«تشريح سقوط» أو إعادة ترميم الذات بناء على اعترافات الآخرين

January 17, 2024

يُعدّ فيلم المخرجة الفرنسيَّة جوستين تريت «تشريح سقوط» (Anatomy of a Fall - 2023)، الحائز على جائزة السعفة الذهبية بمهرجان «كان» السينمائي عام 2023، من الأفلام الجيدة التي تقدم رؤية مربكة للعلاقات الإنسانية على مستويات متعددة من خلال قالب يجمع بين محاولات حل غموض حادثة وفاة، وتشريح علاقة الأزواج بعضهم ببعض، إضافة إلى العامل المؤثر والمختلف في الفيلم وهو أن يكون الشاهد الرئيس في شبهة قتل هو طفل أعمى.

يتناول الفيلم حادثة موت كاتب فرنسي يُدعى صامويل ماليسكي (صامويل ثيس)، والذي وُجد ميتًا على الجليد في منزلهم على سفوح جبال الألب، حيث انتقلوا قريبًا هو وزوجته الألمانية الكاتبة أيضًا ساندرا فويتر (ساندرا هولر) وابنهما الطفل الأعمى دانييل (ميلو ماتشادو غرانر)، والذي يصبح بشكل ما محورَ القضية بعد محاكمة طويلة وجُهت خلالها أصابع الاتهام إلى الزوجة في مقتل زوجها أو انتحاره المفترض.

يتزوج الفرنسي صامويل من الألمانية ساندرا، وبين اختلاف وربما تنافر الثقافتين، يعيشان في لندن ويتواصلان باللغة الإنكليزيَّة فيما بينهما، وبعد حادثةٍ فَقَد على إثرها ابنُهما بصره، وتحت الضغوطات المالية، يعودان للعيش في منطقة معزولة على سفوح جبال الألب، في محاولة لترميم حياتهم من جديد، ماليًا ونفسيًا، ومحاولة للوصول إلى استقرارٍ ما يمكّنهم من الإبداع والكتابة في الأدب، المجال الذي يجمع بين الزوجين، حتى وُجد الزوج ميتًا، فوُجّهت أصابع الاتهام إلى الزوجة، ليبدأ الفيلم بالذهاب إلى منحى آخر يرتكز على ثلاثة محاور: تصاعد المحاكمة، واكتشاف تفاصيل حول شخصية ساندرا وعلاقتها بزوجها، وأخيرًا إعادة ترتيب حياة دانييل في عينيه من خلال ما ينكشف له من أحداث وحقائق، وكل هذه المحاور تحاول أن تُقربنا أو تبعدنا عن السبب الحقيقي وراء مقتل أو انتحار الزوج صامويل.

على مستوى المحاكمة، يبدأ المدعي بموقف عدائي من البداية، فهو يحشد كل ما لديه من أدلة، وهي لا تكاد تُذكر، إضافة إلى تحليل تفصيلي لأقوال المتهمة (الزوجة)، بل الذهاب بعيدًا لتحليل روايتها باعتبارها انعكاسًا لحياتها الشخصية، ليثبت أن ساندرا قتلت زوجها، ويعود إلى تمثيل حادثة السقوط المفترضة التي أدت إلى وفاة الزوج لقياس الأبعاد ودراسة فرضيتي الدفع من أعلى أو الانتحار، واستجواب المقربين من العائلة، حتى الطفل الأعمى الذي يلعب دورًا رئيسًا في القضية، وذلك بحثًا عن أدلة أو ثغرات تثبت ضلوع ساندرا في موت زوجها، لكنه يبدو وكأن المحاكمة تدور في حلقة مفرغة، فهو وإن استطاع أن يجد ثغرات في استجواب ساندرا، وتمكن من بناء الدافع لدى الزوجة بسبب خلافاتهما المتكررة، فإنه رغم اقترابه من إدانة الزوجة، لا يصل إلى تأسيس الإدانة بصورة كافية قانونيًا وإن كان قريبًا من إثباتها على مستوى سرد الأحداث أمام المحلفين.

على مستوى الزوجة، تبدو الأمور مغايرة، فهي تدفع ببراءتها باستمرار، وتبدو على المستوى النفسي والاجتماعي بريئة إلى حد ما، لكن دائمًا ما كان يظهر خلال المحاكمة أن هناك ما تخفيه، هناك حلقة مفقودة في كل ما تقوله؛ علاقتهما الزوجية ليست على ما يرام في زواج يرى كلُ طرف فيه أنه ضحّى بشيء أساسي لاستمرار علاقتهما معًا، فساندرا الألمانية تعيش في فرنسا وهي لا ترغب في ذلك، وصامويل الفرنسي يتحدث في بيته ويربِّي ابنه على اللغة الإنكليزيَّة وهو لا يحب ذلك، وهو توقف عن الكتابة لأسباب تتعلق بعقدة ذنب تجاه تسببه بعمى ابنه، وفي الوقت الذي تفرّغ فيه لتعليم ابنه منزليًا، تنطلق ساندرا في تحقيق طموحاتها في الكتابة والشهرة، الطموح الذي تتقاسمه مع صامويل الذي أصبح بسبب عدة ظروف عاجزًا عن تحقيقه، بل ربما عاجزًا عن إكمال حياته، وهنا كان دفع ساندرا ببراءتها ببساطة: صامويل قد انتحر، وكان قد حاول الانتحار منذ فترة، والخلافات التي بيننا (وهي خلافات مسجلة) كانت مفتعلة، يفتعلها صامويل، لأنه يظن حياته الشخصية مادة ملهمة للكتابة.. خصوصًا وأن ساندرا تكتب حياتها باستمرار. 

أما بالنسبة إلى دانييل، فالموضوع يذهب باتجاه آخر، فهو ليس في حالة إثبات إدانة أو براءة فقط، ولكنه وُضع -قبل أن يبلغ الحادية عشرة من العمر- في مواجهة مع كل ما يعرفه عن عائلته؛ كان دانييل أول من اكتشفت الجثة، وقدّم أقواله للمحققين، واستُدعي للشهادة في المحكمة، إلا أنه ومع تقدم إجراءات المحكمة، ومحاولات المدعي العام إثبات إدانة والدته بأنها قتلت زوجها، ومحاولة الأم الدفع ببراءتها، تبدأ حياة أخرى بالتكشف أمام الطفل الذي لم يعرف عن عمق خلافات والديه، ولا عن الاكتئاب الذي يعاني منه والده، أو محاولته الانتحار، ويبدأ باستعادة حوارات ومواقف دارت داخل العائلة، وخصوصًا مع والدته، ويحاول قراءتها من جديد بناء على فرضيتين، الأولى فرضية براءة والدته من تهمة قتل والده، وبالتالي افتراض انتحار الأب، والثانية إدانة والدته، ما يعني أنه أمام خيارين لا ثالث لهما: أم قاتلة، أو أب منتحر، الأمر الذي يؤدي إلى ارتباك الطفل، الذي يعيد تشكيل حياته وما يعرفه عن نفسه من خلال الآخرين، وما يقوله المدعي العام، وردود المحامية، وكيفية تصوير الإعلام للقضية، وما تقول والدته، وما يتذكر عن والده. كل هذه العناصر تتشابك أمام دانييل لتعيد صياغة حياته وذاته، وهو الطفل الأعمى الذي يحاول أن يعيش حياة طبيعية بأي معنى فيُضطر إلى خوض تجربة قاسية تعيد تشكيل وجوده.

في النهاية، لا نصل إلى مكان، فلا نعرف حقًا هل سقوط صامويل كان جريمة قتل أم حالة انتحار، فكل سياق المحكمة يتركنا بكثيرٍ من الأسئلة وبلا إجابات، ويمكن لمشاهدي الفيلم الخوض في نقاشات طويلة حول الجانب الجنائي للموضوع، ونقاشات أخرى ترتبط بأي الطرفين ضحّى من أجل الآخر، أيهما كان أنانيًا، وأيهما كان يتحمل المسؤولية، وأيهما كان ضعيفًا وهشًا، لكن الأكيد أن الطفل دانييل لم يخرج من المحاكمة كما دخلها، فهو لم يفقد أباه ويشكك في نزاهة أمه فقط، ولكنه رأى حياته وذكرياته وعلاقاته الأُسرية ووجوده بالكامل يتفكك أمامه، فيحاول إعادة تشكيل كل المستجدات التي اكتشفها، ليظهر بشهادته الخاصة، التي ربما كانت محاولته الأخيرة لإعادة ترميم حياته والخروج من المحكمة بأقل الخسائر. 

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى