«انترستيلر» .. 11 عامًا منذ انتصار الحب على الزمن

October 21, 2025

إحدى عشرةَ سنة مضَت بتوقيتنا الأرضي منذ صدور فيلم «انترستيلر» (Interstellar) في عام 2014 للمخرج الكبير كريستوفر نولان، بينما لم تمضِ سوى ساعة ونصف فقط على "كوكب ميلر" -ذلك الكوكب الذي اكتشفته رائدة الفضاء "ميلر" بوصفه أحد الكواكب الواعدة التي يمكن أن تكون صالحة للحياة في مهمة "لازاروس" ضمن سياق أحداث الفيلم- وهو ما يعادل تلك المدة تقريبًا، فستّون دقيقة فوق كوكب ميلر تعادل سبعَ سنوات على كوكب الأرض. تخيل حجم العجز إذن! أن تقف على أرض غريبة، وتدرك أن كل ساعةٍ تمضي هناك تسرقُ سبعَ سنواتٍ من عمر أحبائك على الأرض!

على كوكب الأرض، وفي إحدى المناطق الريفية بين العواصف الترابية التي تبتلع المحاصيل وتُبدّدها، وصدى الموسيقى الذي يتردّد في فراغ الفضاء، يقف الإنسان وحيدًا يتساءل: «هل نحن سجناءُ كوكبٍ يحتضر، أم نحن مجرد كائنات كُتِب عليها أن تبحث عن بيتها بين النجوم؟».

حين يصبح الكون مختبرًا للفلسفة

في فيلم «انترستيلر»، لا يُقدّم كريستوفر نولان مجرد ملحمةٍ خيالية، بل تأملًا عظيمًا في مصير الإنسان عندما يصبحُ العِلم أمله الأخير، والحب بوصلّته الأبدية. إنه العمل الذي يجعل الكون يبدو مرآةً لأرواحنا، إذ يبدو غامضًا، جميلًا ومؤلمًا بالقدر نفسه.

يأتي فيلم «انترستيلر» كتحفةٍ سينمائية نادرة تجمع بين العلم الدقيق والفلسفة الوجودية، وبين الدراما الإنسانية والخيال العلمي في مزيجٍ قلَّ أن يجتمعَ في عملٍ واحد. الفيلم ليس مجرد مغامرةٍ فضائية أو قصةٍ عن النجاة من كوكبٍ ميت، بل سفرٌ داخليٌّ نحو جوهر الإنسان نفسه. إنه صراعٌ بين المعادلة والعاطفة، بين الجاذبية والحب، بين الزمان الأبدي والقلب البشري الزائل. من النادر أن تجتمع في فيلمٍ واحد دقّةُ العلم وسحرُ الفن، لكن نولان استطاع أن يفعلها، ونجح في تحقيق هذه المعادلة بالتعاون مع الفيزيائي القدير "كيب ثورن" الحائز على جائزة نوبل وأحد أبرز العقول في نظريّة النسبية والثقوب السوداء.

يبنى كريستوفر نولان حبكته على فكرة أن الثقوب الدودية يمكنها أن تَختَصر المسافات الكونية، لكنها تفتح الباب أيضًا على أسئلةٍ وجودية حول معنى الزمن والقدر والاختيار.

النسبيّة وتمدد الزمن .. مأساة الأب

عندما يهبط كوبر وفريقه فوق كوكب ميلر، القريب من الثقب الأسود جارجانتوا "Gargantua"، يصبحُ الزمن نفسه عدوًا صامتًا، كل ساعةٍ هناك تساوي سبعَ سنوات على الأرض. بهذه المعادلة القاسية، تتحوّل النسبية إلى مأساةٍ صمّاء تُدمي القلبَ، حين يشاهد الأبُ ابنه يكبر ويشيخ في شريطٍ سريع أمام عينيه، بينما هو لا يزال شابًا.

لم تكن صورة الثقب الأسود في الفيلم تجميلًا فنيًا، بل نتاج محاكاة علمية دقيقة اعتمدت على معادلات النسبية العامة. والمثير أن العلماء، عندما التقطوا أول صورة حقيقية لثقب أسود عام 2019، اكتشفوا أن ما تخيّله نولان كان أقرب إلى الواقع العلمي من أي خيالٍ سينمائيٍّ سابق. 

ملحمةٌ بصريةٌ وصوتيةٌ عن الوجود

يجعل نولان من الكاميرا عينًا بشرية تائهة بين الأكوان. تعكس اللقطات الواسعة صغرَ حجم الإنسان أمام اتساع اللامحدود، بينما تُذكّرنا الإضاءة الباردة بأن الفضاءَ ليس عدوًا، بل امتدادٌ للبحث عن الذات. يبدو كل مشهدٍ وكأنه لوحةٌ من صمتٍ مضيء، تُصوّر الدهشة الأولى للبشرية.

أما الموسيقى التي أبدعها الموسيقي الألماني هانز زيمر، فليست مجرّد خلفية مصاحبة للأحداث، بل هي روح الفيلم. أنغامٌ تُضفي شعورًا بالرهبة والمتعة. وقد أعدتُ الاستماعَ عشرات المرات لتلك النغمة، التي تبدأ بلحظة هدوء، ثم تتصاعد كأنها صرخة إنسان وحيد. فهي لم تكن مجرد موسيقى، بل شعورٌ بالذهاب والعودة في آن واحد، إلى ومن مكان بعيد جدًا.

الشخصيات والحب كقانون كوني

"كوبر"، الذي يلعبُ دوره الأوسكاري ماثيو ماكونهي، ليس بطلًا كلاسيكيًا، بل عقلٌ مضطّرب وروحٌ تائهة بين الحب والعلم. هو الإنسان الذي يغامرُ بالنجوم لإنقاذ الأرض، حتى يكتشف أن الخلاصَ الحقيقي كان في حضن ابنته. أما "مورف" فلم تكن الابنة المنتظرة فحسب، بل رمزُ الأمل الإنساني الذي يربط الأجيالَ بالمعرفة والإيمان. إنها امتدادُ الأب، والعالِمةُ التي تُنقذ البشرية عبر إرثٍ من الدموع والرموز. فيتجلّى، في عمق الفيلم، السؤالُ الذي يتجاوز حدود الفيزياء: «هل يمكن للحب أن يكون قوةً مادية، مثل الجاذبية؟».

عندما يرسل كوبر إشاراتٍ لابنته من داخل الثقب الأسود، لا نشاهد معجزةً علميةً، وإنّما معجزة بشرية. الحب هنا ليس عاطفةً عابرة، بل نظامٌ للتواصُل يتخطَّى الأبعاد الأربعة. 

تؤمن العالمة "إميليا براند"، التي أدت دورها الأمريكية آن هاثاواي، بأن الحب دليلٌ على وجود مستوى أعمق من الحقيقة: «ربما الحب دليلٌ على بُعدٍ لم نفهمه بعد». وهكذا يجعلنا نولان نعيدُ التفكير في العلاقة بين الروح والمادة، بين القلب والكون، بين ما هو إنساني وما هو كونيّ.

‏«انترستيلر» ومرآة نولان الفكرية

لكي نُدرك عمق «انترستيلر»، يجب أن نضعه في سياق فلسفة نولان الممتدة عبر أفلامه: في فيلم «استهلال» (Inception- 2010) يصبحُ الحلم واقعًا داخليًا يصنعه الإنسان. وفي «أوبنهايمر» (2023 - Oppenheimer) يصيرُ العلمُ عبئًا أخلاقيًا يُهدّد الوجود. أما في «انترستيلر» فإن الكون نفسه يغدو انعكاسًا للضمير الإنساني.

هكذا تكتمل ثلاثية الوعي عند نولان: "العقل" في «استهلال»، "الروح" في «انترستيلر»، و"الضمير" في «أوبنهايمر»، لتلتقي جميعها في سؤالٍ واحد: ما حدود قدرتنا على الفهم، قبل أن ندرك أننا نحن أنفسنا جزء من اللغز؟

الإنسان... المخلوق الذي يرفض الفناء! 

لا ينتهي الفيلم بانتصارٍ تقني أو علمي، بل بانتصار الإيمان بالإنسان، فـ"كوبر" لا ينقذ البشرية من الخارج، بل من الداخل، من فقدانها لإيمانها بنفسها. النجاة ليست في الهروب من الأرض، بل في القدرة على الحلم رغم الخراب. يذكّرنا «انترستيلر»، في النهاية، أن النجوم ليست بعيدة كما نظن، وإنما نحن الذين نسينا كيف ننظر إليها.

خاتمة: ما بعد النجوم... ما بعد الإنسان 

في نهاية الرحلة، يهمسُ الفيلم إلينا بأن الكون ليس مجرد فضاء بارد، بل كيان حيّ يتجاوب مع مشاعرنا. إنه يدعونا للتفكّر: ربما الحب طاقةٌ مجهولة لم تدخل بعد في معادلات الفيزياء. وربما الزمن، بكل تعقيداته، لا يقدر أن يفصل بين قلبين مرتبطين بإيمانٍ صادق. ألَمْ نشعر جميعًا بتلك القوة الخفية التي تربطنا بأشخاص غادروا؟ قوة لا تخضع للمسافة أو الساعة. 

يمنح «انترستيلر» ببساطة هذه القوة اسمًا فيزيائيًا، كما قال "كوبر" لابنته: «ربما كنا دائمًا ننظر إلى السماء، لا لأننا نريد الهروب من الأرض، بل لأننا ننتمي إلى ما وراءها».

ختاما، يُمكن القول إن «انترستيلر» ليس مجرد فيلم، بل تجربة معرفية ووجدانية تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والكون. هو عمل يذكّرنا أن السينما، حين تبلغ ذروتها، تستطيع أن تجمع بين المعادلة الرياضية والدمعة الإنسانية في مشهدٍ واحد.
"نولان" لا يقدّم لنا أجوبة، بل يُوقظ الأسئلة الكبرى التي نحاول إسكاتها منذ بداية التاريخ. إنه عملٌ يليقُ بالدراسة لا كفنٍّ سينمائي فحسب، بل كتجربة فلسفية عن معنى الوجود ذاته.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى