إن أول ما يتداعى إلى ذهن المشاهد عند رؤية إعلان فيلم الافتتاح «العملاق» الذي يروي قصةَ الملاكم نسيم حميد، هو توقعُ فيلمٍ تبجيليٍّ لسيرةٍ ذاتيةٍ حول نجمِ ملاكمةٍ عربيٍّ عالمي، عاش نجاحًا صاخبًا في فترة التسعينات، لكننا نرى عملًا لا يواجه سيرة رجل غائب (خاصة مع تواجد نسيم حميد نفسه بين الحضور) بقدر ما يُسائل مسارَ حياة رجل حاضر في لحظة الاحتفال السينمائي بالفيلم. وفي مقابل هذا البعد التوثيقي المباشر، يتخذ الفيلم قرارًا سرديًا عميقًا، إذ يعيدُ موضعةَ الحكاية من عين المدرّب لا من سيرة البطل، ويجعلُ العلاقة بينهما مركزَ السرد.
وهو ما يمكن تسميته بـ "إعادة موضعة السرد"، حيث تتحول الحكاية من منظور صاحب الإنجاز، في شخصية نسيم ولقبه "ناس" إلى منظور الشخص الذي خاضَ معه التجربة وصاغَ ملامح هويته، في شخصية المدرب براندون، إذ يستخدم الفيلمُ ما يسميه تركيزًا سرديًا خارجيًا، حيث لا يُتيح الدخولَ إلى دواخل نسيم من خلال صوته أو ذاكرته، وإنما من خلال مشاعر المدرب، هواجسه، وقلقه تجاه أثر جهده.
بهذا الخيار السردي للعمل، لا يتحوّل نسيم (يؤدي دوره الممثل أمير المصري) إلى صدًى لشخصية المدرب، إنما يتحوّل المدرب نفسه (يقوم بدوره بروس بروسنان) إلى مساحةِ تحليل لظاهرةِ نسيم. تخرج السيرة من تصورٍ يرصدُ إنجازًا رياضيًا، وتتحول إلى تحليلٍ إنسانيٍّ لعلاقةٍ تربوية أثمرت بطولةً استعراضيةً صارخة. من هنا يأتي محور الفيلم، الذي يرتكز على تأثير التربية المهنية على تكوين الذات.
تبدو المساحة الدرامية التي يفتحُها الفيلم غير متعلقة بالنتائج الرياضية، كتقريرٍ انجازيٍّ أو تكريميّ، فنحن لا نرى جولاتٍ بطولية متتالية ولا تفصيلاتٍ زائدة عن تقنية الدفاع والهجوم. إنما أكثر ما نراه هو تشكيلُ الصورة التي يواجه بها الملاكم الشاب "نسيم" العالم: صنعُ الثقة، وبناء الاستعراض، وصنع الإيقاع الحركي الذي يُثير الحلبة. يدخل"نسيم" - أو "ناس" وهو لقبه الثاني- الحلبةَ وهو يتمايل ويتراقص ويطلق إشارات حركية غير مألوفة. تستفز هذه الحركة المسؤولين ويتصادَمون مع عرّابه براندون، لكنه يؤكد لهم أنها ليست غيرَ لغة هوية تؤسس ذاتها، أمام مجتمع لا يعترف بأصلها.
لقد نشأ نسيم حميد اليمني على حواف التصنيف، فمجتمعُه البريطاني لم يتعرّف عليه كـ"عربي"، كما أن جزءً من محيطه الاجتماعي يصنفه ضمن "الباكستانيين". لكنه ظلّ يصرُّ على أصله العربي. إن هذا التشويش على الهوية المبكرة يتركُ أثرًا عميقًا في بناء الشخصية. في مرحلة المراهقة، يدركُ نسيم أن التعريف الذاتي لا يحدّده المجتمع، فيبدأ في تشكيل مسارٍ مستقلٍّ للأداء. وهذا ما يفسر جانبَ الاستعراض الرياضي، لا كخيار تجاري فحسب، وإنما كخيار وجودي يعلنُ فيه عن نفسه أمام العالم. وفي الاستعراض الرياضي تبرز "الأنا" التي تضخمت باكرًا، بتعزيز وتزكية من المدرب.
يُضيف الفيلم طبقةً نقديةً أخرى عبر حكاية الصحفية التي تعرفت على نسيم عندما كان في الثانية عشرة، إذ حاولَ المدرب أن يدفعها لإجراء مقابلةٍ معه، لكنها رفضت لعدم قناعتها بفكرةِ محاورة طفلٍ في عمره. ثم تابعت تطوره إلى نجم تلفزيوني وملاكم مثير للجدل. تعتبر هذه الشخصية، هي الحجر الثالث في القصة، لكونها تمثل شاهدا على قصته، وذاكرة مراقبة تنقلنا من متابعة الشهرة إلى تفكيك بنيتها.
وفي إحدى لقاءاتها مع المدرّب، تقولُ له بوضوح إن تضخيم الأنا مع حميد منذ الطفولة - بالقول ستكون أفضل من علي كلاي - كان قرارًا أخلاقيًا معقدًا، وأنه يدفعُ ثمنَ ذلك الآن. يبلغ الفيلم أعلى درجاته كثافةً وعمقًا، عند سرده لهذه المرحلة وتقديمها بشكل شديدِ الحساسية والصدق والتعقيد في آن، إذ يحاول المدربُ تبرير سلوكه في تضخيم الأنا لدى حميد، لأجل رفع معنوياته كبطلٍ أمام الحلبة، لكنه يغفلُ في الوقت ذاته أنه يفتحُ نافذةً لمطالبِ التمجيد.
وفي أعلى درجات النجاح، لا يعودُ هذا "الإيغو" في خدمة الإنجاز، وإنما في خدمة الصورة. خاصة وأن المدرب لم يتعامل مع نسيم كمشروعٍ تجاريٍّ فقط، وإنما كرأسمالٍ إنساني. استثمر فيه جهدًا ووقتًا وحياةً عائلية. هذا الاستثمارُ العاطفي يحوّلُ العلاقةَ إلى مساحةٍ من الارتباطِ الوجودي للمدرب، وجزءًا من ذاكرة البطل. وفي المقابل، يتعامل نسيم مع هذا الارتباط بحساسية مزدوجة: تقديرٌ لمجهود المدرب، وشعورٌ بأن الصورة التي صاغها له تجاوزت حدودَ الإرشاد إلى حدود التملك. تكمنُ براعة الفيلم في توصيف عمقِ الجرحُ، عندما يجسّد مواجهةً ذهنية ينسجُها عقلُ المدرب، تدور بينه وبين حميد، مشهدًا داخليًا يحمل بين طياته حدّة في المشاعر.
في المحصلة، «العملاق» هو فيلم افتتاح يغتنم مناسبةَ الاحتفال للذهاب نحو حوارٍ نفسي واجتماعيٍّ وإنسانيٍّ عميق عن الهوية والتربية وبناء الصورة. السيرةُ هنا تتحوّل من ملحمة رياضيةٍ إلى مادةٍ فلسفية تُعيد النظر في العلاقة بين من يصنعُ النجاحَ ومن يعيشُ داخله. سيرةٌ شخصيةٌ عربية على الشاشة، قُدّمت بشكل فني يرصدُ الإنجاز كهامش، بينما يتتبع المتنُ صناديقَ أبطاله المظلمة، مجسدًا صراعاتهم الداخلية بكل هشاشتها وقوتها وشرورها أحيانًا.



