فرسان محمد خان: أبطالٌ يحاربون أشباحَ الواقع

October 26, 2025

صورةُ البطل في أفلام محمد خان هي الأقرب في السينما العربية لصورة البطل الحديث؛ فهو بطلٌ أقلُّ عظمةً وبهاءً من الأبطال الإغريق والرومان، لأنه بطلٌ واقعيّ، وهو بطلٌ مهزوم أيضًا، لا لنقصٍ في عزيمته، أو لقصورٍ في مهارته أو ذكائه، ولكن لأسباب هيكلية بنيوية؛ أي نتيجة مجمل السياسات الاقتصادية-الاجتماعية السائدة، وهي أسبابٌ يستحيل على الإنسان مواجهتها بمفرده، مثلما يستحيل عليه مقاتلة الريح أو المطر. تُصوِّر أفلام خان أبطالَه وهم يحاولون تغيير أوضاعهم للأفضل، وتُصوِّر أيضًا استحالة هذا التغيير، في عالمٍ المصيرُ فيه ليس شقيق الحلم.

الخصائص والصفات

تحمل أعمال خان عناوين فردية دائما، مثل تفرد بطله الذي يولد رومانيًا مقاومًا لسعي المجتمع لتدجِينه. هناك عتبة تفصل فارس في «طائر على الطريق، 1981»، و«الحرِّيف، 1983»، و«فارس المدينة، 1992»، وباقي أبطال خان في «مشوار عمر، 1985»، و«أحلام هند وكاميليا، 1988»، و«مستر كاراتيه، 1993»، و«كلفتي، 2003»، و«فتاة المصنع، 2014»، بل وحتى أغلب شخصياته الأساسية، نقول إن هناك عتبة تفصلهم عن حشود المدينة، ويحافظ البطل على هذه العتبة أثناء بحثه لنفسه عن ملاذ داخلَ هذه الحشود، كشخصٍ يبحثُ وسطَ الجماهير عن حماية من مضطهديه، وبرغم هذه العتبة، فإن أبطال خان ليسوا منعزلين، ولا سوداويين، ولا عازفين أو يائسين، فالاندماجُ مع الحشد هو أمرٌ لا ينفصم عن طبيعتهم البطولية، ولعلّ هذا الاندماج مع الجماهير هو ما يجعل بطل خان عصيًّا على أن يُغَشَّ أو يُخدَع بسهولة، فهو نقيضُ "المغفَّل"، لأنه خبيرٌ بالطبيعة الإنسانية. صحيح أن بطل خان يعرف القليل، لكن القليلَ الذي يعرفه يعرفه بعمق.

الطوق والإسار

هل بطلُ خان خارجٌ عن القانون؟ هل هو ثائرٌ يريد تغيير القانون؟ الحق إنه ليس هذا ولا ذاك. هو يعيش على هامش القانون، ومقاومةُ الضوابط لديه طبيعة ثانية، لأن الضرورةَ عنده فضيلة، ربما بسبب وعيه الفطري بهشاشة الوجود وسرعة زواله، ولعل هذا أحد أسباب عدم احترامه الدفين للقانون، لكنه لا يكسره بعنف على أي حال، صحيحٌ أنه لا يحمل بداخله احترامًا كبيرًا للنظَام الاجتماعي التقليدي، فلا يمكنه في هذا المجال منافسةُ "المواطن الصالح"، لكنّه كالإلكترون الذي يستمر في الدوران حول النواة دون أن يملك من القوة ما يكفي للإفلات من فلك الجاذبية. يحاول بطل خان، بعزمٍ وهمَّة، الإفلاتَ من قوَّة جاذبية الشروط الاقتصادية-الاجتماعية، لكن الظروفَ الهيكلية التي تجري فيها تلك المحاولات تمنعها من أن تكون ناجزةً.

جوليفر في بلاد الأقزام

لاحظنا في معظم أفلام خان النمطَ الذي يحيا به أبطاله حياتهم اليومية، والذي يكاد يشبه الحرية الرومانية، ولعل هذا هو سبب عداء النظام الاجتماعي التقليدي لهم، بالرغم من اكتسابهم لحبّ الأفراد، واحترام الأقران. يتطلب الأمر مزاجًا بطوليًا لكي يحيا المرء في ظلِّ هذه الظروف، ويظل مع ذلك مقبلاً على مُتع الحياة الصغيرة. ولعل حركة البطل في نظامٍ اجتماعيٍّ مُعادٍ، وإرادته التي لا تقدّم تنازلاتٍ لأي عقلية معادية، هو ما يجعلنا نقدِّر الانتصارات الصغيرة لفرسان خان، لأنها تتحقَّق في بيئة معادية. وخان في هذا المقام لا يركن لتصوير مشاعر العزوف والاستسلام في أبطاله، كالرومانسيين، بل يُبرزُ في أبطاله مشاعرَ الإرادة والتصميم والإقدام، كالكلاسيكيين الكبار.

ونحن نظن أن ترفُّع بطل خان عن سخونة الانفعالات وانفجار العواطف –كالذي نراه مثلاً في سينما عاطف الطيب- هو لإدراكه، ولعله إدراكٌ غريزيٌّ فطري، بأن الشر الذي حوله وفيه هو شرٌّ هيكليٌّ بنيوي، وليس مجرد شرٍّ فردي ناتجٍ عن فسادِ طباع هذا أو سوءِ أخلاق ذاك، وإنما هو نتاجُ الظروف الاقتصادية-الاجتماعية التي خيَّمت على الجميع بعد الانفتاح في مصر، وأن منازلة هذه المتغيرات القدريّة منازلة فردية مآلُها الهزيمة، كحال هالفارد سولنس بطل مسرحية هِنرك إبسن «سيد البنائيين، 1892».

نهاية الخدمة

النهاية التي كتبها خان لفيلم «سواق الأتوبيس، 1982»، وهو كاتب قصة الفيلم، والتي كان يُفترض فيها أن يقوم نور الشريف في دور سائق الأتوبيس (حسن سلطان) بحرق سيارة التاكسي التي يملكها، ويقفُ متفرجًا عليها وهي تحترق، ثم غيَّرها عاطف الطيب إلى مشهد آخر يقوم فيه البطل بضرب أحد لصوص الحافلات على أنغام النشيد الوطني، لعلها توضح الفارقَ بين رؤيتين مختلفتين لاثنين من الفنانين حول مصدر الشر: هل هو شخصي مصدره الأفراد، كهذا اللص التافه الذي يسرقُ الركَّابَ في الحافلات؟ أم هيكلي بنيوي أكبر من قدرة الفرد على مقاومته، بل ربما كان لص الحافلات هذا هو أيضًا من ضحاياه؟ في سينما خان، الفرد ليس هو من يستخدم الشر، بل الشرُّ هو من يستخدمه.

الغالب على النهايات في سينما خان هو أن يُهزم البطل من المجتمع ومن آلياته الاقتصادية-الاجتماعية، ثم يتلمسُ طريقه إلى الخلف، مثلما ينسحب حيوانٌ جُرحَ جرحًا قاتلًا إلى وَجَاره. في نهاية فيلم «سوبرماركت، 1990»، يُلقي أحد زملاء رمزي، عازف البيانو، شريطَ كاسيت لأغانٍ هابطة في سيارته، وحين يبدأ رمزي في الاستماع إلى "الفن" الجديد المنتشر: "إيه الأستوك ده.. اللي ماشي يتوك ده.. كلمني.. فهمني"، يضحكُ من الأغنية سخيفةِ الكلمات ركيكةِ اللحن، ونحن من جانبنا نفهم هذا الضحك في ضوء عبارة أنسي الحاج: «المهزوم يصبح أقل انهزامًا إذا قهقه».

ذهب مع الريح

من سمات بطل خان أيضًا الحنينُ إلى ماضٍ انتهى وولّى، سواء ماضي "أم كلثوم" في «فارس المدينة»، أو ماضي "عبد الحليم حافظ" في «زوجة رجل مهم، 1987»، أو بشكل أقل صراحة وأكثر فنيَّة حين نرى حرص فارس في «الحرِّيف» على مجالسة العجائز من قدامى الرياضيين، أو شغف رمزي في «سوبرماركت» بالعودة إلى شقة أمه؛ والتي يحق لنا اعتبارها عودة في الزمان أكثر منها عودة للمكان، وثمة شيء مواز لهذا في رحلة غادة عادل في دور مُدرِّسة الموسيقى نجوى في فيلم «في شقة مصر الجديدة، 2007»، التي تسافر من المنيا إلى القاهرة بحثًا عن مُدَّرستها الأولى التي علمتها الموسيقى. 

إن حنين البطل هنا ليس إلى ماضٍ فرديٍّ، بل إلى ماضٍ جماعي؛ إلى عصرٍ سابقٍ بكل قيمه ونمط علاقاته. ولعلنا بعد هذا نستطيعُ القولَ إن حركة البطل في سينما خان هي حركةٌ في الزمان بقدر ما هي حركةٌ في المكان؛ حركة في عصر فاتَ أوانه، ولهذا يبدو لمن حوله زائدًا عن الحاجة.

أضواء المدينة

المدينة عند خان هي الخلفية التي تظهر عليها قسماتُ البطل، وبطلُ خان لا يمكن أن يُولد أو يُوجَد إلا في خبرةِ مدينةٍ عملاقة، قاهرة، مدينة تُوَّلد لديك الشعور بأنها مُقْدِمةٌ على كارثة اجتماعية أو بيئية، لكن ألفة البطل الحميمة بالمدينة -وألفة خان هو نفسه بها- تُلغي قدرًا كبيرًا من خاصيتها المفزعة تلك.

يمكن بوضوح ملاحظةُ البراعة، والسلاسة، ورباطة الجأش التي يتحرك بها بطل خان في المدينة العملاقة القاهِرة، فلا زِحامها يربكُه، ولا وحشيّتها تُخيفه، بل يُضفي نمط حياته رونقًا تصالحيًا على البؤس الملحوظ للبشر في مشاهد الخلفية. إن بطل خان لا يُؤجِّل فرصةَ اقتناص دقائق قليلة من المرح والسعادة، حتى ولو كانت أثناء زلزال اجتماعي.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى