يحكي فيلم «أوه، كندا» (Oh, Canada - 2024) قصَّة صانع أفلامٍ وثائقيَّةٍ في نهايةِ حياته، وبعد أنَ نهش جسدَه مرضٌ عضال، يقوم بإجراء مقابلةٍ أخيرةٍ مع اثنين من طلَّابه السابقين ليخبرهما الحقيقة كاملةً حول ما كانت عليه حياته، وكان ذلك بمثابة اعترافٍ صُوِّرَ على مرأى من عيني زوجته الأخيرة. يعاني مخرجُ الأفلام الوثائقيَّة ليونارد فايف (ريتشارد جير) من السرطان، وعلى الرغم من شعوره بألمٍ شديدٍ (وهو ما أدَّى إلى فقدانه للوعي)، لكنَّه يوافقُ على سرد سيرة حياته وإجراء مقابلةٍ مع الخريجيَن مالكوم (مايكل إمبريولي) وديانا (فيكتوريا هيل). بعد مسيرةٍ طويلة من تقصي وكشف الحقائق عن الآخرين بوصفه صانع أفلام وثائقية، يجدُ نفسَه في مواجهة سطوة الحقيقة التي طواها الزمن، وقد وضعته في مأزق الصراحة والاعتراف.
في بداية المقابلة، يشترط فايف حضور زوجته إيما (أوما ثورمان) لأنَّه ينوي البوح لها بمعلومات عن نفسه لا تعرفها حتى هي نفسها. خلال سرد القصص من سيرته، يأخذنا ليونارد (والذي يؤدِّي الممثِّل جاكوب إيلوردي دوره في فترة شبابه) عبر لحظاتٍ اتَّخذَ فيها قراراتٍ محلَّ ريبةٍ وشك. يعمد المخرج بول شريدر إلى استخدام أسلوبٍ زمنيٍّ غير خطي، مع خلق حالة من التلاشي تُطمس فيها الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال. تشكِّلُ الانقطاعات المتكرَّرة خلال مقابلة إيما ديناميكيَّة مثيرة بين الطرفين، بينما يكشف فايف عن تفاصيل مقلقةٍ في قصته. يعزِّزُ شريدر هذا الأسلوب عبر ظهور الذكريات واختفائها تمامًا كما يفعل عقل فايف. وإذا كان ما يقوله صحيحًا، فذلك لم يكن الهدفَ الأساسي أبدًا.
يركِّز الفيلم على كشف الطبقات الخفيَّة للذات، بأسلوب غير مسبوق، ويقودنا في نهايته إلى إدراك صادم: قد يظل المرء غريبا عن أقرب الناس إليه، يجهل ما يعتمل في دواخلهم، رغم كل ما كان بينه وبينهم من قرب وحميمية وصلات اجتماعية، ورغم كل السنوات التي جمعته بهم.
يقدِّمُ فيلم «أوه، كندا» رؤيةً مصقولةً بدقَّة تتمحور حول ليونارد فايف، صانع الأفلام الوثائقية الشغوف الذي يحظى بتقديرٍ واسعٍ ونال جوائز مرموقة. بعد تقدُّمه في السن وإصابته بالسرطان، يوافق على المشاركة في فيلمٍ وثائقي عنه من إخراج أحد طلابه السابقين. تشكِّل المقابلة المطوَّلة معه حجر الأساس في هذا العمل، الذي يسعى إلى الغوص في عبقرية الفنان من خلال استعادة سيرته الشخصيَّة ونقلها للأجيال المقبلة. في لحظةٍ من الهشاشة الوجودية، يقرِّر فايف أن يتجرَّد من كلِّ حذر، وأن يغوص في ذاكرته كمن يمشي في ممرٍّ طويلٍ من الضوء والظلال، باحثًا عن أقصى درجات الصدق. النتيجة هي صورةٌ ذاتيَّةٌ آسرةٌ تجمع بين صفاء التأمُّل وكآبة النهاية، تأمُّلٌ شفيفٌ في الزمن وما يخلِّفه فينا ونحن نعبره حتى لحظاتنا الأخيرة.
من خلال اقتباس أحدث رواية لصديقه الراحل راسل بانكس، الذي أهدى له الفيلم، يوقِّع بول شريدر على وصيَّةٍ سينمائيَّةٍ أنيقة لصوتٍ أدبي ظلَّ قريبًا من روحه، مُجسِّدًا هذا الخيال الوداعي برصانة الممثل ريتشارد جير، الذي يعود للتعاون معه بعد نحو 45 عامًا من فيلمهما الشهير «العشيق الأمريكي» (American Gigolo - 1980)، الذي قاد جير إلى النجومية في ثمانينيات هوليوود. يجمع «أوه، كندا» بين ثلاثة أجيال سينمائية: ريتشارد جير، أوما ثورمان، وجاكوب إيلوردي، ويعيد إحياء رواية بانكس التي تتمحور حول ليونارد فايف، أحد رموز الثقافة المضادَّة في ستينيَّات وسبعينيَّات القرن الماضي، وهو يواجه لحظاته الأخيرة. يصل أحد طلابه السابقين إلى منزله، برفقة زوجته ومساعده الشاب، لتصوير وثائقيٍّ عن أسطورة أستاذه الذي رفض الذهاب للقتال في حرب فيتنام وكرَّس حياته للسينما الوثائقية الملتزمة. أمام الكاميرا، يشرعُ ليونارد في تفكيك ذاكرته بصراحةٍ مدهشة، مطالبًا بحضور زوجته الأخيرة لتشهد على الحقيقة التي ظلَّ يخفيها، من ماضٍ ممتدٍّ منذ الستينيات حتى حاضره المنهك.
تتداخل ذكريات ليونارد ضمن ترتيبٍ غير خطي، مصطدمةً بتنسيقاتٍ بصريَّةٍ متباينة: مشاهدُ ملوَّنة تتعاقب مع أخرى بالأبيض والأسود، وكأنَّها تجسِّد التشتُّت الداخليَّ لبطل القصة. رحل بانكس عن العالم في مطلع عام 2023 بعد صراعٍ مع مرض السرطان، دون أن يُتاح له مشاهدة الفيلم، الذي تحوَّل اليوم إلى نوعٍ من التأبين له. أمَّا فايف، فقد نشأ في الولايات المتَّحدة قبل أن يسطع اسمه كصانعِ أفلامٍ وثائقيَّةٍ بارز. تزوَّج مرتين هناك، لكنَّه هجر عائلته وقرَّر الفرار إلى كندا، ليس هربًا من التجنيد الإجباري لحرب فيتنام فحسب، كما يُشاع، بل من الحياة نفسها، من رتابتها التي لم يعد يحتملها.
فوضى الذاكرة وتكثيف الوداع
يسعى الفيلم إلى الحفاظ على حالة الارتباك التي تهيمن على ذكريات ليونارد، متعمِّدًا تفكيك التسلسل الزمنيِّ والمنطقيِّ للسرد. تحت وطأة المرض وتأثير الأدوية، يفقد الرجل العجوز تماسكه الذهني: يقاطعُ نفسه، يناقضها، يرتدُّ إلى الماضي أو يقفز فوق الحقب بلا ترتيبٍ واضح. هذا المسار المُربك يهدِّد بتشويش المتفرِّج، وسحب بساط المعنى من تحت قدمَيه. ومع ذلك، يُعيد الفيلم بناء هذا الاضطراب بعنايةٍ مدهِشة، متنقِّلًا ببراعة بين الأبيض والأسود وبين المشاهد الملونة، حيث تتكرَّر الوجوه أحيانًا عبر أزمنةٍ مختلفة - كما هو الحال مع أوما ثورمان التي تجسِّد دور زوجة ليونارد الأخيرة، وفي الوقت ذاته تؤدي دور زوجة صديق الرسام الذي يزوره - في تكرارٍ رمزيٍّ يعكس اختلاط الواقع بالوهم في ذهن البطل.
في «أوه، كندا»، يقدِّم بول شريدر فيلمًا بسيطًا في ظاهره، عميقًا في تأملاته، حول ما نحمله معنا في لحظات الرحيل الأخيرة. يجسِّد ريتشارد جير شخصيَّة مخرج وثائقي يحتضر، مطاردًا بذكريات ماضٍ لم يُصفِّه بعد. عُرض الفيلم ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في العام المنصرم، ليشكِّل انعكاسًا شفافًا لصورة فنَّانٍ هارب، ومرآةً لهواجس شريدر القديمة المتجدِّدة: الصراع الأزلي بين الخطيئة والفداء، بين الحقيقة والأكاذيب، وبين الجسد والروح. بعنايةٍ فائقةٍ صاغ شريدر هذا العمل، واختار له عنوانًا لا يخلو من الدلالة: «أوه، كندا»، في إشارةٍ إلى تلك الأرض التي احتضنت الرافضين لحرب فيتنام، حيث لجأ عددٌ كبيرٌ من الشباب الأمريكييِّن خلال ستينيَّات وسبعينيَّات القرن الماضي إلى كندا. من بين هؤلاء كان ليونارد فايف، مخرج الأفلام الوثائقيَّة الملتزمة الذي بدأ تاريخه الأسطوري من لحظة الهروب هذه، والتي باتت تشكِّل عمودًا من أعمدة هالته الرمزيَّة. لكنَّ الفيلم لا يقدِّم الأمر بهذا الصفاء الأخلاقي، فالمقابلة الأخيرة التي يجريها ليونارد، وهو على فراش الموت، تكشف طبقاتٍ من التناقض، وتصبح مساحةً أخيرةً يقول فيها "حقيقته" التي طالما أخفاها.
بعد أن قدَّم اقتباسًا سينمائيًّا لرواية «البلاء» عام 1977، يعود بول شريدر للمرة الثانية إلى عالم الروائي الراحل راسل بانكس في تعاونٍ جديدٍ يحمل طابع الوداع. يستندُ الفيلم إلى روايةٍ تحمل العنوان نفسه، كتبها بانكس أحد أعمدة الأدب التقدُّمي في أمريكا، والذي رحل مطلع العام الماضي. لكن حين بدأت ملامح المشروع تتشكَّل، كان الكاتب ما يزال على قيد الحياة، يشارك شريدر الآراء والملاحظات حول السيناريو. يقول المخرج بأسى: «لم يكن راسل كاتبًا أمريكيًّا عظيمًا فحسب، بل كان أيضًا صديقًا رائعًا، ليس فقط معي ولكن مع العديد من الناس. لقد حزن العديد من الأشخاص برحيله. عندما كنت أكتب السيناريو كان على قيد الحياة. تبادلنا الكثير من الأراء، وتوفِّي قبل أن أنجِزَ عملي».
توبة أم اعتراف بالخيانة؟
يصعب الجزم بنيَّة المؤلِّف أو بطله: هل نحن أمام توبةٍ لرجلٍ لا يريد مغادرة الحياة قبل أن يواجه أخطاءه؟ أم أنَّنا نشهدُ على لحظةِ قسوةٍ ساديَّةٍ أخيرة يجرُّ فيها زوجته إلى اعترافاتٍ موجعة؟ هل هي لعبة ميكافيليَّة يُعيد عبرها التفاعل مع طلابه السابقين ليؤكِّد لهم، رغم هشاشته، تفوُّقه الدائم؟ من هو ليونارد فايف حقًّا؟ هل هو رجل نزيه؟ جبان؟ لقيط؟ يكمنُ ثراء الفيلم تحديدًا في أنَّه لا يمنحُ إجابةً حاسمةً لأيٍّ من هذه الأسئلة، بل يترك الأبواب مشرَّعة، والاحتمالات معلَّقة.
شخصيًا أربكني هذا الضباب الأخلاقيُّ الكثيف، ولم أستطع تحديد موقع التعاطف أو الإدانة. لكن ما يبدو واضحًا هو رغبة ليونارد في أن يُصالح العالم، ولو متأخرًا، عبر كشف "حقيقته" المتشظِّية، المستندة إلى شذرات ذكرياتٍ متداخلة، يراها هو طريقًا نحو الخلاص، ذلك الهدف الذي لطالما شكَّل جوهر أبطال شريدر. يستخدم شريدر الاعتراف، لا بوصفه لحظة صفاءٍ روحيٍّ فحسب، بل كديناميكيَّةٍ دراميَّةٍ نابعةٍ من توازنٍ دقيقٍ بين الندم والذنب، وبين وطأة المرض الجسديَّة والعقليَّة والسعي إلى خلاصٍ داخليٍّ متأخِّر.
ليونارد هنا رجلٌ هش، يتألَّم جسديًا ويتشبث بحضور زوجته إيما داخل مجال رؤيته طوال الوقت. ومع أن حضوره يبدو صادقًا، فإنَّ بعض ما يقوله قد يبدو لها ضربًا من هلوسات مسكِّنات الألم. في لحظة مصارحة، يقول لها إنَّه كان قد تزوَّج مرتين في الولايات المتحدة، وأنَّ له طفلين، قبل أن يلتقي بها. لكن هل تأتي هذه الحقيقة بمثابة اعتراف، أم أنَّها تفكيكٌ أخيرٌ لصورةٍ اختارت إيما تصديقها؟
يطرح المخرج بول شريدر سؤالًا ذا بُعد كوني عميق: لمن تنتمي الحقيقة؟ يتَّسم توجُّه شريدر في هذا العمل بالصدق والخصوصيَّة، مركزًا على مفهومي الإرث والتوبة. يقدم ريتشارد جير في دور ليونارد فايف تجسيدًا صادقًا للندم ومحاسبة الذات، كمرآةٍ حقيقيةٍ لحياةٍ تقترب من خطِّ نهايتها، وانعكاسا للحظة حاسمة يستعرض فيها المرء إرثه ويتأمَّل قراراته عبر سنوات حياته، حيث تتشابك مشاعر الفخر بالإنجازات مع أوقات يُخيِّم عليها الندم العميق بسبب أسرارٍ دفينة.
في هذا السياق، ينجحُ شريدر في تصوير هذا الصراع الداخلي على فراش الموت، مستندًا إلى رواية راسل بانكس «أوه، كندا» التي تبدو كنتاج تأمُّلٍ شخصيٍّ عميقٍ في الموت والفناء. يبرهن شريدر من جديد على قدرته الفريدة في خلق أجواءٍ مشحونةٍ بالتوتُّر الأخلاقي والعاطفي، مستعينًا بأسلوبٍ يمزجُ بين رصانة السينما التقليديَّة وحساسيَّةٍ بصريَّةٍ دقيقةٍ ومستبطنة. وبكل إخلاصٍ وبراعة يقدم شريدر فيلمًا متأملًا ومدروسًا عن الحياة، والإرث، والتصالح مع الذات.
بالنسبة لليونارد فايف، فإنَّ صناعة هذا الفيلم الوثائقي تمثِّلُ اعترافًا علنيًا للعالم: بأن إرثه الذي بنى نفسه عليه، المتمثِّل في رواية هروبه من الحرب، ما هو إلا كذبة. لقد كان ليونارد كاذبًا وغشاشًا بالفعل، وكان الهروب من مسؤوليَّاته، في كلِّ فرصةٍ متاحةٍ، سمةً ملازمةً له. وسواء كان ذلك بإنهاء علاقاتٍ جديَّةٍ أو التخلِّي عن ابنه، فإن فايف يعترف بضعفه الشخصي بشكلٍ نهائيٍّ وحاسم. هل تشكِّلُ رغبته في قول الحقيقة أخيرًا حلًّا سريعًا للخلاص؟ ربما لا، فقد يكون الأمرُ مجرد عرضٍ شخصي، حيث يواجه المخرج شريدر لحظة الرحيل من خلال فلسفته الخاصة، بطريقةٍ تبدو صادقة، وإن حملت أحيانًا نبراتٍ مقلقة. وعلى الرغم من أن تصوير الفيلم استغرق 17 يومًا فقط، إلا أن «أوه، كندا» نجح في تجسيد الموت والندم على حياةٍ وأيَّامٍ مضت، بكلِّ صدقٍ وقوَّة.
يُعتبر الحوار والسرد من أبرز نقاط القوَّة في الفيلم، في حين يُضفي صوت ريتشارد جير هدوءًا وتأمُّلًا على المشاهد. منذ البداية، يعلن ليونارد فايف قائلًا: «عندما لا يكون لديك مستقبل، فإن الشيء الوحيد المتبقي لك هو ماضيك»، وكأنَّها لحظة صحوةٍ شخصيَّةٍ للمخرج بول شريدر في هذه المرحلة من حياته المهنيَّة. رغم أن العديد من رسائل الفيلم تظل غامضة، إلا أن هذا الغموض يبدو مقصودًا، فهو يدفعنا جميعًا إلى التفكير في قراراتنا وندمنا قبل فوات الأوان.
في تصريح له، قال شريدر: «عندما مرض صديقي وكاتبي المفضل راسل بانكس، بدأت أفكِّرُ في سرد قصصٍ أخرى. أدركت أن الموضوع الأساسي يجبُ أن يكون مُحاسبة الذات في نهاية الحياة. درس راسل هذه التجربة ثم كتب كتابًا عن الموت عندما كان بصحَّة جيدة بعنوان «منبوذ». في البداية، أراد أن يطلق على الكتاب اسم «أوه، كندا»، لكنَّه لم يتمكن من الحصول على إذن لاستخدام العنوان لأنه كان مستخدمًا بالفعل. لذا طلب مني استخدام العنوان الذي يريده لكتابه للفيلم الذي كنت أعمل عليه».
تكمن دراما الفيلم في مواجهة بطل الرواية ليونارد فايف لأشباح ماضيه ولمصيره المحتوم. يتآكل ليونارد تحت وطأة عجزه وفشله كإنسان، كأب، كزوجٍ وكشريك حياة. يطرح المخرج الأمريكي بول شريدر موضوع الشعور بالذنب من منظورٍ متشائم، حيث تتَّخذ أخلاقيَّات الفيلم طابعًا غامضًا وجدليًا يعكس إلى حدٍّ بعيدٍ الخلفيَّة الدينيَّة والأخلاقيَّة للمؤلف الذي نشأ في بيئة صارمة المبادئ. في «أوه، كندا»، يدعونا شريدر مجددًا إلى متابعة نزول شخصيَّاته إلى الجحيم النفسي، مدافعًا بحزم عن أفعالٍ تحمل تبعاتٍ أخلاقيَّةٍ ثقيلة. لكنه في الوقت نفسه يحيط أبطاله بتناقضاتٍ معقَّدةٍ تنبع من خداع الذات واليأس، ومن بحثٍ مضنٍ عن خلاص من الألم. يسعى الفيلم لأن يترك المُشاهد في حالة صدمةٍ، وتأمُّلٍ يدفعه إلى إعادة النظر في معنى ما شاهده، وإلى تفكيك أبعاده الوجودية.
صورة تتهاوى
تمَّ تركيب الفيلم كقطعة لغزٍ معقَّدةٍ يتقاطعُ فيها خطَّان سرديَّان: الحاضر المتمثل في مقابلة ليونارد فايف، والماضي الذي يبدأ برحلته من فرجينيا إلى كندا. تتَّسم التجربة السينمائيَّة بقفزاتٍ زمنيَّةٍ متلاحقةٍ وتناقضاتٍ سرديَّةٍ تحوِّل المشاهدة إلى اختبار للذات البشرية. بالإضافة إلى ذلك، يلعب الفيلم بتنسيقاتٍ بصريَّةٍ مختلفة، حيث يُؤطَّر البطل داخل إطاراتٍ ضيِّقةٍ لا تترك مجالًا للتنفُّس أو التوسُّع في ذكريات الماضي. كما يستخدم الأسود والأبيض جنبًا إلى جنبٍ مع اللون، متنقِّلًا بين مشاهد الجنازة الكئيبة والانفجارات اللونيَّة ذات الأبعاد البانوراميَّة.
هذا الهيكل المعقَّد يذكرنا بفيلم بول شريدر الروائي الطويل «ميشيما: حياة في أربعة فصول» (Mishima: A Life in Four Chapters - 1985)، المبني على حياة الأديب الياباني يوكيو ميشيما. في النهاية يدمجُ الفيلم العديد من مقاطع السيرة الذاتيَّة في الحاضر والماضي، ممَّا يحث المشاهد على إعادة بناء النص والمشهد. لا يحصلُ مالكوم، الطالب السابق الذي يدير المقابلة، حتى على فرصةٍ لطرح سؤالٍ واحدٍ من بين خمسةٍ وعشرين سؤالًا أعدَّها بعنايةٍ مع زوجته ديانا، بهدف تتبُّع الحياة المهنيَّة للسيِّد فايف، فهذا الأخير لا يمنحه الوقت، يقاطعه فجأةً ويتحكَّم في مجريات الحوار. وحتى حين يُطرح سؤالٌ ما، فإنَّه يتهرب من مواجهته، يحرِّف الحديث ويغيِّر مسار الحوار، متحديًا بذلك مواجهة حقيقته.
يتمثَّل هدف ليونارد فايف، مخرج الأفلام الوثائقية الذي يواجه موته، في تحطيم الصورة الأسطوريَّة والخيالية التي بُنيت حوله على مرِّ السنوات. تلك الصورة التي رسمته كـ"مؤلِّفٍ عظيمٍ وملتزم"، متَّسق دائمًا في مساره السياسي والسينمائي والحياتي. في اعترافه الأخير، يقدِّم فايف نسخته الحقيقية، كهديَّةٍ وداعيَّةٍ لزوجته إيما، المرأة التي كانت إلى جانبه لسنواتٍ طويلةٍ في الحياة والعمل كمنتجةٍ لأفلامه، والتي يصرُّ على حضورها الدائم خلال لحظات انكشافه واعترافه.
يكشف فايف أمام الرأي العام - وقبل ذلك أمام نفسه - ماضيًا مخزيًا بعيدًا تمامًا عن الصورة النظيفة التي حرص على ترسيخها. لم يكن بطلًا، بل فارًّا من التجنيد الإجباري في حرب فيتنام، ولم يكن مثاليًّا، بل أبًا متخاذلًا وزوجًا غير مسؤول. غير أن السؤال الأعمق يبقى: هل تبطلُ هذه الحياة المبنيَّة على الأكاذيب القيمةَ الفنيَّة لأعماله؟ هل يُفترض إلغاء إرثه الفنِّي ومقاطعته؟ هنا يمسُّ الفيلم جوهر إشكاليَّة ثقافة الإلغاء، ذاك النموذج من النفاق الاجتماعي الذي يرفع النقاء الأخلاقي إلى مقامٍ أعمى مطلقٍ لا يعرف التسامح ولا يترك مجالًا للتعقيد البشري. وهو ما يبدو كهاجسٍ واضحٍ لدى إيما التي تحاول الدفاع عن إرثِ زوجها الإبداعيِّ وحمايته من المحو.
تمنح سينما بول شريدر، كما عوَّدتنا، الأولوية لسلوك الشخصيَّات لا للحكاية، وترجِّح كفَّة التناقضات على الاتساق، والذاكرة والنسيان - الحقيقي والخيالي - على البناء السردي التقليدي. في هذا السياق، يطغى ثقل الذكريات على ليونارد فايف، الذي لا يعود قادرًا على التماهي مع الصورة التي صنعها لنفسه، ولا مع الصمت الذي أخفى به فشله الأخلاقي.
«أوه، كندا» ليس فيلمًا يُراهن على تداخل الزمنَين، بل يتجنَّب عمدًا التشابك التقليديَّ بين الماضي والحاضر، ليغوص بدلًا من ذلك في سلسلةٍ من الموضوعات الدقيقة والمعقَّدة التي يسعى بول شريدر إلى معالجتها عبر شخصيَّة ليونارد فايف. تتداخل هذه الموضوعات - دون أن تنتظم في سرد مثالي - إذ يكافح شريدر أحيانًا لتحقيق توازنٍ بنيويٍّ محكم، لكن هذا التفاوت السردي لا يُضعف من عمق الطرح. في هذا الشريط السينمائي، يبدو أنَّ شريدر قد وجد مساحةً للتأمُّل الشخصي، في قضايا الحياة والموت، وهي قضايا تلوح بظلالها الثقيلة في سنواته الأخيرة، ممَّا يمنح العمل طابعًا حميميًّا وعميقًا. لذلك يمكن قراءة الفيلم، في جانب منه، كوصيَّةٍ فنيَّة، بل ووجوديَّة، لفنَّانٍ بلغ لحظة المكاشفة مع نفسه ومع العالم.