يغلب على الإنسان حين يُحبّ شيئًا أن يُصاب بعمًى جزئي تجاه عيوبه. فيضخّم فضائله الصغيرة، ويغضُّ الطرف عن زلاته، وكأن الحب يخلقُ طبقةً شفافةً بين العين والموضوع. لذلك، أخشى دائمًا أن أقع في هذا الفخ حين أكتب عن مُخرجٍ راقت لي أعماله، فأسبقُ بالمديح قبل النقد، وأفتّش بعناءٍ عن الجماليات المخبّأة، متجاهلةً ما لا يُمكن تبريره من القبح. ريتشارد لينكلاتر واحدٌ من أولئك الذين يصعب الحديث عنهم دون أن يتسلّل الإعجاب إلى نبرة الكاتب، أي نبرتي أنا.
في مقالتي السابقة عنه، تحدثت عن افتتانه بالزمن، تلك الثيمة التي جعلها محورَ عالمه السينمائي، واستشهدتُ بسلسلة «ما قبل» - (Before trilogy) وفيلم «الصبا» (Boyhood - 2014) بوصفها أمثلة حيّة على ولعه باللحظة العابرة. ولا زلت أؤمن أن لينكلاتر هو "مايسترو الزمن" في السينما المعاصرة، يُجيد الإصغاء إلى التغيّر وتسجيل أثره دون استعجال.
مشاهدة أفلام لينكلاتر بالنسبة لي أصبحت رحلة بحث عن الزمن، حتى وإن بدت القصةُ في ظاهرها بعيدةً عن تلك الفكرة. غير أن هذا البحث بدا وكأنه ضاعَ مني في أفلامه الأخيرة. أحدها «قاتل مأجور» (2023 - Hit Man)، وهو فيلمٌ يقعُ ضمن إطار الكوميديا الرومانسية الممزوجةِ بالمغامرة. فيلمٌ مُحكمُ الإيقاع، يحقق معادلة الجذب منذ الدقائق الأولى وحتى آخر مشهد. تراكمت فيه لحظات الترقّب بعنايةٍ محسوبة، ومع ذلك ظلّ شيء ما مفقودًا، وظللت أبحث عنه طوال مشاهدتي له. إنه فيلم اتبع القواعد بالتزام كبير، ونُفّذ بطريقة تقليدية بحتة، على عكس السمة السائدة التي كانت تُميّز أعمال لينكلاتر السابقة. شعوري لم يكن مختلفًا حين شاهدت «أين ذهبت، يا برناديت» (Where’d You Go, Bernadette - 2019)، لم أجد فيه أثرًا لدفئه القديم. ورغم أن الفيلم نال الكثير من الانتقاد، والذي بدا لي مبالغًا فيه إلى حد ما، فإنني أتفهم تلك الصرخةَ العالية تجاهه، رغم محاولة كيت بلانشيت حمل الفيلم على عاتقها. كلا الفيلمين ظهرا وكأنهما من إخراج مخرج آخر؛ فالمونتاجُ بدا أسرع، الإيقاع أكثر حيوية، وخاليًا من تلك السكينة التي كانت تمنحُ الزمنَ نكهته الخاصة في أفلام لينكلاتر. الحوارات الطويلة التي كانت تُشبه جلسة اعترافٍ، واللقطاتُ التي تمتد أكثر مما ينبغي لتتيحَ للحظة أن تتنفس، كل هذا كان غائبا. وقد تساءلت إن كانت هذه فعلًا أفلام ريتشارد لينكلاتر، حتى تأكدت من اسمه في التتر. هي أمور مألوفة تحدثُ لكثيرٍ من المخرجين؛ حين يخطون خطوة خارج مناطقهم الآمنة، أحيانًا بدافع التجريب، وأحيانًا بدافع الضرورة أو الرغبة في التجدّد. غير أن الاختلافَ هذه المرة لم يكن في النمط فحسب، بل في غياب الروح، تلك النبرة المتأملة التي كانت تجعل من أفلامه رحلةً داخل الزمن، لا مجرّد مغامرة عابرة فيه.
فيلم «قمر أزرق» (Blue Moon)
يعود لينكلاتر بالزمن إلى الوراء، مع شخصيات واقعية وأحداثٍ متخيّلة. الشخصية المختارة: هي الشاعر لورنز هارت، المدعو لحضور العرض الافتتاحي للمسرحية الموسيقية "أوكلاهوما!" من تأليف رفيق دربه السابق، الملحن ريتشارد رودجر. لطالما شكّلا معًا ثنائيًا موسيقيًا ذائع الصيت، فقد كان النجاح حليفهما على الدوام، إلى أن اختلّ توازن تلك الديناميكية بينهما، فانطلق رودجرز في رحلةٍ أخرى مع الشاعر أوسكار هامرستاين.
شعور الاستبعاد بدا جليًا على ملامح لورنز هارت منذ اللحظة الأولى، وازداد وضوحًا في أحاديثه المطوّلة مع الساقي، والناقد، والملهمة الصاعدة إليزابيث. لقد ظلّ في أغلب مشاهده يحملُ نبرةً تهكميةً تجاه المسرحية، في دلالة على رغبته الدفينة في استعادة الاعتراف، كأنه يقول للحاضرين، رغم جهلهم الفني: «رودجر لا شيء من دوني». كمشاهدة، لم أكترث لجهلي بتاريخ هارت أو رودجر، ولا بالخلفية الموسيقية التي جمعتهما. كنت أراقب ببصيرة المتأمل: رجلٌ يعي في قرارة نفسه أن لحظة أفوله قد حلّت، وأن من اعتقد أنهم اتكأوا عليه ليُبدعوا، قد تخلّوا عنه لصالح من هو أكثر سهولةً وأقل شقاءً.
كيف التقط لينكلاتر تلك المشاعر المبعثرة؟
عمد لينكلاتر إلى القبض على بعثرة المشاعر بوسيلته المفضلة: التكديس اللحظي للأحاديث. فهنا، تغدو المحادثة هي الحدث، والركود الجغرافي داخل المطعم (ساردي) هو الوسيلةُ الوحيدة لتكثيف الشعور.
منذ بداياته، كان ريتشارد لينكلاتر منشغلًا بما لا يُرى في الحياة أكثر مما يُروى منها. في ثلاثيته: «قبل الشروق» (Before Sunrise) و«قبل الغروب» (Before Sunset) و«قبل منتصف الليل» (Before Midnight)، كان الزمن مجرد غلافٍ للحوار، للصدف، للمشاعر التي تنضج في صمت. في «الصبا» (Boyhood)، منح الزمن شكلاً ملموسًا، حين ترك الكاميرا تراقب النمو كما لو كان حدثًا كونيًا. أما في «قمر أزرق» (Blue Moon)، فيتحول الزمن إلى ما يفلت منا لا ما نعيشه. لم يعد لينكلاتر هنا مراقبًا من الخارج، بل غائصًا في الداخل، في تآكل الموهبة، وفي الخوف من انطِفائها، في شاعرٍ يكتُب لا ليتذكّر، بل لينسى، أو ليحفظ شيئًا مما يتبقى. وكما صنع سابقًا عوالمَ كاملة من لحظات عابرة، يصنعُ هنا لحظة واحدة تمتد بلا نهاية: لحظة وعي الفنان بأنه بلغ ذروة صوته، وأن ما تبقّى بعد ذلك مجرد صدى.
هذه المرة، تكاد التجربة السينمائية للينكلاتر تكون أشبه بمسرحية مبنية على الحوارات المطولة والمكان المحدود (مطعم ساردي)، ودخول الشخصيات ومغادرتها تحت أنظار عيني هارت، التي نتقمّصها بدورنا، تمامًا مثلما يفعل صانع الفيلم. فنخوضُ تكشُّفَ شخصيته مع كل جملةٍ وكل حوار، والتي تتجلى أطيافها أيضا في علاقته بإليزابيث وايلاند، الشابة الموهوبة التي يُكنّ لها هارت مشاعر خاصة، بينما تبادله هي مشاعر الامتنان لما يبديه نحوها من إعجاب ورعاية، لكنها في الوقت ذاته تستغل صداقته لتحسين وضعها المهني. من خلال شخصيتها المركبة توحي لنا إليزابيث بأنها غير مدركة تمامًا للألم الذي تسببه لهارت بما تبديه من عفوية في المعاملة، الأمر الذي يجعل المشاهد يتساءل إن كان هارت ضحيةَ حبه المستحيل أم أنه يسهم في إيذاء نفسه عبر تعلّقه بمن لا يبادله الشعور. لقد شكَّل كل من هارت وإليزابيث ثنائيًا متناغمًا يحملُ ثقل المشاهد الحوارية الطويلة، التي من بينها المشهد المطوّل داخل غرفة المعاطف، الذي تكشفت من خلاله شخصية هارت المأساوية. ولعل تلك العلاقة بين هارت وإليزابيث تكشفُ هشاشةَ الفنان حين يتشبَّث بالآخر، ذلك الآخر الذي لا يُشبهه في شيء سوى في الظنّ، أو الحاجة. نظراتُ هارت تبوحُ بما لا يُقال، وإليزابيث، بعفويتها، تمارسُ قسوةً غير مقصودة، فهي لا ترى الشاعرَ، بل فرصةً لا تريد تفويتها. وفي مشهده الممتد داخل غرفة المعاطف، يتيحُ لينكلاتر لتلك المشاعر أن تتكثف في ليلٍ لا ينتهي.
في المقابل، يسطع مشهد حواري آخر، يجمع هارت بالكاتب والناقد آندي وايت. لقاءٌ بين رجلين يملكان ملكة اللغة التي تغدو كملاذ، والكتابة كوسيلة لفهم الذات. بدا هارت هنا أكثر صمتًا، وأقل تهكمًا. فهذا الحوار لم يكن كغيره من الحوارات السابقة التي اتسمت بالرغبة في التوبيخ أو التباهي أو الاستجداء، بل كان أقرب إلى اعترافٍ غير مباشر، يتبادل فيه الطرفان نظراتِ من يعرفُ أن هناك شيئًا لا يمكن وصفه بالكلمات، ومع ذلك يحاول. في تلك الليلة، شعر هارت، للمرة الأولى، أنه لا يتحدث إلى جمهور أو مرآة عاكسة، وإنما إلى نظير.
هل عاد ريتشارد لينكلاتر؟
يبدو الفيلم مثل إيماءةٍ حنونةٍ لما اعتدنا رؤيته من لينكلاتر: سَردٌ يقوم على الكلمات لا على الأحداث، وتكثيفٌ للمكان، ليتحول من كونه قطع أثاث رُتّبت بتصميم معين إلى عنصرٍ حميمي يبث الشعور بالألفة. لكن الجديد في هذه العودة أن لينكلاتر لا يكتفي بالجلوس في مقعد الراصد؛ بل يدور بالكاميرا، يتحرك معها بين زوايا المطعم، يتنقّل مع الشخصيات في دخولهم وخروجهم، كأن المكان نفسه يتنفس. هذه الحركة المستمرة ليست مجرد تكنيك، بل انعكاس لروح الشاعر المنكسرة، المتأرجحة بين مجد الماضي وانطفاء ما سيأتي. إذًا، فقد حضرت في الفيلم بصمة لينكلاترية قديمة تتضمن الحوار المكثف والفضاء الواحد تلك البصمة القائمة على التأمل الهادئ لشخصيات متخبطة.
فالمبدع يظلّ دومًا في حالة مدٍّ وجزر مع سماته التي تُتيح له إبهار المتلقي؛ فتارةً يرميها على الرمل، ليجرفها الجَزرُ نحو البحر، وتارةً أخرى يلتقطها حين يقذفها المدّ في اتجاهه. ولعلّ لينكلاتر، هذه المرة، آثر فعل الالتقاط والقبض على شيء مما مضى، لكن مع إضافاتٍ تحمل روح التجديد لما بقي قائمًا.



