يشكّل الصمت في السينما أحد أكثر عناصرها تعقيدًا وثراءً من الناحية الجمالية والمعرفية، فهو لا يُختزل في غياب الصوت، بل يتحوّل إلى شكل من أشكال التفكير البصري. منذ بدايات السينما الصامتة، كانت الصورة قادرة على التعبير دون اللغة، لكن المفارقة أن الصمت لم يفقد قيمته بعد ظهور الصوت، بل صار فعلًا مقصودًا، واختيارًا فكريًا ينطوي على موقف من العالم. كما يقول تود مغاون في مقالته (The Object of Silent Cinema - 2020): «حين تتكلم الصورة، تتنازل عن جزء من غموضها، أما حين تصمت، فإنها تبدأ بالتفكير». في ضوء هذا التصور، يصبح الصمت لغة ثانية للسينما، لا تُقال بل تُمارَس، مساحةً تسمح للمتفرج بالمشاركة في إنتاج المعنى لا بتلقّيه، ووسيلة لمساءلة العلاقة بين اللغة والحقيقة، وبين القول والمعرفة.
في أعمال المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي، يأخذ الصمت بعدًا ميتافيزيقيًا واضحًا. ففي أفلامه الكبرى «أندريه روبليوف» (Andrei Rublev - 1966)، «سولاريس» (Solaris - 1972)، «المرآة» (The Mirror - 1975)، و«نوستالجيا» (Nostalghia - 1983)، لا يُستخدم الصمت كفراغ صوتي، بل كزمن داخلي. فهو يرى أن الكلمة تحدّ من التجربة، وأن الفن الحقيقي لا يشرح العالم بل يُعيد خلقه. يكتب في كتابه النحت في الزمن: «الفن لا يفسّر العالم، بل يُظهره في حالته الأولى». في «أندريه روبليوف»، يصبح الصمت طريقةً للتفكير في العلاقة بين الخلق والعنف، وفي «سولاريس» يتحوَّل إلى وسيلة لتجسيد العزلة البشرية في مواجهة الكون، بينما يختصر «المرآة» تجربةَ الذاكرة عبر صور بصرية خالية من التفسير، تجعل الصمت معادلًا للوعي. أما في «نوستالجيا»، فإن الصمت يصل إلى ذروة رمزيته في المشهد الطويل الذي يحمل فيه البطل شمعةً عبر ممرّ حجري صامت، فيتحوّل كل ما هو خارجي إلى زمنٍ داخليّ يتأمل الوجود نفسه. لقد رأى كل من أندريه بازان وجيل دولوز في هذا الاستخدام للصمت نوعًا من الواقعية التأملية، حيث لا تبحثُ الكاميرا عن الحدث بل عن أثره في الزمن، ولا عن المعنى في الكلام بل في السكون بين الأصوات.
أما سوزان سونتاغ فقد تعاملت مع الصمت بوصفه موقفًا معرفيًا وأخلاقيًا. فمنذ مقالتها "ضد التأويل" (Against Interpretation - 1966) دعت إلى "الاحترام الجمالي"، أي الامتناع عن التفسير باعتباره شكلاً من أشكال السيطرة. في أفلامها «الأراضي الموعودة» (Promised Lands - 1974)، «رسالة من البندقية» (Letter from Venice - 1983)، و«ثنائيٌّ لآكلي لحوم البشر» (Duet for Cannibals - 1969)، يتحول هذا الموقف إلى ممارسة سينمائية. في «الأراضي الموعودة»، الذي صوّرته في إسرائيل بعد حرب أكتوبر، امتنعت سونتاغ عن استخدام أي تعليق صوتي أو خطاب مباشر، مكتفيةً بسلسلة من اللقطات الطويلة التي ترصد الصحراء، الدمار، وجوه الجنود والمدنيين، والمقابر. الصمت هنا لا يعني الحياد، بل هو طريقة لتمثيل الألم دون تحويله إلى مادة سياسية أو خطابية. فهي ترفض أن تُعيد إنتاج العنف من خلال اللغة، وتترك للصورة أن تتحدث وحدها.
بعض النقاد الغربيين اعتبروا الفيلم تأملاً في حدود التمثيل، بينما وصفه بعض النقاد الإسرائيليين آنذاك بأنه “غامض وعدائي” لأنه لم يقدّم موقفًا سياسيًا واضحًا. لكن هذه المراوغة في الموقف كانت في جوهرها موقفًا أخلاقيًا مضادًا: فالصمت عند سونتاغ هو رفض للابتذال الخطابي، واعتراف بأن بعض التجارب لا يمكن قولها دون أن تفقد صدقها. وفي «رسالة من البندقية»، استخدمت الصمت لتصوير مدينة فقدت معناها تحت وطأة السياحة والاستهلاك، حيث تتحول فينيسيا إلى استعارة لفقدان الجمال في عالم مفرط بالكلام. الصمت هنا طريقة لاستعادة الوعي الجمالي في عالم يفرّط في المعنى. وفي «ثنائي لآكلي لحوم البشر»، أول أفلامها الروائية، يصبح الصمت شكلاً من أشكال التوتر الوجودي بين الشخصيات، أداةً لكشف حدود اللغة والعلاقات الإنسانية، واستمرارًا لفكرها حول التواصل المفقود في مجتمعٍ مهووس بالتصريح.
في التجارب السياسية، يتخذ الصمت بُعدًا آخر، إذ يصبح وسيلة للمقاومة في ظل القمع والرقابة. كما جاء في دراسة «العنف والصمت: السينما في ظل الديكتاتورية» (Violence et silence : le cinéma sous dictature - 2018) للكاتب آرييل سهامي «في الأنظمة التي تحتكر الكلام، يصبح الصمت اللغة الوحيدة التي لا يمكن السيطرة عليها». فحين تُراقَب الكلمة، تظلّ الصورة قادرة على التعبير من خلال غياب الصوت. هذا ما حدث في تجارب أوروبا الشرقية وإيران، حيث كان الصمت إستراتيجية سردية لتجاوز المنع، ووسيلةً لتمثيل القهر دون خضوعٍ لآلياته.
في السينما السوفييتية ما بعد الستالينية والسينما البولندية، كما في أعمال أندريه كونشالوفسكي وكريستوف كيشلوفسكي، يظهر الصمت كموقفٍ رمزيٍّ من السلطة؛ الشخصيات تتكلم بعيونها لا بأصواتها، واللقطات الطويلة تُحوّل غياب اللغة إلى شهادة بصرية عن الخوف والرغبة في التحرر. أما في تشيكوسلوفاكيا، فقد تحوّل الصمت إلى أداة للسخرية السياسية، إذ كان الامتناع عن الخطاب أبلغ من أي تصريح، كما في أفلام المدرسة التشيكية الجديدة التي مثّلت التمرّد عبر الكوميديا الصامتة واللامباشرة.
وفي إيران، منذ ثمانينيات القرن الماضي، أصبح الصمت بنيةً مركزيةً في ما يُعرف بالسينما الإيرانية الجديدة. فقد وجد المخرجون الإيرانيون في الصمت وسيلةً للالتفاف على الرقابة، فاستعاضُوا عن القول بالإشارة، وعن اللغة بالرمز. في أفلام عباس كيارستمي مثل «كلوز أب» (Close-Up - 1990)، «طعم الكرز» (Taste of Cherry - 1997)، و«الريح ستحملنا» (The Wind Will Carry Us - 1999)، يحتل الصمت مساحات واسعة من السرد، ليس بوصفه عجزًا عن التعبير، بل كاختيار فلسفيّ يقاوم التبسيط الأخلاقي والسياسي. لا تكثر الشخصيات في هذه الأفلام من الكلام، لكنها تفكّر أمام الكاميرا، وتترك للفراغات الصوتية أن تُشير إلى ما لا يمكن قوله في العلن. في «طعم الكرز»، يتحوّل الصمت إلى سؤال أخلاقي عن معنى الحياة والموت في مجتمعٍ محكوم بالرقابة، بينما في «الريح ستحملنا» يربط كيارستمي بين الصمت والطبيعة والزمن، حيث يصبح عدم النطق وسيلة للإصغاء إلى ما هو أبعد من الإنسان.
يمتد هذا التوجّه أيضًا في أعمال جعفر بناهي، الذي يستخدم الصمت كأداة مواجهة ضمن شروط المنع في أفلام مثل «هذا ليس فيلمًا» (This Is Not a Film - 2011)، حيث يُحوَّل المنع نفسه إلى مادة سينمائية. الصمت في السينما الإيرانية إذن ليس تقييدًا بل تمكين، وشكل من أشكال المقاومة الهادئة، الذي يُعيد إلى السينما دورها الأول: أن تقول ما لا يُقال.
وفي سينما الأقليات والهامش والمنفى، يكتسب الصمت وظيفة وجودية وثقافية. فاللغة هنا ليست أداة محايدة، بل فضاء للهيمنة. تشير المفكرة والسينمائية الفيتنامية ترينه تي مين-ها في كتابها (Woman, Native, Other - 1989) إلى مفهوم "الخرس الاختياري"، أي اختيار الصمت كفعل مقاومة ضد اللغة السائدة التي تُعيد إنتاج السيطرة. فالأقليات تختار الصمت لا لأنها تفتقر إلى الكلام، بل لأنها ترفض أن تتكلم بلسان الآخر. هذا المفهوم يجد تطبيقًا سينمائيًا في أفلام المنفى والهوامش الثقافية، حيث يتحول الصمت إلى وسيلة للتعبير عن الذات خارجَ خطاب المركز. في هذه السينما، يكون الصمت استعادةً للحق في الكلام بلغة جديدة.
في هذا السياق تبرز تجربة فيلم «وجدة» (Wadjda - 2012) للمخرجة السعودية هيفاء المنصور، بوصفها نموذجًا للصمت كهوية جمالية وسياسية. تدور أحداث الفيلم حول فتاة صغيرة في الرياض تحلم بامتلاك دراجة، في مجتمعٍ يعتبرُ ذلك ممنوعًا على الإناث. ورغم أن العمل كان فيلمًا ناطقًا، فإن أبرز مشاهدِه تقوم على الصمت الدلالي: صمت البطلة أمام القيود الأسرية، وصمت الأم في مواجهة السلطة الأبوية، وصمت المدرسة بوصفه انعكاسًا للصمت الاجتماعي المفروض على النساء.
توظّف المنصور الكاميرا لتصوير هذا الصمت لا كمأساة، بل كمساحةِ تأملٍ ومقاومةٍ في آنٍ واحد. فكل مشهد يبدو كأنه يسأل: ماذا يعني أن تتكلم في مكانٍ لا يُسمح لك فيه بالكلام؟ هنا يتحول الصمت إلى لغة موازية، تُعبّر عن وعيٍ أنثويّ جديد يسائل البنى الاجتماعية من داخلها. إنه صمتٌ اختياريٌّ يرفض الانسجامَ مع الخطاب الذكوري، ويعلن الذات عبر النظرة لا عبر التصريح. ولهذا يُعد الفيلم من أبرز الأمثلة على ما يمكن تسميته “السينما الصغرى”، وفقًا لتعبير جيل دولوز وبيير فيليكس غوتاري، أي تلك التي تقاوم المركز من داخله، وتعيد تعريف اللغة السينمائية بما يتجاوز القواعد المهيمنة.
يتقاطع هذا الشكل من الصمت مع ما نجده في سينما المنفى واللجوء، حيث يُصبح الصمت أداة للذاكرة الممزَّقة. في أفلام مثل «جزيرة» (Island - 2017) لستيفن إيستوود، و«بنات الغبار» (Daughters of the Dust - 1991) لجولي داش، يُقدَّم الصمت كاستعادةٍ لوعيٍ منقوص، وكجسر بين ما فُقد وما يُعاد بناؤه. فالمهاجر والمنفيّ لا يصمتان لغياب الوطن، بل لأن اللغة نفسها لم تعد تكفي. الصمت هنا هو اللغة الباقية بعد الترجمة، ووسيلة لإعادة بناء الذات التي ضاعت بين الثقافات.
يُجسّد الصمت في فيلم «جزيرة» المنفى الداخلي، حيث مع غياب التعليق الصوتي والموسيقى فيه يصور عزلة الإنسان الوجودية عند اقترابه من نهايته وخروجه من اللغة والعالم.
وفي سينما ما بعد الأيديولوجيا، كما في «الأرض الهادئة» (Stilles Land - 1992) لأندرياس دريسن، يصبح الصمت أثرًا لانهيار الخطاب نفسه، إذ تصمت الشخصيات لأن الكلمات فقدت معناها بعد سقوط الأنظمة التي كانت تملكها. تقول الباحثة الألمانية سيلكه بانزه إن هذا الصمت هو: «الزمن الفاصل بين عالمٍ مات وآخر لم يولد بعد»، وهو وصفٌ دقيقٌ لوظيفة الصمت في السينما الأوروبية بعد التحولات الكبرى.
من خلال هذه التجارب المختلفة، يتبيّن أن الصمت في السينما ليس سمة أسلوبية، بل بنية فكرية تتقاطع فيها الجمالية بالمعرفة والسياسة. فهو عند تاركوفسكي وسيلة للتأمل في الزمن، وعند سونتاغ موقفٌ أخلاقي ضد ابتذال الصورة بالخطاب، وفي السينما الإيرانية والأوروبية الشرقية والأقليات أداةٌ للمقاومة الثقافية واستعادة الذات. الصمت ليس انقطاعًا عن التواصل، بل إعادة تعريف له، وهو ما أكّده الناقد والمُنظر الفرنسي ميشيل شيون في كتابه «الصوت في السينما» (Le Son au cinéma - 1990) حين كتب: «ما نسمعه يكتسب معناه مما نسكت عنه». فالصمت هو الامتداد البنيوي للصوت، والشرط الأساسي للفهم البصري. إنه اللغة التي تحتفظ للسينما بقدرتها على التفكير، وتمنحها إمكانية التعبير عما يتجاوز اللغة نفسها. وفي زمنٍ يفيض بالضجيج، تُذكّرنا السينما الصامتة أو المتقشفة بأن الإصغاء قد يكون أعمق من القول، وأن الصورة التي تصمت لا تسكت، بل تُفكّر.



