تأملات حول ريتشارد لينكليتر ومعضلة الزمن

September 5, 2023

في ظهيرة حارة من ظهيرات أثينا، تجول المشّاء أرسطو كعادته متهادي الخطى ممارسًا هوايتيه المفضلتين: المشي والتفكير. لمع في ذهنه تساؤل له كل الحق في طرحه، وإن كان أمرًا محسومًا في وقتنا الحاضر، لكن لنتذكر معًا…نحن هنا في القرن الرابع قبل الميلاد. صدح بسؤاله: «ما الزمن؟»، ثم زاد من سرعة خطواته، أو لعله خفض من وتيرتها حتى يُحدث توازنًا مع تلك الضجة الصادرة عن تلك المسألة، فالجسد لا يقوى على تحمُّل ضجيجين. لا نعلم علم اليقين كم يومًا أمضى وهو يبحث عن إجابة، وكم نقاشًا خاضَ ليقتنع بما توصل إليه، وعددَ الأميال المقطوعة في أثناء تلك المعمعة. إلا أننا نعلم أنه توصل لحقيقة مفادها أن «الزمن هو قياس التغيُّر».

ولكب نفكك تلك الجملة حتى نتشرّب المفهوم بشكل أكبر، يجب أن نعي أن أرسطو رمى إلى مقصدٍ مفاده أنه إذا لم يتغيّر شيء، فإن الزمن لا يمرّ، أي لا وجود للزمن دون تغيّر. هذه الحقيقة المتطرفة التي نطق بها أرسطو عن الزمن، احتاجت ردًا مناقضًا له بعد قرون عدة من قِبل نيوتن، والذي جزم بوجود زمن مستقل لا علاقة له بالأشياء وتغيراتها، حتى لو تجمّدت أرواحنا وسكنت دون تبدُّل يُذكر، فإن الزمن سيمضي في رحلته مواصلًا الجريان دونما أي اكتراث.

ولعل مرور الزمن، غير المُبالي بتأثيراته على معظم البشر، أمرٌ يصيب الشاهدَ عليه بخطبٍ جلل، فأنت تخرج إلى هذه الحياة ليبدأ معها عدادك الخاص بالتكتكة دون توقف. وتلك التكتكة تصاحبها تحولات في هيئتك ومعتقداتك، وفي المحيطين من حولك. حتى الأماكن، التي لن تضطر لمغادرتها حتى تستشعر اختلافًا فيها، فإنها ستتبدَّل من تلقاء نفسها مع مرور الوقت، ولن تتعرف عليها حتى بتواجدك فيها.

يتدفق الزمن، ويمضي قدمًا مثل نهر جارٍ لا يرغب في أن ينضب أو يتوقف، إلا أنه سينضب أو يتوقف على أية حال ولا نعلم بعد عن الطريقة التي سيتيه بها وينحرف عن مساره الأوحد، ولا نرغب في معرفة تلك التفاصيل المرعبة. جُل ما نهابه: «ماذا يخبئ لنا المستقبل؟»، نظلُّ نحُوم وندُور حول تلك المعضلة الخفية، التي يبدو أنها نالت النصيب الأكبر من الاهتمام؛ نظرًا لغموضها واحتجابها عنا خلف ستائر من الغيب تجعلها لا مرئية. إذن هو خط واحد لرحلة ذهاب دون عودة: ماض، حاضر، ومستقبل. الأول يتشبث بلَوعة الندم والتحسر، واجتزاز ما ساء منه ليُلقى على اللحظة الآنية، أي الحاضر المُعاش. والحاضر لا يهنأ بنيل نصيبه من الاهتمام بسبب التعلق بهواجس خفية يضمرها ذلك المستقبل. السبب قبل النتيجة، الجرح قبل الألم، والنظام قبل الفوضى. تعاقبات لا يمكن العبث بها؛ فمن غير المعقول أن تطلب التواجد في الماضي بعد أن مضيت في الحاضر أو أن تخط الخُطى مباشرة صوب المستقبل دون البدء في الماضي. 

يُبعد المخرج ريتشارد لينكليتر تلك الهواجس عنك قليلًا، مُذكّرًا إياك بالبقاء داخل تلك اللحظة، وفي ذلك اليوم تحديدا. لا يرغب في أن تذكر الأمس ولا أن تفكر في الغد. ابق هنا، لا تكترث بتلك المعادلة غير المعكوسة لمرور الزمن. أربع وعشرون ساعة تعيشها لحظة بلحظة –ضجرة كانت أم جذابة– بالأحاديث المفتعلة والصمت المطبق، بالرتابة والحماسة، بالخجل والجسارة، وإن برز رأي مُعارض يجزم بعدم وجود حاضر وبأننا نقبعُ داخل متاهة مخروطية الشكل، تبرز فيها معالم ماضٍ ومستقبل متلاحقين دون تواجد لحظة واحدة مشتركة. فما تعُدّه حاضرًا لك قد يكون ماضِيًا لي، وما يُعد حاضركَ قد يصبح مستقبلي –إنْ تواجَدْنا في أمكنة مختلفة تتأثر من خلالها سرعة مرور الضوء– إلا أننا لا نرغب في تتبع كل أحاديث الفيزيائيين، وإن بلغوا من المعرفة ما لم نبلغه. في ثلاثية (ما قبل - Before)، ابتدع لينكليتر شخصية جيسي وسيلين ليثبت لنا صحة نظريته المتعلقة بروعة تدفق أحداث اليوم الكامل دون ضرورة اقتطاع الأجزاء غير المثيرة منه. في الجزء الأول من تلك السلسلة، نسير معهما خطوة بخطوة في القطار أولًا، ثم بعد النزول منه والتسكع داخل شوارع فيينا، والوقوف قليلًا عند محل موسيقي وركوب الترام، ثم الاضطجاع داخل الحديقة، ومراقبة شروق الشمس، والعودة مرة أخرى لمحطة القطار. كانت تلك السلسلة تحتشد بحوارات شفيفة لشخصين يرغبان بشدة في التعرف على بعضهما البعض، رغم اعتراض بعض المنغصات، متمثلةً في لحظات الريبة والصمت المبرر من دون شك. كان كلاهما المسبب الرئيس في انفراج شفتي الآخر داخل ذلك الحاضر، والذي يُعرف باليوم السادس عشر من شهر يونيو لعام 1994. 

يتدفق الزمن لصالح البطلين من جديد، بعد مرور تسعة أعوام منذ ذلك اللقاء. وهنا يبرز هَوَس لينكليتر بثيمة الزمن؛ إذ لم يستعجل ببدء العمل على الفيلم الآخر ضمن ثلاثية جيسي وسيلين على الفور، لكنه آثر أن يضفي مصداقية على سرده لأحداث القصة عبر الانتظار فعليًا تسعَ سنوات لتصوير الفيلم الثاني. لقد ترك الزمن يفعل فعلته في ملامح البطلين، وتركه أيضًا يعبث بشخصياتهما. وهي محاولات لإحياء تلك الرابطة التي نشأت على عجل في تلك الليلة في فيينا، لكن هذه المرة في باريس. تتواصل الثرثرة بين جيسي وسيلين لنلاحظ معها التحوّرات التي أصابتهما خلال تلك المدة، فيبرهن جريان الزمن على وجوده. يسعى كل واحد منهما إلى استعادة الآخر. لكننا نجدهما هذه المرة أكثر جدية وسوداوية مما كانا عليه في فيينا. ويذكّر بعضهما البعض –بحسرات متوالية– بما فاتهما من رغد الحياة نظيرَ عدم بقائهما معًا بعد اللقاء الأول في فيينا. يجعل لينكليتر صفة الندم جليةً ومرتبطةً أشد الارتباط بمضّي الزمن، وكما هو الحال دائمًا، فإن الندم يكون رفيقًا ونديمًا لما وقع في الماضي، وفي لحظات العمر الماضية قُدُمًا، وفي كل وضعٍ يتواجد الإنسان بداخله. 

تبدو البدايات محلّقة ومرتفعة طرديًا بلا انتكاسة إلى أن نبلغ معها الذروة، ليأتي بعدها الانهيار والعودة مرة أخرى لنقطة الصفر، حالةٌ شبيهةٌ بما يمثله منحنى بيل الشهير. وفي لعبة الزمن داخل الفيلم، يضع لينكليتر جيسي وسيلين، في الجزء الثاني من السلسلة، على بُعد بضع خطوات بسيطة من قمة المنحنى. 

يمضي الزمن مرة أخرى بذات التدفق الزمني، ومعه يتخلى البطلان عن كثير من المزايا، وتبرز على الفور مساوئ لم تطفُ على السطح من قبل: الملل، الرتابة، وعدم الانبهار بالآخر، جميعها ستكون عناوين رئيسة لسير علاقة بطلينا في رحلة التوجه نحو المستقبل. يجزم لينكليتر هنا بصعوبة تعرفنا على جيسي وسيلين، إذ سنستَنكر أفعالهما وأقوالهما، بل سنتساءَل عن حقيقة علاقة الحب التي جمعتهما فيما مضى: هل كانت حقيقةً أم هي محضُ وهمٍ خلقناه نتيجة التركيز المبالغ فيه على أيام بعينها دون سواها؟ بعد أن غادر الأملُ أرواحهما لتطولَ رحلة البحث عنه داخل إحدى الجزر اليونانية.

في فيلمه boyhood أُصيب لينكليتر بالجنون –الجنون المصاحب للإبداع– حين ابتدع فكرة تصوير فيلم واحد لمدة تزيد عن عشرة أعوام. تتبع من خلالها مراحل نمو الطفل مايسون حتى نصل معه إلى مرحلة الشباب والانطلاق في رحلة الحياة. يعيش كل فرد منا قصة شبيهة بها، أيًا كانت بقعته الجغرافية، فكلنا نشترك في مراحل الطفولة، حيث يتنامى الفضول لمعرفة العالم وإيجاد إجابات شافية لكل ما يحفنا من غموض، إما عن طريق الخبراء المحيطين بنا، أو من خلال التوصل إليها عبر تجربةٍ عرضيةٍ تحصل دون عمد. 

قد تبدو قصصُ البعض أكثر تميزًا حين يعتري مراحلَ النمو خللٌ ما يشوّه صورتها المثالية، كمغادرةِ أحد الوالدين أو عدم اكتمال أفراد العائلة، وهو الأمر الحاصل مع مايسون من خلال طلاق والديه. هذا التفصيل يجعل القصة أكثر تشويقًا، إذ نجده في كل مرة يتنقّل بين البالغين المسؤولين عن تربيته. فنلحظ، من خلال ذلك، اختلافات التعامل بين مقدمي الرعاية، وميله المجبر تجاه أحدهما، دون أن نغفل ما يرافق ذلك من مقارنات نجريها نحن بين من هو الأفضل أو الأسوأ. 

ولعل الرغبة المنشودة، سواء من قِبل مايسون أو من وجهة نظر المخرج لينكليتر، هي ألا نجعل أطفالنا أبطالًا مثاليين، وإنما نتركهم يبحرون في حقل التجارب الفاشلة، دون حمولات ثقيلة من توقعات قد تبدو منطقية في ظاهرها لكنها لا تناسبهم. إذ أن الشخص الملزَم بتحقيقها قد لا يتقبلها ببساطة، بل يريد أن يحيا وحسب.

في أحد مشاريعه القادمة –والتي ما تزال سرية وفي طور التنفيذ– يعتزم لينكليتر قضاءَ مدة زمنية تقارب العشرين عامًا حتى ينجز هذا العمل، حيث من المتوقع أن يصدر في عام 2040. وعلى ما يبدو أننا ما زلنا نراقب لينكليتر وهو يغوصُ في البحر الثري والساكن لمعضلة الزمن، محاولًا أن يحرك مياهه الراكدة، التي لا تنفك تُخرج لنا قطعًا مشوقة تستدعي انتباهنا وتستثير تساؤلاتنا الملحة. 

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى