في عالم السينما، لا شيء أكثر صعوبة من تمثيل "الاختلاف" بصدق. فحين يُقرِّر المخرج غافين أوكونور تناولَ شخصية مصابة بالتوحد في فيلم أكشن تجاري مثل «المُحاسب» (The Accountant - 2016)، فإنه يدخل منطقة دقيقة بين الواقعية الإنسانية والإثارة السينمائية. ليبدو في النهاية، أن المخرج قد اختار الحل الأسهل: تحويل الاختلاف إلى قوة خارقة، والتحدي النفسي إلى أداة للبطولة.
يبدأ الفيلم من فكرة أساسية نراها تتكرر بوضوح في جميع تفاصيله: "الاختلاف هو دائما مصدر خوف وقلق". هذه الجملة تكاد تكون العصب الخفي الذي يدور حوله كل شيء. يعرض المخرج طفولةَ كريستيان وولف، الطفل المصاب بالتوحد، من خلال عينَي أبٍ عسكري صارم يرى في مرض ابنه ضعفًا يجب التغلب عليه بالقوة والانضباط، لا بالفهم والاحتواء. وهنا يضعنا أوكونور أمام سؤال أخلاقي مؤلم: هل يمكن "ترويض" الاختلاف حتى يصبح مقبولاً في عالم لا يتسامح مع الغرابة؟
منذ المشاهد الأولى، تُبنى شخصية كريستيان وولف (الذي يؤديه ببراعة متزنة بن أفليك) على سمات التوحّد المعروفة: الانعزال، الدقة المفرطة، الارتباك في التواصل، والحساسية تجاه الضوضاء. إلا أن المخرج لا يكتفي بعرض هذه الصفات كخصائص إنسانية، بل يرفعُها إلى مرتبة "الموهبة الخارقة" التي تُنتج عبقريًا في الحسابات وقاتلاً محترفًا في الوقت ذاته.
وبينما يهدف النص إلى كسر الصور النمطية، ينتهي الفيلم بتكريس صورةٍ جديدةٍ أكثر تعقيدًا: أن التوحد يمكن أن يكون سرًّا لقوة استثنائية، وكأن الإنسان المختلف لا يُقدَّر إلا إذا امتلك ما يثير الإعجاب أو الدهشة.
من منظور إخراجي، يُوظّف أوكونور الإضاءةَ الباردة واللقطات المتماثلة لتأكيد عالم كريستيان الداخلي: كل شيء منظم، محسوب، لا مجال للفوضى أو العفوية. حتى القتال والعنف مصوران بأسلوب ميكانيكي يكاد يخلو من الانفعال، في توازٍ متقن مع طريقة تفكير بطل يعالج الحياة بالأرقام لا بالمشاعر.
لكن هذه الدقة البصرية لا تُترجم بالضرورة إلى فهم عميق للتوحد كحالة إنسانية؛ فهي تُحيلُ الشخصية إلى آلة تعمل بدقة مذهلة، وتُفقدها جزءًا من عفويتها وضعفها الطبيعي، وهو ما يُبعد الفيلم عن التناول الواقعي ويقربه أكثر إلى منطق أفلام الأبطال الخارقين (Comic Book Logic).
حين تقترب منه دانا كومينغز — زميلته التي تشاركه شغف الأرقام — تنفتح نافذة صغيرة على الجانب الإنساني الذي ظلّ محبوسًا طويلاً. نظراتٌ خجولة، جملٌ قصيرة، تردّدٌ طفوليٌّ في التعبير عن التعاطف؛ كلّها إشارات إلى أن التوحد ليس عزلةً تامة، بل حضورٌ مختلف، فيه دفءٌ يُرى دون أن يُقال.
يتنقّل الفيلم بين الضوء والظلّ كما يتنقّل كريستيان بين الهدوء والعاصفة. إضاءةٌ باردة، لقطاتٌ متناسقة، عالمٌ لا مكان فيه للعشوائية، كأن الكاميرا تحاكي طريقته في التفكير: دقيقة، منضبطة، لا تترك شيئًا للصدفة
ورغم هذه المحاولات، فإن الفيلم يعود سريعًا إلى منطق الأكشن الكلاسيكي: مطاردات، إطلاق نار، فلاشباكات تشرح كل تفصيلٍ، ومفاجآت "منسوخة" من بنية أفلام هوليوود المألوفة.
في النهاية، يقدّم أوكونور دراما عن الاختلاف بلغة الأكشن، لكنه يفشل في تحويلها إلى رؤية فكرية أو إنسانية متماسكة. فبينما يبدو الفيلم مدافعًا عن المصابين بالتوحد، فإنه في العمق يُعيد إنتاج الفكرة الهوليودية القديمة: أن الاختلاف لا يُقبل إلا إذا كان مبهرًا أو مفيدًا.
ورغم أن النهاية تأتي حاملة لرسالة واضحة ومباشرة: "ابنك مختلف، لكنه ليس أقل"، إلا أن ما يقدمه الفيلم فعلاً هو نقيض ذلك؛ إذ يجعل "الاختلاف" مشروطًا بالإنجاز والعبقرية والقوة، لا بالإنسانية البسيطة التي يعيشها معظم المصابين بالتوحد في الواقع.
وفي النهاية، يمضي كريستيان في طريقه بخطواتٍ هادئة، كمن ودّع خوفه القديم وتصالح مع اختلافه. فالعدوّ الحقيقي لم يكن موجودا حوله، وإنما كان متخفيا في داخله، وفي خوفه من أن يكون مختلفًا. وحين يتقبّل هذا الاختلاف، يتحوّل الصمت إلى طمأنينة، والانعزال إلى اكتفاء، والأرقام إلى موسيقى خفية لا يسمعها إلا هو.
«المحاسب» ليس حكاية عن التوحد فقط، وإنما عن الإنسان الذي يتعلّم كيف يعيش على طريقته الخاصة، متصالحا مع أشباح الماضي والحاضر. عن أولئك الذين يواجهون العالم من وراء زجاجٍ صامت، ويجدون في النظام جمالًا، وفي العزلة معنى، وفي الاختلاف حياةً أعمق من كل تشابهٍ ممكن.
ويبقى «المحاسب» فيلمًا مثيرًا ومُتقن الصنع تقنيًا، لكنه باهت إنسانيًا. فهو يعكس نظرة السينما التجارية إلى التوحد، نظرةٌ تجمع بين التعاطف والتهويل، بين الشفقة والإعجاب، دون أن تلامس الحقيقة البسيطة: أن الاختلاف لا يحتاج إلى بطولات، بل إلى فهم واحتواء.



