لماذا لا يزال فيلم «كراهية» حيًّا بعد 30 عام؟

October 15, 2025

في مقابلةٍ أجريت مع المخرج ماثيو كاسوفيتز، أوضح فيها أنه قرر العمل على فيلم «الكراهية» (1995 - La Haine) بعد سماعه عن مقتل شاب على يد الشرطة في باريس عام 1993، وهو مكبّل اليدين. ذهب كاسوفيتز إلى المكان ورأى الناس في حالة حداد، بينما يجلس والد الشاب بجانبه ويبكي، عندها بدأ كاسوفيتز يتساءل: «كيف ينتهي الأمر يومًا بشاب بهذه الطريقة الوحشية؟»، لذلك أراد أن يروي القصة من وجهة نظر هؤلاء الشباب الذين لا يعرفهم أحد، للكشف عن أسباب غضبهم وعلاقتهم المتوترة بالشرطة، ويمنحهم صوتًا ليفهم الناس حقيقة مشاعرهم.

يُعد الفيلم من أهم الأفلام التي قدّمتها السينما الفرنسية، إذ يعكس الصراعات الطبقية التي يواجهها الناس في فرنسا حتى يومنا هذا، ويُظهر صورة الشعب الغاضب الذي يرفض هذه الطبقية الظالمة، من خلال تصوير ثلاثة شباب من أعراق وخلفيات مختلفة: «فينز» اليهودي، و«سعيد» العربي، و«هوبرت» الملاكم الأسود. وعلى الرغم من اختلافاتهم العرقية، إلا أنهم يتفقون جميعًا على كراهية الشرطة والتمرّد العلني على السلطة.

يبدأ الفيلم بأسلوب سينمائي مألوف، حيث يروي «هوبرت»، وهو أحد الشخصيات الرئيسية الثلاث، قصة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالفيلم، عن رجل يسقط من ناطحة سحاب. وأثناء سقوطه، يحاول تهدئة نفسه بترديد عبارة: «الأمور على ما يرام حتى الآن، الأمور على ما يرام حتى الآن. لا يهم كيف تسقط، بل المهم كيف تهبط»، وبينما يروي القصة، نشاهدُ ببطء شديد لحظةَ سقوط زجاجةٍ على شكل كرة أرضية من مكان مرتفع، قبل أن تشتعل النيران وتنفجر الأرض. تصوّر هذه الرمزية السقوط المجتمعي المحتوم، والإنكار المستمر الذي يُحيط بكل هذه الحقائق، حتى لحظة الارتطام. كما تؤكد صورة الأرض حقيقة أن هذه الطبقية والعنصرية ليست مرتبطةً بفرنسا فقط، بل يعاني منها العالم أجمع.

ثلاثة وجوه للغضب

يُقدِم لنا الفيلم ثلاث شخصيات رئيسة، مختلفة في الخلفية والأسلوب والطباع، لكن يتّحدون جميعهم في الغضب والرفض:

«فينز»: الشاب اليهودي الذي يُمثّل الغضب المشتعل والرغبة العميقة في الانتقام، كوسيلةٍ لإثبات مكانته الاجتماعية والحفاظ على كرامته. بعد إصابة صديقهم برصاص الشرطة، يحتفظ «فينز» بمسدس حصل عليه بعد المواجهات، كوعدٍ خفي بالثأر من الشرطي، إذا فارق صديقهم الحياة. يصبح المسدس في يده رمزًا لوهم الخلاص والقوة، لكنه في الحقيقة عبءٌ ثقيلٌ يلازمه طوال الفيلم.

«سعيد»: الشاب العربي الذي يعكس الازدواجية بين الرغبة في الحياة والبحث عن لحظة راحةٍ وسط عالم قاسٍ. رغم أنه لم يتوقَّف عن إطلاق النكات والضحك والسخرية، وكان الوحيدَ القادرَ على تهدئة النزاعات المستمرة بين «فينز» و«هوبرت»، إلا أن شعوره بعدم الانتماء يظلُّ حاضرًا في كل تصرفاته. هذه الازدواجية ترسم شخصية سعيد كمرآةٍ للعبث الذي يعيشه جيله في الأحياء المهمشة.

«هوبرت»: الملاكم الأسود، رمز الحكمة والهدوء المزيف، مقارنةً بكلٍّ من «فينز» و«سعيد» نستطيع أن نلاحظ فيه صفةَ الحكمة التي يفتقر إليها كلاهما.  يجسّد «هوبرت» الشعورَ بعدم الأمان والراحة، والرغبة المُلّحة بالخروج من هذه الفوضى ومن كل هذا العنف، لكن واقعه يرغمه على العودة، لذا يُعتبر «هوبرت» أكثر الشخصيات ضياعًا في الفيلم.

الفيلم كبيان مرئي: الرموز والتقنية

يحتوي الفيلم على العديد من الرمزيات التي تعكس الطبقية، وتبرز المشاعر المحيطة بجميع شخصياته. فعلى سبيل المثال، تأتي رمزية الضوء والظلال لتصوير عدم المساواة في المجتمع الفرنسي، وكيف يُلقى الضوء على بعض الفئات بينما تبقى أخرى في العتمة.

ومن أبرز رموز الفيلم أيضًا تصويره بالأبيض والأسود بالكامل، كوسيلة أولى لتجسيد الظلم والعنصرية، وتجسيد السوداوية التي يعيشها هؤلاء الشباب، وإظهار فقدان الألوان في حياتهم، وخسارتهم أهم فترات حياتهم بسبب الكراهية والحقد. يعكس هذا الخيار نظرتهم إلى الحياة الخالية من الألوان، حياة لا مساحةَ فيها للأمل أو الفرح.

كما تتجلّى رمزيةُ التهديد الزمني من خلال كتابة الوقت على شاشةٍ سوداء، في تذكيرٍ مستمرٍ للمُشاهد بأن النهاية قريبة، وبأن الارتطام سيكون قاسيًا ومؤلمًا، مهما بدا السقوط "على ما يرام" حتى الآن.

اعتمد كاسوفيتز على استخدام اللقطة المقربة (Close-up)، حيث يبدأ بهدوء بتصوير الشخصية في لحظة إدراكٍ أو حزن، قبل أن يقرّب العدسة تدريجيًا حتى يختفي كل شيء حول الشخصية، ولا يبقى في الإطار سوى وجهها وسط خلفية ضبابية. بهذا الأسلوب، يقرّب كاسوفيتز المُشاهدَ من اضطرابات الشخصية ومخاوفها في تلك اللحظة، ليجبره على مواجهة الألم والخوف دون أي تشويش أو مهرب.

كما قام وبعنايةٍ بالغة بتصوير مشاهد معينة باستخدام «الكاميرا المحمولة» (Handheld Camera) ليضع المُشاهد في قلب المشهد، عن طريق نقل التوتر الداخلي الذي تمّر به الشخصية في تلك اللحظة. على سبيل المثال، في مشهد ما قبل النهاية، نشاهد المخرج كاسوفيتز يقوم بتأدية دور شابٍ يعتدي على الشباب الثلاثة برفقة عصابته، وهذا ما يوقظ الغضب الدفين في قلب فينز، فيخرج المسدس عندها ويهدد بقتله، في هذا المشهد تهتز الكاميرا وتتحرك بشكل عصبي سريع، كما لو كنا نشاهد الأحداث من داخل عقل فينز.

الارتطام المحتوم

تصل أحداثُ الفيلم إلى لحظةِ انفجارٍ لا مفر منها، حين يتقاطع الغضب المكبوت لكل من «فينز»، «سعيد»، و«هوبرت» مع قسوة الواقع الذي يعيشونه. بعد تلقيهم صدمة موت صديقهم الذي أصيب برصاص الشرطة، يدرك «فينز» حينها وهمَ القوة التي يمنحه إياها السلاح، ويسلّمه لـ «هوبرت» في لحظة صامتة، كأنه يسلّم عبء الغضب والخوف معه.

لكن العنف في هذا العالم لا يتوقف لتوقف «فينز»، بل وفي مواجهة جديدة مع الشرطة في الشارع، تنتهي حياة «فينز» برصاصةٍ عبثيةٍ، بعد أن ودَّع الجميعَ ووعدهم بأن يلتقوا في الغد. تضع هذه النهاية جميع الشخصيات في مواجهة الحقيقة التي طالما تجاهلوها: أن السقوط كان يحدث طوال الوقت، وأن النهاية كانت حتمية. 

يتركنا كاسوفيتز مع صورةٍ مفتوحة، حيث لا نعرف من أطلق الرصاصة الأخيرة أو من نجا، مؤكدًا أن «الأمور على ما يرام حتى الآن» ليست سوى وهم، وأن السؤال الأهم لم يكن عن السقوط، بل عن طريقة الارتطام في النهاية.

30 عامًا من الغضب: صدى العنف الباقي

على الرغم من مرور ثلاثة عقود على إنتاجه، لا يزال فيلم «الكراهية» حيًا وحاضرًا بقوة في الوعي العالمي، ليس فقط كإنجازٍ فني، بل كبيانٍ سياسي واجتماعي يتجاوز الحدود الفرنسية. يكمن سر خلود الفيلم في قدرته على تجسيد القضايا العابرة للأجيال والمجتمعات؛ فمشكلة عنف الشرطة والتفرقة الطبقية والشعور بالاغتراب، هي تحدياتٌ لا تزال تواجه الأقليات والشباب المُهمش في كل مدينةٍ كبيرةٍ حول العالم.

وقد تكرَّرت الحادثةُ الأليمة التي قادت إلى إخراج الفيلم مرةً أخرى في يونيو 2023، عندما هزَّت فرنسا موجةٌ واسعة من أعمال الشغب بعد مقتل الشاب نائل المرزوقي، ابن السبعة عشر عامًا، ذو الأصول الجزائرية، برصاص شرطيٍّ أوقفه خلال تفتيشٍ مروريٍّ في ضاحية نانتير الباريسية. هذه الحادثة، التي وثقتها كاميرات المارة، وأشعلت غضبًا عارمًا في الضواحي المهمشة، وحوّلت المدنَ الفرنسية إلى ساحاتِ مواجهةٍ بين الشباب والسلطة، تعدُّ تذكيرًا صارخًا بما صوّره كاسوفيتز عام 1995.

لقد منح كاسوفيتز صوتًا صادقًا لغضب تلك الأحياء، وصوّر حالة اليأس العبثي التي تجعلُ الشباب يدورون في حلقةٍ مفرغةٍ من الاحتجاج والردِّ العنيف. إن الفيلم ليس مجرد مرآة لفرنسا التسعينيات، بل هو نبوءةٌ مستمرة عن الانفجار الاجتماعي القادم، ولذلك، طالما بقيت هذه التفاوتات قائمة، سيبقى فيلم «الكراهية» (La Haine) قطعةً فنيةً لا غنى عنها لفهم تغيرات العصر وغضب الشباب.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى