وعيون المغارات المطفأة فحسب، إنما الصحراء هي فضاءٌ يسمح بتشكيل الدلالة، وموطئ للغموض، وهي اتساع المجال لأصوات الرياح المحملة بالزمن، وآثار الأقدام الذائبة على الرمال التي تبدو أحيانًا بلا ذاكرة. 

هي بيئة درامية باذخةُ الخصوبة لطرح التناقضات بين البداوة بمختلف معاييرها وبين سياقات المدينة التي لا تفرّق بين الرمل والغبار على الأسطح اللامعة. وهي مرادفُ الامتداد والفراغ، تنوّع الألوان، اختلافُ طبائع الضوء، شموخ الصدى، براءة النور الأول، وعمق الأفق ومهابته.

يقول المؤرخ المصري سعد الدين توفيق في كتابه «قصة السينما في مصر» أن الأخوين بدر وإبراهيم لاما، اللذين قدِما من أمريكا اللاتينية في طريقهما إلى وطنهما الأم فلسطين، وصلا إلى مصر، وبعد مشاهدتهما النشاطَ الفني في الإسكندرية، وقتذاك قررا البقاءَ فيها ليجرّبا حظهما. وقد ساهما فى شركة "مينا فيلم" ثم تخليا عن نشاط الهواة، وقاما بإنتاج فيلمٍ صامتٍ يُعدّ أول فيلمٍ عربيٍ طويل يُعرض فى مصر، وهو فيلم «قبلةٌ في الصحراء»، والذي عُرض في سينما "الكوزوموجراف الأمريكاني" بالإسكندرية فى أول مايو 1927، أي قبل فيلم عزيزة أمير «ليلى» بستة أشهر تقريبًا. وهو الفيلم الذي أعاد المؤرخون تصنيفه على اعتبار أنه أول فيلم مصري طويل نظرًا لكون عزيزة أمير مصريةُ الجنسية وليست مهاجرةً أو زائرة مثل الأخوين لاما.

تُعجب هيلدا (إيفون جوين) الفتاةُ الأجنبية، بشفيق (بدر لاما)، الشاب البدوي الذي يُقيم في قبيلةٍ تستوطنُ الظهيرَ الصحراوي. إلا أنه يُتَّهم بقتل عمه عبد القادر، مما يؤدي إلى هروبه إلى الصحراء الواسعة وانضمامه إلى مجموعة من قطّاع الطرق فيصبح واحدًا منهم. لكن  القدر يلعب لعبته من جديد، فيجمعُهما مرةً أخرى أثناء هجمة من هجمات العصابة على إحدى القوافل التي تكون هيلدا ضمنها، فيقوم ثلاثة من قطاع الطرق بخطفها، لكن شفيق يسعى خلفهم ويتمكن من إنقاذها ويتزوجها، بعد أن تظهر براءته من تهمة قتل عمه.

اعتبر «قبلةٌ في الصحراء» أول فيلم عربي ينتمي إلى سينما الصحراء، ويقدم قصصا تتفق مع خيال المتلقي المفعم بالحكايات والملاحم العربية الشعرية والنثرية، حيث هبات الشجاعة، ومهارات الفروسية، ومكابدات العشق المستحيل، وقد تضمن الفيلم أول  قبلة مصورة في تاريخ السينما المصرية والعربية، والتي اعتبرتها الرقابة الدينية والمجتمعية آنذاك مخالفة للآداب العامة.

كتب إبراهيم لاما قصة الفيلم وأخرجه وصوّره أيضًا، بينما قام شقيقه بدر بتمثيل دور البطل، وتم تصوير المناظر الخارجية في الشوارع والظهير الصحراوي السكندري، أما المناظر الداخلية فتم تصويرها فى الفيلا التى استأجراها في حي فيكتوريا بالإسكندرية.

رجّح المؤرخون اعتبار فيلم «ليلى» أول فيلم صامت طويل تم إنتاجه في السينما المصرية، وكان مقررًا إنتاجه تحت اسم (نداء الله)، ولكن التصوير توقف لعدم رضا المنتجة عزيزة أمير عما تم تصويره من مشاهدَ على يد المخرج التركي الأصل وداد عرفي. كان عرفي قد أخرج الفيلم في فصلين، وقام بدور البطولة أمام عزيزة أمير، ثم أعيد إخراجه في خمسة فصول بالاسم الجديد بعد حذف دوره، وإسناده إلى أحمد علام، ليصبح أول من لعب دور الفتى الأول في تاريخ السينما المصرية. أما الإخراج فقد أكمله ستيفان روستي بالاشتراك مع أحمد جلال - زوج آسيا داغر وهي أهم رائدات صناعة السينما المصرية - والمخرج حسين فوزي، صاحب التجربة الملهمة مع رفيقة مشواره نعيمة عاكف، ومصوّر الفيلم الإيطالي تيليو كياريني. وقد تم تصوير المشاهد الخارجية بين صحراء الهرم وسقارة وبعض شوارع القاهرة.

في مقابل الفتاة الأمريكية التي تأتي إلى الشرق لتعجب بالبدوي العربي ساكن الصحراء، يبدو فيلم «ليلى» على النقيض تمامًا! حيث تنمو ليلى وسط الرمال الغامضة كزهرة برية في واحة هادئة، تطل على ما تبقى من مدينة ممفيس القديمة، وهناك يعيش في القرية القريبة رؤف بك الذي يعجب بليلى ويحاول التقرب إليها، إلا أنها تتعلق بأحمد الذي كان قد أنقذها من الوقوع في براثن سالم الذي حاول الاعتداء عليها. وتتم خطبة أحمد وليلى، ولكن أحمد يتعرف على فتاة برازيلية سائحة تقيم في فندق قريب من القرية، وتنجح في الإيقاع به فيهجر ليلى، التي بدأ جنين الحب يتحرك في أحشائها؛ الأمر الذي يكتشفه أهل القرية فيطردونها.

يمكن القول إذن إن الفيلمين اللذين تنازعا المركز الأول في تصنيف أول فيلم روائي طويل كانا معًا قادمين من حكايات مرتبطة الصحراء، تهجر المدينة وتلعب على أوتار الثيمات التي سوف تشكل سينما الرمال فيما بعد؛ قصص الحب الملحمية والمطاردات والعشق المخبأ في طيات الخيام وبيوت الشعر. بل إن كلا الفيلمين يحتويان على شخصيات أجنبية جاءت لتنازع أهل الصحراء المحبة، أو لتمارس عليهم الغواية! وهو أمرٌ طبيعي إذا ما أخذنا في الاعتبار أن المجتمع المصري قبل 1952 كان مجتمعًا كوزموبوليتانيًا، يحتوي على العديد من الجنسيات التي تعيش وتعمل في عاصمة الشرق البراقة آنذاك.

ورغم غواية العاصمة الجميلة وفخامتها إلا أن صناع السينما الأوائل ذهبوا إلى الصحراء في سردياتهم! وأصبح كل من «ليلى» و«قبلةٌ في الصحراء» يحملان رقمي 2 و 3 في تاريخ السينما المصرية الطويلة، بعد فيلم «في بلاد توت عنخ أمون» والذي صدر عام 1923 من كتابة وإخراج فيكتور روسيتو، والذي بدوره لم يكن بعيدًا عن الصحراء! حيث تدورُ أحداثه حول شخصية اللورد كارنافون واكتشافه لمقبرة توت عنخ آمون إلى جانب عدد من اﻵثار الفرعونية في صحاري الوجه القبلي ووادي الملوك، وهو أقرب للديكودراما - وإن لم يكن المصطلح قد دُشن وقتها - ولكن ما نقصده أن الصحراء، حتى في الإنتاجات الأولى للسينما المصرية الطويلة التي قُدمت بعقول وتمويلات أجنبية، جاءت أيضًا كعنصرٍ أساسي حاضر فيها. وهي تفصيلةٌ تحتاج إلى تفكيك من زاوية الرؤية الكولونيالية للشرق، وعلاقتنا مع الآخر، ونظرتنا إلى أنفسنا.

لكن المُثبتَ والمتاح للنقاش هو أنه في مقابل قصيدة أحمد بك شوقي جبل التوباد، حيث "لم تحفظ الريحُ ولا الرملُ وَعَى" فإن الرمال التي صُوِّرت على شاشة السينما المصرية في بواكير انتاجاتها حفظَت لنا السرديات التي شَغلت الصناع في ذلك الوقت، سواء على المستوى الفني أو التجاري، وتركت لنا إرثًا من سؤال الصحراء في السينما المصرية، فحتى وإن (لم تحفظ الريحُ) فإن الرمل المنبسطَ في الشاشة قد (وعى).

بنت الصحراء

في عام 1937 قدّمت الرائدة السينمائية بهيجة حافظ فيلم «ليلى بنت الصحراء» من إنتاجها، وشاركت في كتابة السيناريو والحوار له، كما قامت بالتمثيل والغناء فيه أيضًا، ووضعت موسيقاه، وأسهمت في إخراجه مع ثلاثة من المساعدين بعد خلافٍ مع مخرجِ الفيلم ماريو فولبي. وتدور أحداثه حول زياد الذي يدبّر مكيدة لاختطاف ليلى بمساعدة كسرى أنوشروان الفارسي، بعد أن وعده زياد بأن تكون ليلى من نصيبه، وذلك للنيل من البراق ابن عمها وحبيبها. ثم تأتي عبلة اللعوب لتخبر البراق بأن عمه قد باع ليلى لكسرى، فيقرّر البراق أن يسترجع ليلى منه، وينطلق في مغامرة ملحمية لإعادتها إلى القبيلة ومحاربة كسرى من أجلها.

في ذلك الوقت كانت المصاهرة بين العرش العلوي المصري، المتمثّلة في زواج فوزية أخت الملك فاروق من ولي العهد الإيراني محمد رضا بهلوي، قد تمّت، واستشعرت خارجية الإمبراطورية الإيرانية أن الفيلم يحمل بشكلٍ ما إساءةً إلى العرش الفارسي، بسبب انتصار فتاة بدوية عربية على كبرياء كسرى الذكوري ومنعه من إغتصابها!

فصَدَر قرارٌ بمنع عرض الفيلم بعد أن تكلّف عشرات الألوف من الجنيهات، مما عرّض بهيجة حافظ لخسارة مالية كبرى. وهكذا صار أول فيلم يُمنع عرضه في مصر يحمل «الصحراء» في عنوانه، ويتناول قصة تحتضنها الصحراء كفضاء درامي وبيئة لقصة الحب ومقاومة الآخر الأجنبي.

لكن الفيلم كان قد غادر مصر إلى الخارج، ليصبح «ليلى بنت الصحراء» أول فيلم مصري يشارك في مهرجان برلين السينمائي ويحصل على أول جائزة ذهبية في تاريخ السينما المصرية.

فهل يمكن، إذن، أن ننكر أن الصحراء لم تجلب للسينما المصرية باكورة الإنتاج فحسب، بل جلبت أيضًا حضورًا دوليًا وجوائز عالمية، وقبل ذلك، أول تحفظ رقابي على قبلة تلمع فوق الشاشة، ومن بعده أول منع رقابي لفيلم!

مروا من الصحراء

يمكن أن نختِم ما طرحناه من سؤالٍ حول علاقة السينما المصرية بالصحراء في عقودها الأولى بالإشارة إلى بعض الأمثلة اللافتة من تاريخ هذه السينما، من ناحية المخرجين الذين مرّوا بالصحراء أو توجهوا إليها طمعًا في إمكانياتها، أو رغبةً في مغامرةٍ مع أزمنتها وطبائعها، أو سعيًا لتجريب سياقاتٍ لن تمنحها لهم المدينة، رغم أنهم من أبنائها المخلصين.

في عام 1948، قدم المخرج الشاب آنذاك، صلاح أبو سيف، فيلمَ «مغامرات عنتر وعبلة» عن الملحمة الشعرية الشهيرة من بطولة كوكا وسراج منير، وكان أبو سيف قد عمل كمساعد مخرج مع أستاذه نيازي مصطفى، وتشرب منه خبرات كثيرة ، ونيازي مصطفى واحد من المخرجين المصريين الذين ذهبوا كثيرًا إلى الصحراء في أفلامهم خلال سنوات الأربعينيات، حيث قدم أكثر من سبعة أفلام جميعها من بطولة زوجته آنذاك الممثلة كوكا، التي كانت أشهر من أتقن التمثيل والغناء باللهجة البدوية، وشاركت زوجها في أفلام مثل «راوية» و«سلطانة الصحراء» و«حبابة» و«ليلى العامرية» وبالطبع يأتي فيلم «عنتر وعبلة» عام 1945، الذي يُعدّ الجزء الأول للفيلم الذي قدّمه صلاح أبو سيف عام 1948 بالأبطال أنفسهم، وفي سياق يستكمل حكاية الثنائي الشهير بعد أن تجاوزا عقبات حبّهما المستحيل - بين العبد الأسود وابنة عمه الجميلة - واستعدّا للزواج، قبل أن تتعرّض عبلة للاختطاف، فينطلق عنتر ليستعيدها.

وفي عام 1949، يصبح «مغامرات عنتر وعبلة» أول فيلم يعرض لأبو سيف في مهرجان دولي -كان السينمائي بكل فخامته- وكأن الصحراء المقدسة منحته بركتها- وذلك في مرحلة البحث عن أسلوبه البصري، ورؤيته الخاصة، وهي فترة تنوعت فيها إنتاجاته ما بين الميلودراما والكوميديا والجريمة، إلى أن عثر على نفسه في التيار الواقعي ليصبح واحدًا من رواده وأساتذته، وإن كان هذا لم يمنعه من العودة إلى الصحراء من حين لأخر على فترات متباعدة، حيث قدم «فجر الإسلام» (1971) الذي تدور أحداثه في صحراء مكة مع ظهور الدعوة الإسلامية، و«القادسية» (1981) الذي كان حول المعركة المشهورة التي خاضتها جيوش المسلمين ضد الفرس بقيادة سعد بن أبي وقاص، وأخيرًا «البداية» 1986 تناول قصة سقوط طائرة مدنية في واحة صحراوية، فيبدأ ركابها في تشكيل نواة مجتمع بدائي، يشهد مستويات من الصراعات الأيدولوجية المختلفة، في إطار كوميدي أسود.

أما المثال الثاني للمخرجين المصريين الذين مروا أيضًا عبر الصحراء في بواكير أعمالهم، كنوع من استكشاف للبيئات المختلفة فهو يوسف شاهين، والذي بدأ رحلته مع صناعة الأفلام بميلودراما فانتازيا تدور في بيت من بيوت المدينة لأسرة متوسطة وهو «بابا أمين» (1950)، ثم انتقل في فيلمه الثاني «ابن النيل» (1951) إلى الصعيد حيث الشاب الذي يحلم بالمدينة، فيقع في غواية أضوائها حتى تكاد تلتهمه، ومن ثم استمرت مراوحاته مع المدينة التي لا تنتهي، وإن كان قد ذهب إلى بيئات مثل أقصى الجنوب في «صراع في الوادي»، والريف الحضري في «نساء بلا رجال» إلى أن جاءت محاولته الأبرز لاستكشاف الصحراء من خلال سابع أفلامه «شيطان الصحراء» (1954) من بطولة عمر الشريف في ثاني أفلامه أمام فاتن حمامة، وبهذا يكون شاهين قد تجول بين مختلف البيئات البصرية خلال سنوات رحلته الأولى، التي كانت تنبض مثل كل الصناع أمثاله بالمغامرة والتجريب، واختبار بيئات غير اعتيادية بالنسبة لتكوينه، وعينه، وثقافته.

وفيما بعد ومثل أبو سيف، يعود شاهين لزيارة الصحراء على فترات متباعدة، كما في تجارب «الناصر صلاح الدين» (1963) عن القائد العربي التاريخي الشهير –في إسقاط على عبد الناصر في ذلك الوقت- والذي يمكن اعتباره أهم فيلم تاريخي حربي ذي طابع دعائي في السينما المصرية  ثم خلال تواجده خارج مصر في فترة المنفى الاختياري، حيث أنجز فيلما بعنوان «رمال من ذهب» عام 1971 مع فاتن حمامة أيضًا.   

خلاصة القول، أن ما أوردناه هنا هو غيض من فيض حضور الصحراء في الصناعة السينمائية المصرية في عقودها الأولى، في ما يرتبط بالرواد وأفلامهم الطويلة الأولى. وما هذه السطور إلا فاتحة شهية للبحث والمجادلة والنقاش حول ما إذا كان لسؤالنا الأول عن حضور الصحراء أكثرُ من إجابة، يمكن لنا أن نتتبعها في مسارات البحث والتدقيق والاكتشاف. وهو ما يجعلنا نأمل ان تشهد الدورة أو الدورات القادمة من مؤتمر النقد السينمائي المزيد من الأطروحات، والأسئلة التي بلا شك هي رافدٌ أساسي من روافد تنمية الثقافة السينمائية ومحبة الأفلام والشغف بشاشات السينما.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى