إذا كنت تنتظرُ مشاهدةَ فيلمٍ رومانسيٍّ عن قصص حب المراهقين في بيئة المدرسة، فقد أخطأت الوجهة. ولعلّ ملصقَ الفيلم يُوحي في ظاهرة بذلك، غير أنه يُخفي وراءَ هذه الصورة المزهرة واقعًا أليمًا.
إن فيلم «عالم الحب» للمخرجة ليون غا-أون والذي يكشفُ عن قضايا الاعتداء الجنسي، لا يُصدِّر الصدمةَ كأساس في القضية، وهذا منظورٌ فلسفيٌّ مدروسٌ من المخرجة، يعتمد على ديناميكية ما بعد الصدمة، لا على لحظة الصدمة ذاتها. وعلى مستوى التجربة، نرى الحكايةَ من داخل عيون فتاةٍ مراهقةٍ تحاولُ استعراضَ وجودها عبر علاقات عاطفية عابرة مع زملائها.
جو-إن طالبة محبوبة، ذات حضور اجتماعي عالي، وتنتمي إلى عائلة صغيرة تبدو في ظاهرها مستقرةً، تعيش رفقة أمها، مديرة حضانة المدرسة، وشقيق واحد يصغرها في العمر، وأب غائب عن المنزل. هذه المعطيات تُظهر شخصيةً لمراهقةٍ قادرةٍ على حمل وجهين: وجهٌ علنيٌّ يسعى للاندماج، ووجهٌ داخليٌّ مضغوطٌ يتعاملُ مع ذاكرةٍ ثقيلة. وفي ازدواجِيتها تكمن حالةٌ إنسانيةٌ حقيقية وغامضة في الوقت ذاته، تظهرُ أن الإنسان قد يكون نشيطًا ظاهرًا، وملغومًا عاطفيًا في داخله في الوقت نفسه.
تتحدّثُ الفتيات، في مشاهدَ مكرَّرةٍ، بشفافية وعفوية شديدة حول علاقاتهن الجنسية وتغيراتهن الهرمونية بلا حرج. يدورُ العمل حول دائرة مستهلكة في عالم المدارس، لا قضايا كبرى، ولا دراما فاقعة، إلى أن تأتي لحظةُ إعلانِ الإفراجِ عن رجلٍ أدينَ سابقًا بالاعتداء على طفلة في الصف الثالث، مما يُعيد بث القلق داخل المحيطَيْن الأسري والمدرسي. طريقة تعامل جو-إن مع العريضة الرافضة للإفراج تكشفُ عن صراع داخلي في هويتها الذاتية: هل تسمح للمجتمع باختزالها في «قصةِ اعتداء»، أم تحمي حقها في امتلاك تعريفها الخاص لذاتها؟ هنا تتّضح نبرة الفيلم الذي لا يُكمل حبكته نحو اكتشاف الجاني بطريقةٍ بوليسيةٍ، فهو لا يريد تحويل الشخصيات إلى رموز للضحايا، بقدر ما يُركِّز على تقبّل المجتمع للمُعتدَى عليهم تقبلًا غير مشروط.
يتجنَّبُ المنظورُ الإخراجي للعمل الشرحَ المباشر. ويبتعد في الوقت ذاته عن الأسلوب التشويقي، وذلك من خلال تحويلِ المتفرّج إلى ما يشبه كتلةَ أعصاب مشدودة، لا همَّ له سوى معرفة هوية الجُناة وانتظار ردودٍ أفعالٍ من محيطهم. الإيقاعُ هنا محسوبٌ باعتبار الفيلم مساحةً للمعاينةٍ، لا منطقةً لإصدار الأحكام. إن هذا الأمر يخدمُ هدفًا واحدًا، وهو نقلُ تجربةٍ داخليةٍ لا يمكن ترجمتها بلغة المحاكم ولا بلغة الحملات الشعبية. فمن السهل صناعة "الحجة"، لكن الإتقانَ يكمن في خلق مساحةٍ للتفكير والتأمل.
تشكّل تفاعلاتُ جو-إن مع أمّها محورًا عاطفيًا بالغَ الأهمية. فليست هناك أمّ بطولية، ولا أمّ غائبة، إنما هي أم مكسورةٌ، كونها تعلمُ مسبقًا أسرار الماضي، وتتعلّم تدريجيًا حدودَ ما يمكن فعله في الوقت الحاضر. قد يبدو طرحًا ميلودراميًا، لكن المخرجة اجتهدت بصريًا في كيفية نقل صدمةِ المواجهة إلى العلن عن طريق انفجار الفتاة أثناء مواجهتها لوالدتها وعتَبها ولومها الشديد، ثم التآكل البطيء للقُدرَة على استكمال التواصل، ثم يعقبه صمتٌ والتفاتةٌ. كل ذلك في كادر ضيق داخل السيارة، ملتقط من منظور خلفي.
وهذا ما يدفع المُشاهدَ للتساؤل. فبعد هذا المشهد المؤلم وانكشاف جروح الماضي، ما الذي يجعلُ جو-إن ترفضُ التوقيعَ على العريضة إذن؟ لا سيما وأنها ليست شخصية معزولة أو مهزوزة الثقة، بل محاطةٌ بزخم اجتماعي يشكّل طبقة ضغط إضافية. فهي محبوبة من الجميع، وتسعى وراء الفتيان المسالمين لإنشاء علاقة عاطفية. في النصف الثاني من العمل، تُظهر الخيوط الدرامية كيف أن منطقةَ الاعتراف بسرّ الماضي تشكل تهديدًا لمكانتها، رغم كونها ضحية فيه، وأن التوقيعَ على العريضة هو تهديدٌ لها بسقوط قناعها الهش. تستثمر المخرجة، هنا، هذا التناقضَ لتقديم فهمٍ أعمقَ لأثر الاعتداء: خوف ممزوج بحاجة للبقاء في الدائرة الاجتماعية المضمونة، خشية أن يُنظر إليها كعُطب.
إذن تتعدد مفاهيم «عالم الحب» لتصل إلى ما هو أبعد من الغريزة والإعجاب والعلاقات العابرة وشبق المراهقة الجنسي، فالحب هو أيضًا، بمعنى من المعاني، "الاعتراف". اعترافٌ بأن الضحية ليست إشكالية ولا منفرة أو مادة للشفقة، وبغض النظر عن مدى نضجها أو عدم خبرتها أو سُوء تقديرها للأمر، إلا أنها تحاول وحدها بناء تصوُّرٍ جديد للوجود، رغم كل ما حدث.
تكمن القيمة الدرامية هنا عادة في تعريف الفتاة لنفسها وسطَ منظومةٍ مجتمعيةٍ لا تفهم عمقَ الجرح ولا حدوده. فعلى مستوى السرد تتشابكُ قصص الشخصيات وتتكشَّف عن مصائر متشابهة. تستمر المخرجة في المناورة والتواري دون إعطاء إجابات جاهزة، بل تضعُ المتلقي أمام اختبارٍ حقيقيٍّ للتعاطف، مُرتكزٍ على الفهم والتقبل.
في النهاية، يعتمدُ فيلم «عالم الحب» نهجًا تحليليًا تجاه النفس البشرية، متسائلًا: كيف يعيش الإنسان حين يكون في صراعٍ بين ذاكرته ومحيطه؟ وكيف يتعاملُ مع مشاعره حين يُجاهد كي لا تتحوَّل مشاعره إلى مرآةٍ تعكس ما يرفضه؟ هذا ما تقدِّمه المخرجة يون: بوصلةٌ حسّيةٌ تُرينا الإنسانَ قبل الحدث، وبعده، وفي المساحة الرمادية بينهما.



