هُناك حكمة سائدة عند صنع الأفلام الوثائقية تقول إن المخرج ينبغي أن يكون في موضع المُراقب، مكتفيًا بتوثيق الأحداث بحياد تام. تتلخص هذه الفكرة بعبارة شهيرة تصف المخرج بأنه مثل "الذبابة على الحائط"، وقد أضحى ذلك متوقعًا لدى الجمهور. غير أن كثيرًا من المخرجين مع مرور الوقت تحدوا هذه القاعدة، وشهد المجال ظهور وثائقيات عديدة تتلاشى فيها الحدود بين الشخصي والموضوعي كما في أفلام أنييس فاردا، وشانتال أکرمان، وسارة بولي.
على هذا النهج، تسير الممثلة ماريسكا هارغيتاي في وثائقي «والدتي جين» (2025 - My Mother Jayne)، وهو أولى تجاربها الإخراجية الطويلة التي عُرضت مؤخرًا على شبكة "اتش بي أو - HBO" بعد عرض محدود في مهرجان كان السينمائي هذا العام.
في هذا الوثائقي، تحاول ماريسكا ترميم ذكريات والدتها، أيقونة الخمسينيات الممثلة جين مانسفيلد، التي توفيت إثر حادث مأساوي وهي في الرابعة والثلاثين من العمر، بينما كانت ماريسكا لا تزال طفلة في الثالثة من عمرها.
تُعتبر ماريسكا هارغيتاي وجهًا مألوفًا لدى متابعي الدراما التلفزيونية، خصوصًا عشاقَ مسلسلات التحقيق، ممن عرفوها من خلال دور المحققة أوليفيا بينسون في مسلسل «النظام والقانون: اس يو في» (1999 - Law and Order: SUV)، أحد أطول المسلسلات في تاريخ التلفزيون الأمريكي.
والمفارقة أن ماريسكا عُرفت من خلال دور المحققة الجدية الصارمة، على النقيض من مسيرة والدتها الجريئة، الأمر الذي تعترف ماريسكا بأنه كان متعمدًا، حتى تُناقِضَ صورةَ والدتها الجريئة التي لم تتقبلها أبدًا.
يبدأ الفيلم بلقطاتٍ مُجمّعة (مونتاج) للنجمة الشهيرة جين مانسفيلد كما عرفها الجمهور: شقراء جميلة، مبتسمة على الدوام، تنافس مارلين مونرو كرمزٍ للإثارة. فحتى من لم يسبق له مشاهدة أعمالها قد يتعرف عليها من الصورة الشهيرة التي جمعتها بـ صوفيا لورين، وأُعيد تقليدها في إحدى حلقات المسلسل الكوميدي الشهير «العائلة الحديثة» (2020-2009 - Modern Family)
وعلى عكس الوثائقيات الفنية التقليدية، لا تلجأ ماريسكا إلى مقابلة المتخصصين بالمجال أو الصحفيين لاستعراض المعلومات الدقيقة، بل تجمع المقربين من والدتها للحديث عن ذكرياتهم مع جين مانسفيلد الحقيقية بعيدًا عن الأضواء. فتستضيفُ ماريسكا أشقاءها الذين بدوا أكثر تأثرًا وترددًا في البداية.
لا تخفي ماريسكا غبطتها بهذه الذكريات، خصوصًا من أختها الكبرى، التي أنجبتها مانسفيلد وهي في سن المراهقة. فهي تملك ذكريات نادرة عن والدتها قبل أن تصبغ شعرها باللون الأشقر، وتتحول إلى نجمة هوليوودية.
يتتبع الفيلم مسيرة جين مانسفيلد، بداية من رغبتها في الشهرة والانفصال عن زوجها الأول، مرورًا بنجاحها على المسرح قبل الانتقال إلى هوليوود ولقائها بوالد ماريسكا لاعب كمال الأجسام ميكي هارغيتاي، وصولًا إلى تتويجِهما من قبل الصحافة كثنائي هوليوود الذهبي، ثم تكوينهما لعائلة سعيدة قبل وقوع الانفصال.
كما يبرز التوتر بين شخصيتها كرمزٍ للإثارة وحقيقتها كامرأةٍ طموحة متعددة المواهب، إذ تكشف في إحدى المقابلات أن أدائها لشخصية "الشقراء الغبية" ساعدها على النجاح في شباك التذاكر، لكنه لم يكن يعكس شخصيتها الحقيقية ولا قدراتها الأكاديمية والفنية. وتفاجئ الجمهور بقدرتها على العزف على آلة الكمان واهتمامها بالأدب. كما يُسلط الفيلم الضوءَ على محاولتها الفاشلة لإعادة تقديم نفسها كفنانة جادة، وعلى تدهور حياتها بسبب العلاقات الخاطئة وصراعها بين الأمومة و النجومية.
ثم يصل الفيلم إلى حادثة مصرعها في حادث مروع برفقة أطفالها. وفي واحدة من أكثر اللحظات المؤثرة في الفيلم، يكشف أحد أشقاء ماريسكا عن دوره في إنقاذها من الحادث وهي طفلة. ليتنقل الفيلم بعد ذلك إلى حياة العائلة عقب هذا الفقد، وإلى حياة الأبناء مع زوجة والدهم، التي تظهر في المقابلة وتعترف بأن ميكي هارغيتاي ظلَّ يكن مشاعرًا لجين ماينسفيلد حتى بعد وفاتها. كما تتحدث ماريسكا عن قضاءها للعطلات متنقلة بين منزل والدها ومنزل جدتها.
وفي مفاجأة أخيرة تعيد إلى الأذهان فيلمَ المخرجة سارة بولي «قصص نرويها» (2012 - Stories We Tell)، تُسلّط ماريسكا الكاميرا على نفسها، لتسرد اكتشافها أن الرجل الذي تحمل اسمه وتولّى رعايتها كل تلك السنوات لم يكن والدها البيولوجي. وتروي رحلتها في البحث عن والدها الحقيقي، وهو مغني إيطالي هاجر إلى لاس فيغاس. تتمكن ماريسكا من إجراء مقابلة معه، يعبر فيها عن ندمه عن القطيعة التي نشأت بسبب خلافه مع والدتها، والتي تسببت في غيابه عن حياة ابنته. وهي المرة الأولى التي تفصح فيها ماريسكا علنًا عن هذه القصة بسبب احترامها لميكي هارغيتاي خلال حياته قبل أن يتوفى منذ عدة سنوات.
يختتم الفيلم برسالة مؤثرة توجهها ماريسكا إلى والدتها تعبر فيها عن امتنانها وتعاطفها مع معاناتها، معلنةً أخيرًا وصولها إلى حالة من التصالح مع ماضي والدتها.
يتميز الفيلم بتحرير مُتقن، ينتقل بسلاسة بين المقابلات الشخصية واللقطات الأرشيفية ومشاهدَ لماريسكا وهي تُنقِّب في أرشيف والدتها الضخم. كما تُجري المقابلات باحترافية عالية، فلا تتردد مثلًا في مواجهة المدير السابق لأعمال والدتها لتسريبه أسرارًا خاصةً عنها، أو مواجهة والدها الحقيقي بأسباب غيابه عن حياتها. وهذا النوع من الوثائقيات الشخصية يقدم تجربةً إنسانيةً فريدة، فلا يكتفي بنقل الحقائق واستعراض المعلومات، بل يقرِّب المُشاهدَ من الحدث، ويُلامس مشاعرَ مُعقدة، ويطرح أسئلةً عميقة عن الهوية والعلاقات.