كمال الشناوي: فتنة الشر الأنيق

للشَّر صورةٌ مركَّبةٌ نَلمحُها في الحضور الإنساني على الشاشة السينمائية، حين يتجلَّى في قوته المظلمة، إذ يقدم مساحةً تختبر حدود الجاذبية، وتكشفُ عن قدرة الممثل على تحويل الخطر إلى فتنة، والعنف إلى شكلٍ من أشكالِ الإغواء. في هذا العالم الملتبس، يتقدّم كمال الشناوي كأحد أكثر الوجوه قدرةً على رسم ما يمكن تسميته بـ "الشر الأنيق"؛  هو القادم من خلفيةٍ تشكيليةٍ بصفته فنانًا بصريًّا ومُدرِّسًا لمادة الرسم، استطاع أن يرسم من خلال التمثيل ملامحَ الشر الخفي، الذي يثير الفزعَ ويستدرج المشاهدَ إلى حالة من التورُّط الجمالي في آن. كأن الكاميرا، حين تلاحقه، تُعيد صياغة مفهوم كينونة الشخصيَّة القادرةِ على الجمع بين الغواية والسطوة. فمتى تكونت هذه الرحلة وما مآلاتها؟

عالم الأشرار الآمنُ

تكوَّنت حكايات السينما في نشأتها من خيوطٍ دراميةٍ، تمتد أنماط شخصيَّاتها إلى أقصاها، لتولد التوتر والصراع داخل الحبكة. لذا، تمت قولبةُ شخصيات الشرِّ بالأسلوب الأحادي، في صورةِ شخصياتٍ تجتمعُ على المكائد المُعلنة والفاضحة، بملامحها العابسة وتعابيرها الكرتونية أحيانًا. لم تتعمَّق السينما، في الأربعينات وبداية الخمسينات، في أبعاد الفرد الثنائيَّة والثلاثيَّة، ولا في صراعاته الداخلية، قبل اتحاد الأدب والسينما، مثلما تجلَّى في أعمال إحسان عبدالقدوس ونجيب محفوظ ويوسف إدريس. أما ما قبل ذلك، فكان الأشرار يظهرون في مساحتِهم الآمنة.

إذّاك، شاهدنا استقرار زكي رستم، لفترة طويلة، في دور الشرِّ السُّلطوي، والحضور الأبوي المُهيمن، إذ ارتباط حضوره بالقوَّة الجسدية والغِلظَة والنبرة العالية. بينما جسَّد محمود المليجي المكرَ الحادّ، بعينيه الجاحظتين وملامحه القاسية، إذ غالبا ما تظهر شخصيته كزائرٍ ليلِيٍّ، يتسلَّل ببطءٍ إلى المنازل المستقرة الآمنة، ليُمارس أعلى درجات الابتزاز بابتسامة قاتلة. لكن، مع البناء المُسبق وسرد الأحداث، نستطيع التنبؤ بأن شخصيات المليجي قد رسمت نهايتها منذ البداية، في تقاطع مع "ستيفَان روستي" وإن كان أقل مساحة منه. أما فريد شوقي فقد قدّم نموذجًا للشرّ الجسدي: جسدٌ ضخم يستعرض قوته في العراك والبطش، ومعاركٌ مستمرة تجسد الفتوة والعنف المباشر.

وسط كل هؤلاء، يُطلُّ علينا كمال الشناوي بصورةٍ مختلفة، بعد سلسلةٍ طويلةٍ من الثنائيات الحالمة مع النجمة شادية، وتجربة الكوميديا الرومانسية مع فاتن حمامة، والأفلام الغنائية مع ليلى مراد ونور الهدى، والدراما الرومانسية مع سميرة أحمد وماجدة؛ كل هذا الزَّخم جاءَ تحت مظلَّة "فتى الشاشة المُحبّ" المُحاطِ بجميلات الشاشة السينمائية. فهل استطاع، تحت هذه المظلة، أن يظلَّ بطلًا حتى النهاية، بعد أن قرَّر باندفاعٍ أن يُجسِّد شخصياتٍ تحملُ في طياتها شرًّا كامنًا، على الرغم من معرفته بمعايير البطولة المطلقة آنذاك؟ الحقيقةُ التي تقبّلها الشناوي بكلِّ قناعةٍ هي أن هذه المعادلة لا تحدث بالضرورة، بل عليه أن يتراجع خطوةً نحو الخلف، مع إبقاء الملامح والتكوين كما هما: رجلٌ رصينٌ، يجلس في الصالون الفخم أو يتجوَّل ببدلةٍ أنيقةٍ، وربطة عنق منسابة، وحركة اليد التي ترفع السيجارة، وطريقة الجلوس الواثقة، والنظرة الساهمة. هذه التفاصيل الصغيرة اتحدت لتصنع خلطةً للشرِّ الجذَّاب، الشرُّ الذي يتقدم ببطءٍ ليحتلَّ المشهد، فيحوّله إلى مسرحٍ للإغواء. ومن هنا، ابتدع الشناوي خلطته السرية.

 ملامح خاصة 

في عيني الشناوي بريقٌ هادئٌ لا يشيخ، وفي ابتسامته انحناءةٌ محسوبةٌ تُوحي بالمكيدة. الشرُّ عنده لم يتجلَّ كقوةٍ غاشمةٍ أو طغيانٍ فجٍّ أو صوتٍ مزلزل، بل كحضورٍ ناعمٍ وتنهيدةٍ لمخارج الحروف (تلك التي اشتُهِر بها لاحقًا)، مُخفيًا وراء كلاسيكية مظهره شبكةً معقدةً من النوايا. هذا النوع من الأداء يضعه في منطقة خاصة: منطقة يلتقي فيها الخبث مع الأناقة، والخطر مع الرغبة. مما يجعل المتلقي، حين يتابع حركاته الرصينة وإيماءاته المتأنية، لا يكتفي برؤية الشر كفعلٍ تخريبيٍّ للأحداث التالية، إنما يراه كتجربةٍ جماليّةٍ شيّقة.

في تكوينه الجسديّ مقوّماتٌ وأسلحةٌ جاهزةٌ للتوظيف: قامته، شعره الناعم، شواربه التي لم يتخلَّ عنها مطلقًا، جميعها أسلحةٌ تكفي للبطولة الرومانسية ولزيادة عدد المعجبات، لكنها عند نقطةِ تحوُّلٍ مُفاجئة، استحالت عبر أدوار الشر إلى قناعٍ أخلاقيٍّ مضاد، قناع يُوهم بالألفة فيما يخطط للخديعة، وهذا ما حدث عام 1959، عندما رفضَ دور البطولة في فيلم «المرأة المجهولة» (إخراج محمود ذو الفقار)، واختارَ أن يقوم بدور الشرير «عباس أبو الذهب» على الرغم من مساحة الدور الصغيرة؛ إلا أنها كانت الشخصيةَ التي غيّرت مصائرَ بقية شخصيات الحكاية. تتجلّى فرادة الشناوي، في «المرأة المجهولة»، من خلال وجهه المشرق الذي نشهده في النصف الأول من العمل، والجذر المظلم للشخصية الذي يتكشّف لاحقًا، مما يؤكد للمُشاهد، على الصعيدين الفني والنفسي، أن الشر ليس غريبًا عن الحياة اليومية، بل يسكن في تفاصيلها الأنيقة والرصينة.

في أداء الشناوي لأدوار الشَّر، نلمسُ ثباتًا في إيقاع الصوتِ ومستواه لمدةٍ طويلة، وسيطرةً كاملةً على ملامح الوجه. كان بإمكانه إخضاعُ ملامحِه العربية لتعابير تَقمُّص الشر السهلة المألوفة، لكنه ابتدع لغته الخاصة تحت مظلّة "الهدوء القاتل"، حيث تكفي ابتسامةٌ صغيرةٌ جدًا، ابتسامةٌ مقتضبة، أو ربما نصف ابتسامة، لإشعال التوتر. في المجمل، لا يوجد شرٌّ ظاهرٌ يعتمد على تضخيم طبقة الصوت أو الجسد أو السلطة الموروثة، بل يستند الأمر إلى "الكاريزما"؛ وهذه الكاريزما هي ما يجعل المشاهدَ مأخوذًا بالممثل وبتمثيله، حتى أثناء ارتكابه الفعل المُدان. لقد كرّر كمالُ التجربةَ الشريرة في السنة التالية، وهو يَعلم أن الثمن الذي سيدفعه الأشرار هو التراجعُ عن تصدُّر الاسم الأول في الملصق الدعائي للعمل.  وهذا ما حدث بالفعل في فيلم «حبي الوحيد» (كمال الشيخ، 1960)، حيث تنحَّى اسمه ليُفسح المجال لعمر الشريف ونادية لطفي. لقد قدم الشناوي دور «شكري» الذي شرع في التخطيط لقتل زوجته عن طريق السُم، رغم تعلقه بها. وهنا يجد المشاهد، مرة أخرى، نموذجًا جديدًا للدنجوان القادر على أن يكون الحبيبَ والخصمَ في الوقت ذاته. هذا التورُّط الجمالي هو ما رسّخ حضور الشناوي كوجهٍ يُثير الإعجاب والخوف معًا.

المنطقة الحذرة

ثمة في مسيرة  الشناوي منحنىً تنقّل عبره من دائرة الأبطال النبلاء إلى مناطقَ رماديةٍ تستفز الجمهور. فعلى الرغم من تكرار قصصٍ عديدةٍ عن الخيانة الزوجية، إلا أنه قدَّم وجهًا آخر يرتبط بمواثيق الصداقة، فصار حضوره مشحونًا بأدوارِ ما يمكن تسميته بـ "الصديق الغدّار". بدأ هذا المنحى لأول مرة مع فيلم «أمير الانتقام» (إخراج هنري بركات، 1950)  ثم اتخذت هذه الأدوار مسارًا أكثر جرأة حين مسَّت أمانة البيت وحرمته، لتغدو العلاقة الغرامية السرية مع زوجة الصديق - بإيقاع أدائي يحمل الكثير من الاسترخاء -  تجسيدًا للانهيار في أعمق دوائر الثقة. برز ذلك في فيلمَيْ «ارحم حبّي» (هنري بركات، 1959) و«البنات والصيف» (عزالدين ذو الفقار، 1960).

في الفيلم الأول، استثمر المخرج «هنري بركات» هذه الميزة بدقة، فجعل من شخصية الطبيب شخصيةً ناجحةً وحريصةً من الخارج، بينما من الداخل، فإنها تتقدّم نحو الخيانة بخطى محسوبة. هنا، خرج الشّر من نعومة الإغواء غير المبتذل، وانعكس عبر الرؤية الجمالية لبركات؛ حيث يتسلل الخطر من داخل الألفة، وتنمو الخيانة في قلب الثقة.

أما فيلم «البنات والصيف» فقد قدم الصورةَ الأكثر فجاجةً، إذ بدت الخيانة طقسًا يوميًا قائمًا أمام عين الصديق المغلوب على أمره، شاهدًا على علاقة أقرب الناس: صديقه وزوجته. يظهر الشر هنا كنتيجةٍ طبيعيةٍ لتفاوت القوى، بين حضورٍ نافذٍ يفرض إيقاعه، وحضورٍ هشٍ يرضخ في صمت. اختار المخرج عز الدين ذو الفقار كمالَ الشناوي لهذا الدور، لأنه أراد للخيانة نفسها أن تكون جزءًا من فتنة بصرية، متجلّيةً في زوجةٍ يتجاذبها، في كلِّ خلوةٍ، الصراعُ بين رغبتها وبين عذابِ ضميرها وإحساسها بالعار. تكمن رمزية تلك العلاقة الحميمية المُعقّدة في الاستدراج، وإتمام تلك العلاقة خلفَ بابٍ مقفل، في تضادٍّ واضح مع الفضاء المفتوح للصيف، حيث الهواء والموج والشاطئ والحرية المسلوبة. بهذين الفيلمين، اكتملت ملامح أدوار الشناوي، من خلال صورةِ خيانة الصديق والانحدار إلى هاويةٍ أخلاقيةٍ متخفيةٍ تحت أرقى الأقنعة.

الشر المُؤسَّسي

في عام 1962، قدَّم كمال الشناوي شخصية «رؤوف علوان»، في فيلم «اللص والكلاب»، المقتبس عن رواية تحمل نفس العنوان للأديب نجيب محفوظ. سار الشناوي على نفس الخُطى، في منطقة الخيانة بين صديقين، غير أن الطرف الثالث هذه المرة لم يكن امرأة. كان رؤوف رمزًا للصحفيِّ المثقف الذي تخلَّى عن مبادئه عند أول امتحان حقيقي. كانت البنية النفسية التي اشتغل عليها كمال الشناوي، في هذا الشأن، هي الازدواجية بين "القلم المناضل" و"المنصب المريح". العينُ عند الشناوي هي مفتاح شخصية رؤوف: نظراتٌ قصيرةٌ متعالية، تحمل إيحاءًا ما بأن النقاش مع غريمه سعيد لا يتجاوز أصداء الماضي، ومهما تعالت انفعالات وتهديدات خصمه، فإنه لا يضطرب، بل يترك نبرة صوته تنخفض قليلًا كأنه يُواسي مراهقًا سياسيًّا. هنا، يُوظِّف الشناوي ما يشبه - تقنيًّا - "الفجوةَ التعبيرية"، حيث الاسترخاء الظاهري لا ينفي القسوة الداخلية بل يضاعفها. لقد التقطت الكاميرا في المشاهد المحتدمة وجهًا هادئًا كعادته، يتفادى المواجهة ببرود، ما جعل الخيانة أكثر إيلامًا. صحيح أن الخط الزمني في الفيلم لم يقدِّم مبرراتٍ كافيةٍ لماضي رؤوف، الذي سيجعله لاحقًا يتصرف بخسة على هذا النحو، إلا أن حضور هذه الشخصية نجح في تجسيد فكرة أن الشر مسألة وجودية؛ فالخيانة الفكرية تنبعُ من الداخل، وتكشفُ هشاشةَ العلاقة بين الإنسان وذاته أولًا. 

المحطة الثانية من تقديم الشر المؤسسي كانت عبر فيلم «الكرنك» (علي بدرخان، 1975)، الذي مثَّل علامةً صادمةً في السينما المصرية. وليس في الفيلم ما يوقظ هذه الصدمة أكثر من دخول شخصية الضابط خالد صفوان، كجرسِ إنذارٍ يتفجّر في مشاهد العمل، جبروتًا وهيبة وقسوة تركت أثرها كندبة، مشدودة بكاريزما وحشية. في المشهد المرعب الشهير  يتحوَّل مكتبُ خالد صفوان إلى مسرح للخوف: حيث يأمر المساعد فرج باغتصاب المعتقلة، فيما يجلس هو خلف مكتبه يراقب ويبتسم ويدخن السجائر؛ لحظةٌ تتجاوزُ حدودَ الواقعة الفردية إلى تجسيد البطش المؤسسي. لحظةٌ تكشف عن جبروتٍ يُمعن في الإذلال. وقد عزز ذلك أن الإطار الإخراجي كان يصوِّر المكتبَ من الأعلى، كساحةٍ للشر البيروقراطي، بينما كان الجسد البشري مستباحًا، يُنتهك على الأرض. بعد هذا المشهد-الكابوس، لم يترك كمال الشناوي للمُشاهد مساحةَ تعاطفٍ أو التباس، بل فرض عليه مواجهةً مباشرةً ومنفرة مع القسوة في أعتى صورها، وللأسف، في أكثر أشكالها واقعية أيضًا.

الثمانينات أو الشر حسبَ متطلبات السوق

في منتصف الثمانينات، ومع تقدم مراحل العمر، كان جسدُ كمال الشناوي يحملُ بصماتِ الزمن، ووجههُ يختزنُ ملامحَ الرجل المعتَّق بالخبرة. رحَّب الشناوي بموجةِ أفلام الأكشن التي اجتاحت السوق، فقدم شخصيةَ "رجلِ العصابات" في أفلامٍ تجاريةٍ عديدة. حيث أصبح الشر، في هذه المعالجات الجديدة، مباشرًا وصاخبًا، كونه العنصر الخصم لنجوم ونجمات جيل الوسط، والذين كانوا يرتكِزون، لأجل ضمان نجاح شباك التذاكر، على حبكةِ دوائر الانتقام، والتي كان يتصدّرها في تلك المرحلة: نور الشريف، فاروق الفيشاوي، نبيلة عبيد، نادية الجندي وغيرهم. تخلَّى الشناوي الستيني، في مواجهة هذا الجيل، عن زعامةِ الشر الأنيق وارتدى ثوبَ السُّلطة الشعبية التي تتسلَّح بالعنف الجماعي المنظّم، والتهديد الضوضائي. ومع أن هذه الأدوار بدت أقرب إلى متطلباتِ السوقِ منها إلى القيمة الفنية، إلا أنها، من جانب آخر، أعادت إنتاج صورة كمال الشناوي بما يتلاءم مع تحولات الزمن. فظلَّ قادرًا على المواكبة، وبدا ممتلكًا للمرونة الكافية في تطويع أدواته التمثيلية مع الموجة الجديدة من المخرجين الشباب في مرحلة الثمانينات مثل: خيري بشارة، عاطف الطيب، علي عبد الخالق، ابراهيم عفيفي، عادل الأعصر، عادل عوض.. وغيرهم.

إرثُ الشرّ الوسيم  والمنعطفات الأخيرة

ترك كمال الشناوي إرثًا بارزًا في السينما المصرية. فقد أثّر في الطريقة التي صُوِّر بها الشر لاحقًا، وفتح الباب أمام ممثلين آخرين للاقتراب من منطقة "الشر الوسيم". يمكن أن نرى انعكاساته في بعض بدايات  حسين فهمي في السبعينيات، حيث امتزجت الوسامة بالاستهتار واللامبالاة، وفي أدوار محمود حميدة لاحقًا، الذي اعتمد على تغليف جاذبية الطَّلة بالقسوة الغامضة والأسلوب المقتضب الجاف.  

استمر كمال الشناوي، في مختلف مراحله العمرية، بوصفه ممثلًا يصوغ فلسفةً كاملةً حول الطبيعة المتناقضة للإنسان. من تغير مفهوم الشر ككتلة سوداء، إلى فضاءٍ ملوّنٍ يتسع لأطيافٍ مختلفةٍ من السلبية والهواجس الداخلية والهروب مثل: «الرجل الذي فقد ظله»، «المستحيل»، «العوامة رقم 70». ومن ثم إلى الغواية والسلطة في: «دمي ودموعي وابتسامتي» و«الهروب من الخانكة» و«لحم رخيص». انتقالًا إلى الجاذبية والافتراس، مثل: «انتحار صاحب الشقة» و«العقرب». وصولًا إلى  منتصف التسعينات، حيث قدم شرًّا متخففًا من وقاره القاتم من خلال تحوّله إلى قناع ساخر؛ إذ انزاح نحو ما يشبه الكاريكاتير السياسي، فتحول إلى شرٍّ فكاهيٍّ يمثِّل السلطة المتغطرسة بروحٍ هزليةٍ. ولم يكن ينافسه في هذه المساحة آنذاك سوى الفنان الراحل جميل راتب. تجلت شخصيات كمال الشناوي في "الشر اللذيذ" من خلال ثنائيته مع عادل إمام، في فيلمَي «الإرهاب والكباب» (1992) و«الواد محروس بتاع الوزير» (1999). ومع اقتراب الألفية الجديدة، استمر الدنجوان الشرير حضوره، رغم تقدمه في السن، من خلال ما أتيح له من أدوار تلفزيونية تمحورت حول السلطة الإدارية والهيمنة العائلية.

غير أن ما يتجاوز المسارات الظاهرة وتلك الرحلة الغنية التي خاضها كمال الشناوي، بما حملته من تحولات وأقنعة، وتصالحه مع وعيه المهني ورهافتِه التشكيلية في رسم الشخصيات، هو ذلك الأثرُ الكامن الذي يتسلل من وراء ملامحه، ومن نبرة صوته الرخيمة والحميمة في آن، أثرٌ يفتحُ نافذةً لتأمُّلِ الشرّ في الغموض الإنساني المثير للجاذبية والنفور، وفي تحوّله إلى مختبرٍ حيٍّ للجمال المُظلم.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى