توفيق برهوم: أن تُواجه الحقيقة يعني أن تملك فرصة النجاة

May 18, 2025

«اليوم ماتت أمِّي، أو ربما بالأمس، لست أدري». بهذه العبارة الشهيرة يفتتحُ ألبير كامو روايته «الغريب». هذه العبارة هي التي تذكَّرتها على الفور وأنا أشاهد فيلم «أنا سعيدٌ لأنك ميت الآن» (I'm Glad You're Dead Now - 2025) لتوفيق برهوم، فلتوفيق غريباه أيضًا، غريبان يأخذاننا في رحلةٍ طويلةٍ داخل عقليهما المتشابكين: أحدهما أبو الرشد (أشرف برهوم)، رجلٌ أضناه الخرف، يكرر سؤاله الباهت «وين أبوي؟»، فيما يقف أخوه رضا (توفيق برهوم نفسه) منشغلًا بنشر الخشب بانفعالٍ واضح، ويجيبه بحدة ويأمره بالابتعاد والدخول إلى البيت.

كان رضا قد فرغ لتوِّه من جرِّ جثَّةٍ ما عبر الطريق، وها هو منهمكٌ الآن في صناعة ما يبدو على أنَّه تابوتها. في الوقت نفسه كان أبو الرشد يبكي بصوتٍ عالٍ خلفَ بابٍ أغلقه على نفسه. وفي النهار التالي يجلسان سويًا عند الميناء. رضا، وهو الأخ الأصغر، يعبِّئ الانتظار بالكلام، مع أخيه أبو الرشد، عن الشيء الفظيع الذي حدث بالأمس، حيث كلاهما كانا موجودان، وأحدُهما شاهدٌ على ما اقترفه الآخر.

يحاول أبو الرشد أن يُخفي مشاعره، أن يكتم بكاءه بقضماتٍ متتاليةٍ من الليمون، يتظاهرُ بالتماسك، ثمَّ يناول القطعة التالية لأخيه بصمت. عندها يقول رضا بنبرةٍ هادئةٍ إنَّهما لم يُحبَّا الليمون يومًا، وأنَّهما كذبا حين ادعيا ذلك في طفولتهما، فقد اضطُرَّا لأكله فقط كي يُزيل طعم "الزفت" الذي علِق في أفواههما.

يبدو التوتُّر واضحًا منذ اللحظات الأولى في الفيلم، أو ربَّما هو توتُّرٌ سابقٌ للبداية ذاتها، ممتدٌّ من شيءٍ ما لم نره بعد. فالمشهد الافتتاحي لا يترك مجالًا للشك في أنَّنا أمام نهاية، نهاية ثقيلة ومحمَّلة بما سبقها. ها هي جثَّةٌ تُسحب ببطءٍ عبر الطريق، في ليلٍ حالكٍ كأنَّما يطوي معه صفحةً طويلةً من عمرٍ مثقلٍ بالصراع.

على ماذا يستند هذا الصراع؟ لا تبدو هناكَ أسباب واضحة، أو لعلَّ الأسباب موجودةٌ لكنَّها لم تعد ذات أهمية. رضا وأخوه يجلسان أخيرًا فوق تابوت ما، عند الميناء، في انتظار العودة إلى المدينة. فقد كانا في زيارةٍ قصيرةٍ إلى والدهما، في الجزيرة التي تربَّيا فيها. ويبدو أنَّ هذه الرحلة، التي بدت عاديَّةً في ظاهرها، تحوَّلت إلى عودةٍ غامضةٍ نحو الجذور، وكأنَّها أعادتهما إلى أصل اللعنة ذاتها.

يُذكِّر رضا أخاه أبو الرشد ببعض الأحداث القديمة دون أن يبدي أيَّ رغبةٍ في التبرير أو الشرح؛ كأنَّه يرويها لمجرَّدِ التذكير ليس أكثر. ويتحوَّل الحديث بينهما تدريجيًّا إلى ما يشبه المرثيَّة الطويلة لحياتهما، يسردان خلالها ما مرَّ بهما من أهوال: طفولةٌ مُرَّة، وأحداث فظيعةٌ خلَّفت ندوبًا لا تُمحى. العذاب الذي أفقد أحدهما عقله، وجعل الخَرَف يستولي عليه، في الوقت الذي ابتُلي فيه الآخرُ رضا بالذاكرة؛ فهو يهمس كمن يشكو لذاته: «أنا مش ناسي، يا ريت بقدر أنسى، بس هاد القرف كله عالق بمخِّي للأبد».

يرفض رضا أن يأكلَ من الليمون، يضعه جانبًا بحركةٍ هادئةٍ لكنَّها حاسمة، وكأنَّ تلك الأيام التي كان يخدع فيها نفسه قد انتهت أخيرًا. لم يعد بحاجةٍ ليتظاهر بأنَّه يحبه، ولم يعد مضطرًّا لاختلاق الأعذار. يبرِّر بصوتٍ خافت، أقرب إلى التأمُّل منه إلى الدفاع: «إحنا كنا ولاد صغار»، كأنَّما يحاول أن يمنح تلك المرحلةِ القاسية عذرًا بسيطًا، أو أن يغفِر لنفسه شيئًا من ضعفٍ مضى.

يصل المركب التي سيخرجهما من القرية، فيسرح أبو الرشد طويلًا بعدما سأل رضا بفضول: «شو في بالصندوق؟» لكنَّه لم يتلقَّ جوابًا. لم يكتفِ بذلك، فتابع بسؤال آخر: «هو ميِّت هلأ؟» ثمَّ يصعدان معًا إلى المركب حامِلَين التابوت. يبدأ أبو الرشد فجأة برقصِ رقصةِ فرحٍ لا تنتهي، تشبهُ إلى حدٍّ بعيدٍ رقصة زوربا الشهيرة. يغنِّي بصوتٍ عالٍ، يصفِّق بيديه، ويرقص بحماسٍ كبير، وكأنَّه غارق في بحرٍ من السعادة المطلقة. أما رضا، الذي لا يعبِّر عن مشاعره بسهولة، فيمسك بأخيه برفق، يطبطب على كتفه، ثمَّ يحتضنه بحنانٍ ودفءٍ لفترةٍ طويلة.

يجمع الموت ويفرِّق بنفس الطريقة التي تفعلها الحياة. هذه الرحلة التي أعادت الأخوين إلى والدهما في الجزيرة، إلى ماضيهما المشترك، حيث جمعَ بينهما الألم خلال سنوات الحياة، كانت بمثابة إعادةٍ لربط أواصِلِهما من جديدٍ عبر موت الأب - المسبِّب الرئيسي لهذا الألم - على يد أحدهما. الغريب في الأمر أنَّهما حملا جثمان والدهِما معهما إلى المدينة، كما لو أنَّه صليبهما الذي سيظلُّ يثقل كاهلهما ويعذبهما طوال حياتهما. كلُّ واحدٍ منَّا يحمل بداخله جرحًا عميقًا لا يشفى أبدًا، ويبدو أنَّ هذا الجرح هو جرحهما الخاص الذي يلازمهما دومًا.

يُعتَبر فيلم «أنا سعيدٌ لأنَّك ميِّتٌ الآن» عملًا سينمائيًّا واعدًا جدًا، رغمَ أنَّه أوَّل تجربةٍ إخراجيَّةٍ للمخرج الفلسطيني توفيق برهوم. يعكسُ الفيلمُ موهبةً مميَّزةً تبوح عن مخرجٍ صاعدٍ ومبشِّرٍ في عالم السينما. يتميَّز العملُ بشاعريَّةٍ واضحة، حيث يناقشُ مشاعر قصَّةٍ معقَّدةٍ بطريقةٍ محمَّلةٍ بالعبثيَّة الشديدة، لكنَّها لا تفقد عمقها أبدًا، ممَّا يجعل تأثيره قويًّا ومؤثِّرًا جدًا. من المتوقَّع أن يظلَّ هذا الفيلم، بتفاصيله ومضامينه، محفورًا في ذاكرة المشاهدين لفترةٍ طويلة.

في الدورة 78 من مهرجان كان السينمائي لعام 2025، الذي يُقام في الفترة ما بين 13 و 24 مايو، اختيرَ هذا الفيلم الفلسطيني القصير ضمن المسابقة الرسميَّة للأفلام القصيرة. يُعدُّ هذا الفيلم إنتاجًا مشتركًا بين فلسطين وفرنسا واليونان، ويبلغ طوله 13 دقيقة. وقد اختيرَ من بين 4781 فيلمًا قُدمت للمسابقة، بحيث أنَّه يتنافسُ مع 10 أفلام أخرى تشمل 8 أفلام روائيَّةٍ قصيرةٍ وفيلمين تحريكيَّين. تُعتبر هذه المشاركة إنجازًا بارزًا للسينما الفلسطينيَّة، خاصَّةً في ظلِّ التنافسِ الشديد في مهرجان كان، الذي يُعدُّ من أبرز المهرجانات السينمائيَّة العالميَّة.

حل المخرج توفيق برهوم ضيفًا على «ميم» في حديثٍ حصريٍّ تناول فيه رحلته ما بين الإخراج والتمثيل، وأهميَّة تجربة كان بالنسبة إليه.

بدايةً حدِّثنا عن رحلتك مع السينما وما السبب الذي دفعكَ لخوض تجربة الإخراج إلى جانب التمثيل؟ وما التحديات التي خضتها كممثِّلٍ ومخرجٍ في الآن ذاته؟

الحقيقة أنَّني لم أرغب في التمثيل أبدًا، ولم يشغلني هذا الأمر. لكنَّني أردت دائمًا أن أصنعَ أفلامًا. في هذه الفترة كنتُ مقيمًا في فلسطين، ولم يكن لديَّ وسيلة لصناعة الأفلام. لذلك بدأت بالتمثيل عام 2011، ولكن بعد أكثر من عشرِ سنواتٍ من العمل مع عددٍ كبيرٍ من المخرجين الذين ساعدوني كثيرًا، ظننتُ أنَّ الوقت قد حان لأصنع فيلمي، ولا أعرف إن كنت سأكملُ بالتمثيل، لأنَّ التوفيق بين الأمرين صعبٌ للغاية، رغمَ أنَّني أعرفُ في قرارة نفسي بأنَّني سأواجهُ أيضًا صعوبةً في الفرار من هذا الأمر وأعرف في الوقت ذاته أنَّني سأكملُ فيه. المشكلة أنَّ إخراج الفيلمِ يأخذ الكثير من حياتك، الكتابة والإنتاج وغير ذلك. على سبيل المثال، ولكي أصنع هذا الفيلم، لم أجد نفسي مضطرًّا للعمل لمدَّة عامٍ كامل، بل كان عليَّ فقط التركيز حول هذا الفيلم. ففي مرَّاتٍ عديدةٍ تكمنُ الصعوبة في صنع شيئين في الآن ذاته.

هل تكتب وأنت ترى الشخصية من الداخل كممثل؟ أم تبنيها من الخارج كمخرج؟ وكيف تتشكل البذرة الأولى للفيلم بداخلك؟

أعتقدُ بأنَّني أكتبُ كممثِّل، لأنَّ وظيفة الممثِّل هي الانغماس في الشخصيَّة وأنا أكتبُ انطلاقًا من هذا الانغماس، خاصَّةً عندما ترتكزُ كتابتي على الشخصيَّات نفسها، ولكن عندما أكتبُ الجوانب الأخرى في الفيلم، فإنَّني أحبُّ الخروج والابتعاد قليلًا ورؤيةَ كلِّ شيءٍ من الخارج.

ما هي فلسفتك في التعامل مع الممثلين؟ هل تمنحهم حرية الاكتشاف أم تفضل السيطرة الدقيقة على الأداء؟

كلُّ ممثِّلٍ يختلفُ عن الآخر، وعلى المخرج أن يتعامل مع كلِّ ممثِّلٍ بشكلٍ مختلف. هناك ممثلين لا بدَّ من القيام بتوجيههم قبل ذلك، وآخرين ينبغي إعطاؤهم المساحة الكاملة. بالنسبة لي، لا أفضِّلُ السيطرة كثيرًا على فريق التمثيل، فأنت عندما توجِّه الممثِّل كثيرًا قد يمنحكَ شيئًا جيدًا، ولكن عندما تترك له الحريَّة فإنَّه سيمنحك شيئًا جيِّدًا ورائعًا في الآن ذاته. مثلًا عندما عملتُ مع الممثِّل أشرف برهوم، كان يقول في مرَّاتٍ كثيرةٍ إنَّه يريد صنعَ شيءٍ ما هنا، حينها لم أكن أسأله حتى ماذا تريدُ أن تفعل، بل أترك له الحريَّة الكاملة لفعلِ ما يريد.

يحمل الفيلم طيفًا من العبثيَّة الوجوديَّة، خاصَّةً في تعامله مع فعلٍ صادمٍ كـ"قتل الأب"، إذ بدا متأثرًا برواية الغريب لألبير كامو، هل كان كامو ممَّن أثروا فيك؟ ولماذا اخترت أن تتناول هذه الثيمة، وكيف وُلدت فكرة الفيلم؟

عجبًا! لم أفكر بهذا الأمر من قبل، إنَّها من رواياتي المفضلة، ويبدو أنَّني فعلًا تأثَّرت بها، وقد انتبهت لهذا الأمر بعد كلامك. عمومًا عندما أحاول أن أكتب شيئًا، يدور دائمًا حول هذه الثيمات، وغالبًا لا أعرف ما هي القصة بالضبط، تكون هناك حالةٌ وتصوُّرٌ ما في رأسي، ثمَّ أشرع في الكتابة، وعندما أكتب أفهمُ ما هي القصَّة، لذلك فإنَّ الأمر لا يكون عن وعي أبدًا، فلا أختار على سبيل المثال أن أكتب فيلمًا عن الخسارة أو عن الصدمات الإنسانيَّة، فالأمر يحدث على نحوٍ عفوي، ويأتي دون استدعاء. هذا الفيلم مثلًا كتبته في أمستردام حيث جاءني الإلهام في لحظة صفاءٍ وأنا جالس، إذ تخيَّلت أخوين جالسين على شاطئ بحرٍ وما إلى ذلك. بالتالي فإنَّ اختيار الثيمة، وولادة فكرة الفيلم، ليستا شيئًا أفكِّر كثيرًا حوله.

الموت في الفيلم لا يبدو كوسيلةٍ للتحرُّر، إذ حمل رضا جثمان أبيه معه إلى المدينة، فهو أقرب إلى عبء. كيف تقرأ فكرة الموت في عملك، هل هو نوع من الخلاص أم العذاب الأبدي؟ 

أفكِّر بأنَّ الناس يحاولون فقط معالجة أنفسهم، ولهذا حاول هذان الأخوان معالجة نفسيهما بعد موت والدهما، ولكن في النهاية لم يُفلح الأمر. لهذا حملا التابوت معهما إلى المدينة، لأنَّ الحياة عبء، ولا يهمُّ أن تواجه الحقائق وما إلى ذلك. أعرفُ أنَّ الأمر يساعد أحيانًا، لكن تلك الحقائق ستبقى دائمًا معك، وربما تصبح أكثر خفَّة، لكنَّك ستحملها معك دائمًا كعبءٍ أبدي.

الذاكرة في الفيلم ليست أداةَ تذكّر، بل نوعٌ من العذاب. في المقابل، يبدو النسيان نوعًا من النجاة. هل ترى أنَّ التذكّر فعلٌ إنسانيٌّ شجاع، أم أنَّه شكلٌ من أشكال العجز؟ متى يصبح النسيان خيارًا مشروعًا؟ وكيف تقرأ هذه الثنائيَّة بين رضا وأبو الرشد؟

بالطبع اشتغلت على هذه الثنائيَّة. كنتُ أستكشف فكرة النسيان، هل هي شيءٌ جيد أم سيئ؟ أحيانًا يقولون إنَّ النسيان نعمةٌ وهو كذلك، أجل وبطرقٍ عديدة. ولكنَّك تستطيع بوضوحٍ أن ترى أنَّ رضا هو الشخص الذي يحملُ كلَّ هذه الذكريات معه على مدار الأيام، فهو يحملُ كلَّ شيء ويعاني، ولكن في الوقت نفسه حيثما ذهب يتبعه أخاه، يتأثَّر بكلِّ شيءٍ يقوم به، ولا يستطيع العيش دون الاعتماد عليه.

لذلك عندما نقول إنَّ النسيان نعمة، أجل قد يكون كذلك، ولكن في الوقت نفسه نستطيع رؤية رضا الذي، ورغم حمله كلَّ هذه الأشياء والذكريات معه، يتمكَّن على الأقل من مواجهة الحقائق، وعندما تمتلك فرصةً لمواجهة الحقائق، فهذا يعني أنَّك تملك فرصةً للنجاة، وعندما لا تمتلكها كما هو حال أخيه أبو الرشد، فعلى الأرجحِ لن تنجو. لهذا نراه ضائعًا، لا يستطيع النجاة من دون أخيه.

الشخصيَّة التي فقدت ذاكرتها تبدو أكثر تحررًا من التي تتذكَّر. هل ترى في الجنون شكلًا من أشكال الحكمة المتحرِّرة من المنطق؟

صحيح، إنَّه نوعٌ من التحرُّر، لأنَّه وكما نرى، بعد وفاة أبيهما بيومٍ جلس أبو الرشد وقال «هناك شيءٌ فظيعٌ قد حدث بالأمس» فهو يعرف أن هناك شيئًا فظيعًا قد حصل، ولكنَّه لا يعرف ما هو ، فهذه نعمةٌ بالطبع. ما حدث بالتحديد قبل يومٍ واحدٍ هو أنَّ أخاه الصغيرَ قد قتل والدَه أمام عينيه، فاكتفى بالجلوسِ هناك قائلًا: «شيءٌ فظيعٌ قد حدث». إنَّه لا يعرف ما هو الذي حدث، لكنَّه فقط يشعر بالسوء حوله، وفي نهاية المطاف سيتجاوز الأمر. في المشهد الأخير شعر بالتحرُّر وبأنَّه بخير، في حين لم يتغيَّر شيءٌ بالنسبة لأخيه الصغير، فهو ما يزال يعاني من ماضيه، صحيحٌ أنَّ عنوان الفيلم هو «أنا سعيد لأنك ميت الآن»، إلَّا أنَّه ليس سعيدًا حقًا، لأنَّ لا شيء قد تغيَّر.

سحب الجثة، رقصة الفرح، الإيماءات الصامتة… الجسد في فيلمك ينطق دون لغة. هل ترى فيه وسيطًا تعبيريًا بديلًا للكلمة، وكيف تفهم الجسد داخل السينما؟ هل هو أداة ترجمةٍ للمشاعر، أم عنصرٌ سرديٌّ مستقلٌّ يُنتج المعنى بحدِّ ذاته؟

أحاول قدرَ استطاعتي استعمال الفيلم كفيلم، والكلامُ في الفيلم شيءٌ صعب، وعندما أكتبُ حوارًا فيجب أن يكونَ لشيءٍ غاية في الأهمية، وليس مجرَّد وسيلةٍ للتعبير عن المشاعر، لأنَّني أرى أنَّ السينما بنيت من أجل سردِ القصص عن طريق الصورة، لذلك عندما اُضطرُّ إلى جعل الشخصيات تتحدَّث في الفيلم، أشعرُ أنَّني قد فشلتُ كصانع أفلام.. إذن فالحوارات في فيلمي ليست مباشرة بالمعنى التقليدي. كان باستطاعتي جعل الشخصيَّات أكثر مباشرة، مثل أن يقولوا إنَّهم كانوا ضحايا اعتداءٍ جنسيٍّ من قبل والدهم، لكن هذا ليس مثيرًا للاهتمام لأنَّه لا يحدثُ في الحياة الواقعيَّة. نحن في الحياة الواقعيَّة لا نتحدَّث عن مشاعرنا كثيرًا، فهي مخزَّنةٌ داخل أجسادنا. عندما تقابل أختك وتسألها هل أنتِ بخير؟ ستقول نعم، وبدورك ستجدُ نفسك قادرًا على الرؤية بوضوحٍ أنَّها ليست كذلك، وستعرف سبب ذلك لأنَّها تتصرَّفُ بطرقٍ معيَّنة. الجسدُ إذًا بالنسبة لي قادرٌ على أن يقول أكثر بكثيرٍ ممَّا قد تقوله أيَّة كلمة. والقصة هنا تحدثُ عندما لا يتكلمان، بل عندما تتحدَّثُ الأفعال.

فيلمك قصيرٌ من حيث الزمن، لكنَّه كثيفٌ بالشاعريَّة والرمزيَّة، ويتَّسم بإيقاعٍ بطيءٍ يشبه الطقس التأمُّلي، مع استخدامٍ مكثَّف لرموزٍ مثل "الليمون"، "الصندوق"، و"الميناء" دون شرحٍ مباشر؛ كيف توازن بين الإيجاز والعمق، بين الصورة والتأويل؟ وهل ترى في الإيقاع والرمز وسيلةً لتقريبِ المشاهد من التجربة، أم لإبقاء الغموض حيًّا دون الإخلال بعلاقةِ الفيلم مع المتلقِّي؟

لا أحبُّ الغموض على الإطلاق، أعرف أنَّ الفيلم غامضٌ وما إلى ذلك، ولكن مردّ هذا هو أنَّ الفيلم قصير، وفي الفيلم القصير لا تريد أن يكونَ هناك كلامٌ كثير - والأمر كذلك بالنسبة للأفلام الطويلة - بل إنَّ ما تريده من المشاهدين هو أن يحصل كلَّ واحدٍ منهم على قصَّته الخاصَّة. بالنسبة لي، أعرف ما هي القصة، ولكن من الضروريِّ لكلِّ مشاهدٍ أن تكون له قصَّته أيضًا. لذلك عندما يسألني الناس ما الذي تقصده بهذا أو بذاك، أجدُ نفسي غير قادرٍ على قول شيءٍ لهم، لأنَّني أريدهم أن يشعروا بما يشعر به الأخوين في الفيلم، أن يحصلوا على نسختهم الخاصَّة من القصة، وإذا أتى هذا الفهم من خلال رموزٍ فلا بأس. بالنسبة لي، هذه ليست رموزًا بالمعنى الحرفي على الإطلاق، فعلى سبيل المثال، للَّيمون تأثيرٌ خاصٌّ وحقيقيٌّ يعودُ إلى أيَّام صباهما. هذا رمزٌ بالنسبة للناس، ولكنَّه ليس كذلك بالنسبة لي، وفي كلِّ مرَّةٍ أشاهد الفيلم مع جمع من الناس أجدُ لديهم قصصًا مختلفةً وتأويلاتٍ متعدِّدة حول معنى الليمون وما إلى ذلك، وهذا مثير للاهتمام، فأنت كمشاهدٍ يجب أن تحصلَ على قصَّتك الخاصة.

في عالمٍ مشبعٍ بالأجوبة السطحيَّة، هل ترى أنَّ دور السينما اليوم هو أن تنكأ الجروح وتطرح الأسئلة بدل تقديم الحلول؟ وما الذي يدفعك لصنعِ فيلم؟

أعتقد أنَّني أحاولُ صنع فيلمٍ لأنَّه أداةٌ عظيمةٌ لجعل الناس يفكِّرون، والسينما واحدةٌ من التجارب القليلة التي تمكِّنك من عيشِ قصصٍ لن تعيشها في حياتِك الطبيعية، فأنتَ لستَ بحاجةٍ لمغادرة السينما أو المنزل من أجلِ عيشها، ورغم ذلك تستطيعُ كليًّا أن تختبر حياةً مختلفةً عن حياتك. السينما طريقةٌ للتعبيرِ والاتِّصال بين الناس، إذ يستطيع المرء أن يقرأ كتابًا أيضًا وهذا شيءٌ عظيم، لكن هناكَ شيءٌ حول السينما يجعل الأمر مختلفًا. لا أدَّعي امتلاكي للأجوبة والحلول وما إلى ذلك، فأنا أكتفي بطرح الأسئلة وحسب، لأدفع الناس إلى التفكير دون محاولة السيطرة على وعيهم، وهذا وبكل أسفٍ يحدث أحيانًا في الأفلام، مثلما تصوِّر السينما الأمريكية كلَّ الروس أشرارًا أو كلَّ العرب إرهابيين، حتى أصبح هذا أمرًا مسلَّمًا به، فأنت عندما تفكر بالإرهابي تتصوَّر العربي، ومن السيئ أن تُستَخدم السينما بهذه الطريقَة.

ما الذي مثَّله لك اختيار الفيلم لمهرجان كان؟ هل ترى هذا التقدير خطوةً نحو فضاءٍ سينمائيٍّ جديدٍ في تجربتك؟

أن أكون في "كان" هو أمرٌ يجعلُ طريقي ممكنًا، لا أقول سهلًا لأنَّ الصعوبات ستحضرُ دائمًا، ولكنَّه خطوةٌ مهمَّةٌ في الطريقِ الصحيح، خاصَّةً كممثِّلٍ أراد دائمًا صنع فيلم. عادة ما يتمُّ التعاملُ معكَ على أنَّك الممثِّل الذي يريدُ صنع فيلم، وهناك الكثير من الذين يريدون صنع فيلم ولهذا أتفهَّم الأمر. بيد أنَّ التواجد في كان سيجعلُ الأمر أكثر جديَّة، وسيفكر الناس بأنَّ هذا الشخص سيصنع فيلمه معنا أو بدوننا، وهذا أمرٌ رائع. أن تكون هنا هو امتيازٌ بحدِّ ذاته، فلا يوجدُ مكانٌ أعلى قيمةً من مهرجان كان، فهو بالنسبة لي يمثِّلُ القمَّة لأنَّه ينحاز إلى الأفلام والسينما الجيِّدة دون أن يكون متبنِّيًا لسياسةٍ معيَّنة. على العموم، في السنوات الأخيرة، دائمًا ما كان هذا المهرجان بمثابة بيتٍ لي، فبدايتي معه كانت من خلال فيلمين لعبتُ فيهما دور الممثِّل، ومن الجيِّد الآن أن يكون لديَّ فيلمي الخاص في المسابقة الرسميَّة.

أخيرًا هل هناك عمل جديد في طور الكتابة أو التكوين؟

أجل لديَّ فيلمٌ طويلٌ جديدٌ قادم، ولكنَّني لا أستطيع قول الكثير عنه، لأنَّني أعرف أن هذا الفيلم سيضعني في العديد من المشكلات، لكن مع ذلك لا بأس بالنسبة لي. ما أقصدهُ هو أنَّ أي شيءٍ تفعله في الحياة قد يوقعك في المشكلات، وعندما تحاول استخدامَ الأفلام لجعلِ الناس يفكرون فستقع في المتاعب بلا شك، وهذا شيءٌ أعيه جيدًا وأتوقعه. لا أقول إنَّني أبحث عن المتاعب بالطبع، لكنَّني فقط أعي أنَّها ستكون موجودة.

نُشرت هذه المقالة بدعم من مبادرة «سينماء» لتعزيز المحتوى المعرفي السينمائي.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى