منذ اللحظة التي أُطفئت فيها الأنوار الأولى في قاعات العرض، اكتشف الإنسان أن السينما ليست مجرد اختراع بصري، بل امتداد للحلم، استمرار يقظ لتلك الحالة الغامضة التي يعيشها في نومه حين تتكلم الصور بلغتها الحرة. إن العلاقة بين الحلم والفيلم لم تكن مصادفة، بل قدرًا جماليًا محتومًا منذ بداية الصورة المتحركة. فالفيلم، مثل الحلم، يعيد ترتيب الزمن، يخلق علاقات غير متوقعة بين الأشياء، ويمنح المجهول شكلاً. وكما كتب الشاعر والمخرج الفرنسي جان كوكتو: «السينما هي الحلم الوحيد الذي يمكننا أن نعيشه بعيون مفتوحة». وربما كانت تلك الفكرة هي ما تلخّص القول المنسوب لأحد النقاد المعاصرين: «ربما كانت السينما هي الطريقة التي اخترعها الإنسان ليحلم وهو مستيقظ».
في عشرينيات القرن الماضي، حين كانت السينما تحبو نحو لغتها، ظهر تيار السريالية السينمائية كتمرّد على الواقع وعلى المعنى. كان أندريه بروتون يدعو إلى تحرير اللاوعي وإطلاق الأحلام من رقابة العقل. التقط هذا النداء لويس بونويل وسلفادور دالي في فيلمهما الشهير «الكلب الأندلسي» (Un Chien Andalou - 1929)، حيث شُطرت العين بشفرة حلاقة في واحدة من أكثر اللقطات الصادمة في تاريخ الفن. لم يكن المشهد عن العنف، بل عن الرغبة في كسر جدار الوعي نفسه، عن فتح العين على الداخل. لقد أراد بونويل ودالي تحرير الصورة من منطقها الواقعي لتصبح حلمًا بصريًا خالصًا. ومن هناك وُلدت فكرة “السينما الحُلمية” بوصفها فنًا يترجم اللاوعي إلى سرد بصري.
بعد سيغموند فرويد، لم يعد الحلم لغزًا ميتافيزيقيًا بل نصًا يمكن قراءته. غيّر فرويد الطريقة التي يفكر بها الإنسان في صوره الداخلية، وربط بين الرغبة والرمز، وبين الكبت والتمثيل البصري. قال إن الحلم يعمل وفق ثلاث آليات: التكثيف، الإزاحة، والتمثيل الرمزي. وهذه الآليات نفسها هي التي تصنع الشعر والسينما. فالمخرج، مثل الحالم، لا يروي الحقيقة كما هي، بل يعيد تأليفها لتُحتمَل.
في الأربعينيات، ظهرت مايا ديرين لتجعل من الكاميرا وسيلة تأمل في الذات الأنثوية. فيلمها القصير «شبكات بعد الظهيرة» (Meshes of the Afternoon – 1943)، الذي أخرجته بالاشتراك مع زوجها ألكسندر هاميد، بدا كأنه حلم يتأمل نفسه. تتكرر فيه اللقطات كما تتكرر الأحلام، ويتحوّل المكان رغم ثباته، وينقسم الوجه بين مراياه. لم يكن الفيلم حلمًا عن المرأة، بل حلم امرأة تحاول أن ترى ذاتها. بهذا العمل، أرست ديرن ملامح لغة سينمائية جديدة تمزج بين الواقع والرؤيا، وتفتح المجال أمام ما سيُعرف لاحقًا بالسينما الحُلمية.
لاحقًا، واصل ستان براكاج البحث في التجربة البصرية الخالصة، متعاملًا مع الصورة كامتداد للرؤية الداخلية. كان يرى أن الفيلم يمكن أن يكون حلمًا بصريًا بلا حكاية، وأن الضوء نفسه يحمل معنى يتجاوز اللغة. في فيلمه التجريبي القصير «ضوء العث» (Mothlight – 1963)، لم يستخدم الكاميرا إطلاقًا، بل صنع الشريط يدويًا عبر لصق أجنحة فراشات وأوراق نباتات وقطع من الزهور مباشرة على شريط الفيلم الخام، ليجعل الضوء يمر من خلالها أثناء العرض، فتتحول المواد العضوية إلى ومضات من الحياة، كأن الطبيعة نفسها تُضيء على الشاشة. أما في «رجل نجم الكلب» (Dog Star Man – 1961–1964)، فحوّل الحركة والضوء إلى قصيدة بصرية عن الكون والخلق والرؤية، حيث تتداخل الصور في تدفق حلمي يجعل من الفيلم تجربة حسية خالصة.
أما آلان رينيه، فكان شغله الشاغل هو الزمن والذاكرة، وكيف يمكن للسينما أن تلتقط هشاشتهما. في فيلمه «هيروشيما حبي» (Hiroshima mon amour – 1959)، يمزج بين قصة حب قصيرة وصور الدمار النووي، لتصبح الذاكرة الشخصية مرآة لذاكرة جماعية مثخنة بالجراح. أما في «العام الماضي في مارينباد» (L’Année dernière à Marienbad – 1961)، فيفكك الزمن ذاته، حيث تتكرر المشاهد والحوارات كأنها أطياف حلم يُعيد سرد نفسه بلا يقين، فيتحول المكان إلى متاهة والذاكرة إلى لعبة بصرية معلقة بين الحقيقة والوهم. بهذه التجارب، جعل رينيه من السينما وسيلة للتفكير فيما يتعذّر قوله، وفي الكيفية التي يمكن أن يصبح بها التذكّر فعلًا بصريًا وشاعريًا أكثر منه سرديًا.
أما أندريه تاركوفسكي، فقد منح الحلم طابعًا روحانيًا وتأمليًا. في أفلامه «المرآة» (Mirror – 1975) و«المُرشد» (Stalker – 1979)، يمتزج الحلم بالواقع دون حدود واضحة، فيغدو الزمن بطيئًا كأنه يتنفس، والضوء يحمل معنى الذاكرة والحنين، وكأن الصورة تتطهّر من زمنها لتبلغ جوهرها الداخلي. عند تاركوفسكي، ليس الحلم انقطاعًا عن الواقع، بل طريقًا آخر لفهمه.
عبر هذه التجارب المتنوعة، أخذت السينما تقترب شيئًا فشيئًا من الحلم، لا بوصفه حالة غامضة، بل كطريقة للرؤية، وإمكانية آخرى للواقع نفسه.
وحين وصلنا إلى الثمانينيات والتسعينيات، وجد هذا التيار امتداده الأكثر اكتمالًا في أعمال ديفيد لينش، الذي يمكن اعتباره الوريث الأكثر تعقيدًا للحلم السريالي في زمن الحداثة. إنّ أفلام لينش ليست عن الأحلام، بل هي أحلام بحد ذاتها. هو لا يستخدم الحلم كأداة سردية، بل كبنية فكرية. في «رأس الممحاة» (Eraserhead – 1977)، نرى كابوس الأبوة والذنب والاغتراب يتجسّد في عالم صناعي بارد، حيث يتحدث الصمت لغة الأنين الداخلي. الفيلم ليس رعبًا بالمعنى التقليدي، بل حلم متواصل عن الخوف من الولادة ومن الحياة نفسها.
أما في «المخمل الأزرق» (Blue Velvet – 1986)، فيدخل لينش إلى الضواحي الأمريكية النظيفة ليكشف ما تحتها: جرح جماعي مكبوت، عنف يختبئ تحت العشب الأخضر. هذا الفيلم هو حلم جماعي عن أميركا التي تبتسم في النهار وتصرخ في الليل. وقد كتب الناقد الأمريكي روجر إيبرت ما معناه أن لينش يُظهر الشر لا كقوة غريبة عن الإنسان، بل كشيء يسكن داخله حين يظن أنه متطهّر منه. في إشارة إلى أن العنف في أفلامه ليس استثناءً بل جزء من الطبيعة البشرية.
وفي «الطريق المفقود» (Lost Highway – 1997)، يذهب لينش أبعد من ذلك، فيجعل الحلم وسيلة للهروب من الذنب. البطل الذي يقتل زوجته يعيش حلمًا بديلًا يكون فيه شابًا آخر، لكن اللاوعي لا يتركه يهرب، تعود الصور، وتتداخل الأصوات، وتذوب الهوية. كأن الحلم هنا جهاز عقاب داخلي. وقد أشار الناقد الأمريكي جوناثان روزنباوم في إحدى قراءاته إلى أن لينش لا يستخدم الكابوس من أجل الترهيب، بل ليستكشف عبره وعينا الذاتي ونحن نحاول النجاة من أنفسنا، وهي فكرة قريبة من جوهر سينماه.
وفي «طريق مولهولاند» (Mulholland Drive – 2001)، يبلغ الحلم ذروته الجمالية والفكرية. البطلة هنا لا تعيش قصة، بل تتفكك داخلها، تتبدّل هوياتها كما تتبدّل الصور في المنام. نصف الفيلم واقع، نصفه حلم، لكن المُشاهد لا يعرف أيّهما الحقيقي، لأنه يدرك أن الحلم نفسه هو الواقع المتاح. يستخدم لينش لغة فرويد دون أن يذكره: التكثيف في تكرار الشخصيات، الإزاحة في تبادل المواقع بين العاشقة والمحبوبة، والتمثيل الرمزي في الأشياء الصغيرة التي تكتسب قوة خارقة، مثل المفتاح الأزرق والطريق الملتوي والمقهى الذي يسكنه الخوف.
إنّ ما يميز سينما لينش هو أنها لا تطرح السؤال الفلسفي في الحوار، بل في البنية البصرية ذاتها. فالمونتاج عنده ليس وسيلة للربط بل للشرخ، واللقطة لا تُكمل ما قبلها بل تنقضه. الزمن يتشظى كما يتشظى الوعي، و تتحوّل الألوان من الدفء إلى الرعب في لحظة واحدة. اللون الأزرق، مثلًا، ليس عنصرًا زخرفيًا، بل كيان ميتافيزيقيّ، يرمز إلى الرغبة والذنب معًا، إلى المسافة بين الحلم واليقظة. بينما الأبيض في أفلامه ليس نقاءً، بل غيابًا يهدّد المعنى. الضوء عنده لا يضيء الأشياء بل يكشف قلقها، والعتمة ليست ظلمة، بل وجه آخر للحقيقة التي لا تُحتمل.
أما الصوت، فهو الذاكرة التي لا تسكت: همهمة الكهرباء، خشخشة الريح، صوت الماء، تنفّس الفراغ، كلها أصوات تخلق شعورًا بالخطر الداخلي. وكما يشير الناقد الفرنسي ميشيل شيون في تحليله لأعمال لينش، فإن المخرج «يعيد للسينما معناها الحسي الأول، بوصفها تجربة سمعية وبصرية يتكلم فيها اللاوعي قبل الكلمة»، أو ما يشبه ذلك من فكرة، تلخّص جوهر أسلوبه في بناء الحلم بالصوت كما بالصورة. فالصوت هنا ليس مكمّلًا للصورة، بل ظلّها الخفي، وامتدادها في الذاكرة السمعية للمشاهد.
فرويد كان يرى في الحلم تحقيقًا مقنّعًا لرغبةٍ مكبوتة، أما لينش فيحوّله إلى فضاء مفتوح للرغبة نفسها، لا تسعى للتحقق بل للظهور والرؤية. إن السينما عنده ليست تحليلًا نفسيًا، بل طقس تأملي. وليست هروبًا من الواقع، بل مواجهة معه في صورته الأكثر صدقًا، الصورة الداخلية. ومن المثير أن لينش لا يقدّم الحلم كمنطقة من الفوضى فحسب، بل أيضًا كوسيلة لمعرفة الذات. في عمق الكوابيس التي يصنعها، هناك دائمًا ومضة من الطفولة، من الحب الأول، من البحث عن الأمان. الحلم هنا يصبح رحلة في الذاكرة الجماعية، محاولة للعثور على ما فُقد، حتى وإن كان ما فُقد هو البراءة نفسها.
لقد بدأ الأمر مع السرياليين كتمرّدٍ ضد الواقع، ومع فرويد كبحثٍ في النفس، ومع مايا ديرن كرحلةٍ في الذات، لكنه عند لينش أصبح مسرحًا كونيًا للحلم الإنساني كله. يقول المخرج الفرنسي جان-لوك غودار: «كل فيلم هو حلم لم يكتمل»، ويضيف لينش نفسه في أحد حواراته: «لا أريد من أحد أن يفهم أفلامي، أريد فقط أن يشعر بها»، وهنا تكمن المفارقة الكبرى، فالسينما لا تفسّر الحلم بل تجعله قابلًا للعيش، ولا تحكي الواقع بل تحلم به من جديد.
السينما الحُلمية بهذا المعنى ليست نوعًا فنيًا بل حالة وعي. هي الطريقة التي نختبر بها هشاشتنا أمام الصورة، وكيف يمكن للخيال أن يخلق حقيقةً أخرى أكثر صدقًا من الواقع. لقد علّمتنا السريالية أن نحلم ضد المنطق، وعلّمنا لينش أن نحلم داخل المنطق ذاته، أن نرى الرعب والنعومة في الصورة نفسها، وأن نفهم أن اللاوعي ليس ظلمةً مطلقة بل نورًا مكسورًا. ما يفعله لينش هو أنه يأخذنا إلى حيث لا توجد إجابات، إلى النقطة التي يصبح فيها السؤال هو شكل الجمال. وحين ننتهي من أفلامه، لا نشعر أننا شاهدنا حكاية، بل أننا مررنا بتجربة وجودية تذكّرنا بأن الحلم ليس انقطاعًا عن الحياة، بل استمرار لها في شكلٍ أكثر صدقًا.
إنّ السينما لم تكن يومًا مجرد فن للرؤية، بل فن للرغبة في الرؤية. كل لقطة هي محاولة لأن نُبصر ما لا يمكن إبصاره، وكل فيلم هو حلم جماعي يحاول أن يذكّرنا بأننا ما زلنا بشرًا نحلم. وربما كانت السينما فعلًا، كما قال ذلك الناقد المجهول، الطريقة التي اخترعها الإنسان ليحلم وهو مستيقظ، لأن الحلم هو الحقيقة الوحيدة التي لم تفقد دهشتها بعد.



