قال الناقد روجر إيبرت منذ سنوات طويلة إن ديفيد لينش كان يسعى إلى «طريق مولهولاند» (2001) طوال مسيرته الفنية، وأنا لا أختلف كثيرًا معه، إذ وصل لينش في هذا العمل إلى ذروة دمج الواقع بالخيال من خلال سلسلة من المَشاهد المتشظية تطرح دمج الواقعي بالسريالي من منظور تغير الهوية والتحولات غير المفهومة، علاوة على استكشاف الوجه القبيح لهوليوود والعمل على إظهار الاختلاف الشديد بين وهم الشهرة وبين الحقائق المضطربة التي تكمن تحت السطح في صراعات مع الحب والهوية واليأس، ومع ظهور شخصية لورا هارينغ الفاقدة للذاكرة اتضح بعض الشيء أن العمل لا يقدم إجابات سهلة أو استدلالات واضحة عن طريق رمزياته السريالية، بل يدعو المُشاهد لاعتناق غموضه والعمل على فك رموزه وألغازه من خلال التفسير الشخصي لكل من يخوض تلك الرحلة المربكة.
لورا هارينغ (ريتا) هي لغزٌ جذاب يتجول في خيوط السرد المعقد، لغز يترك بصمة لا تُمحى على جوهر الفيلم. تجسد شخصية ريتا الغامضة، حيث تنقلت بين الجاذبية والغموض، مع ذكر أنها مصابة بفقدان الذاكرة، مما يُعد نقطة انطلاق لاستكشاف مثير للهوية والتصوّرات. ربما تنبعث منها جاذبية ساحرة تثير التعاطف والفضول لدى الجمهور، لكن تحت سطحها الساحر يكمن جانب معقد ومظلم يضفي بعض الطبقات إلى شخصيتها. تفاعلاتها مع بيتي، التي جسدتها نعومي واتس، تُظهر ديناميكيةً ساحرة كان من دورها إبراز الضعف والثقة والارتباط الذي لا يُفسر بسهولة والذي يتجاوز حدود الصداقة التقليدية والتي بشكل ما تكوّن الكيمياء بين ريتا وبيتي، وهي النواة العاطفيةً للفيلم. يعتبر وجود ريتا الغامض محفّزًا لاستكشاف الفيلم للأحلام والواقع والخطوط المشوهة بينهما. مع تطور الأحداث، تصبح شخصيتها عنصرًا محوريًا في فك الألغاز المدمجة داخل السرد. لقاء بيتي بريتا يضع المسرح لاستكشاف غريب للهوية والارتباط، فإن علاقتهما أحيانًا تثير الشفقة وأحيانًا تثير الفضول، ومع الوقت، تتحول شخصية بيتي، تمحو الحدود بين واقعها المُدرك والعالم الغامض الذي تُشتبك فيه. تجسد واتس هذه التحولات بمهارة، تنتقل في طيف بيتي العاطفي بعمق وصدق. من خلال أداء واتس، تتكشف طبقات الضعف والقوة وشعور مُريب بالخذلان. يلتقط أداؤها جوهر شخصية عميقة متشابكة في قصة غريبة وجميلة على نحو مُرعب.
الصندوق في العمل رمز غامض وقوي، يجمع بين الغموض والرغبة والطابع السريالي. طوال الرواية، يحمل هذا الجسم البريء أهمية هائلة، يعمل بوصفه نقطة محورية حولها تدور أحداث الإثارة. ظهر الصندوق لأول مرة في بداية الفيلم، مختومًا على نحو مثير للاهتمام، ووُضع تحته إشارة مهمة وهي «لا تفتح». هذا التوجيه يثير الفضول على الفور، ويحدد الأجواء لرحلة الجمهور إلى أعماق متاهات عالم لينش السينمائي. يصبح سحر المجهول واضحًا، مستدعيًا المشاهدين إلى الغموض والأسرار الغامضة للقصة. ليس فقط الصندوق نفسه هو الذي يثير الاهتمام، بل هو التوقع الذي يثيره. الغموض الدائر حول محتوياته يعكس الثيمة الرئيسة للفيلم وهي الأسرار غير المحلولة والحقائق المخفية. مع تفاعل الشخصيات مع الصندوق أو مجرد اعترافهم بوجوده، يسود الفضول المخيف كل مشهد، مما يترك المُشاهد مثابرًا ومحيرًا في الوقت نفسه، وعلاوة على ذلك، يعمل الصندوق كوعاء مجازي، يجسد الأماني والطموحات غير المتاحة للشخصيات. يمثل الأحلام والنجاح في عالم هوليوود الذي يُبهر وفي الوقت نفسه يكون غير ملموس. يرمز إلى سعي الطموحات، وسعي الإنسان نحو المجهول، والعواقب الحتمية للبحث عن شيء خارج النطاق.
طوال الفيلم، تتطور أهمية الصندوق، تتراوح من داخل الرواية، وتحمل جوًا من الغموض الذي يغذّي الفضول. مع تقدم القصة، يصبح الصندوق نقطة محورية، يملك حياة خاصة تقريبًا، يدفع الشخصيات إلى استكشاف أسراره في حين يتجلى جوهر اللغز في الفيلم. علاوة على ذلك، يعمل الصندوق على شكل رمز للطابع السريالي والمتشظي للقصة نفسها. تمامًا كما أن السرد غير متسلسل وغير متناسق في «طريق مولهولاند»، يظل الصندوق كيانًا غامضًا، يتحدى الهياكل التقليدية للحكاية. يضيف وجوده طبقات من التعقيد والغموض للحبكة المعقدة بالفعل، يتركك في مواجهة الأهمية الغامضة له، يتجاوز شكله الفعلي، ليصبح رمزًا قويًا لعمق السمات الثيمية وتعقيد القصة. يمثل الشيء غير القابل للتحقيق، وغير المفهوم، وغير المكشوف، وسيلاً للجمهور للغوص في عوالم الرغبة والغموض وطبيعة الحقيقة التي لا تُكشف في المَشاهد السينمائية للينش.
اللقاء المرعب في مطعم «وينكي» بين شخصيتين تتحدثان عن كابوس يتضمن شخصية مخيفة خلف المطعم يُعتبر أيضًا من اللحظات الرمزية الحاسمة. يُعتبر مطعم «وينكي» موقعًا حيويًا، حيث يشارك شخصان في حديث مقلق حول شخصية مخيفة ظهرت خلف المطعم. عمل هذا الحوار المرعب بوصفه محفزًا يدمج تيارًا مظلمًا في السرد، مدعومًا إلى عالم حيث تتلاشى الحدود بين الحياة اليقظة والكوابيس المخيفة. يتداخل هذا المشهد مع وجود رجل شوارع غير مريح، تصرفاته مرعبة، مقابل الحديث المحمّل بالخوف.. يخلق أجواء من الترقب، ويلمح إلى أهمية نفسية أعمق تتردد خلال السرد. يتردد لقاء مطعم «وينكي» ووجود رجل الشوارع بوصفهما نَمَطَين رمزيين ضمن العمل، فهما يمثلان نموذجًا صغيرًا لاستكشاف الفيلم للواقعيات المتشققة والمخاوف الخفية بهدف التأمل في ثنائية الوجود وأعماق اللاواعي البشري.
تدور هذه الأحداث في بيئة مسرحية غريبة، حيث تنكشف الطريقة السردية كأداء سريالي، متشابك على نحو معقد مع عناصر مختلفة من سرد الفيلم. يتجسد استخدام لينش المتعمد للرموز والسرد المتشظي في مشهد المسرح، مما يترك المشاهدين مسحورين ولكنهم في الوقت نفسه مرتبكين بطبيعته الغامضة. عمل مشهد المسرح بوصفه نقطةً تتلاقى فيها الحدود بين الشخصيات والهويات والواقعيات، كما عمل بوصفه نموذجًا مصغرًا للسرد الغامض في الفيلم، فهو يقدم مزيجًا من المشاعر ويعرض تلازمًا غير مريح بين الجمال والرعب الذي يتخلل جميع أنحاء العمل. تتحول الشخصيات، تنقلب الهويات، والسرد يأخذ منعطفات غير متوقعة، وهو تحدٍّ آخر لتصور ما هو حقيقي وما هو حلم. في هذا المشهد، يمزج لينش بمهارة الموضوعات والرموز الرئيسة الموجودة في جميع أنحاء الفيلم. يتّحد الصندوق الأزرق الغامض، والهويات المتشظية، والتباين الملتبس بين الواعي واللاواعي في هذا الأداء المسرحي السريالي. علاوة على ذلك، يلخص مشهد المسرح موضوع الفيلم السائد حول الطبيعة الوهمية لهوليوود والتيارات الأكثر ظلامًا. يكشف الواجهة الساحرة، كاشفًا معها الواقع المشوه والأحلام المحطمة أسفله.
في قلب العمل يكمن مفهوم الثنائية، حيث يبدو أن الشخصيات تمتلك شخصيات متعددة أو صور مرآة، تعكس هذه الشبيهات المتكررة استكشاف الفيلم للهويات المتشققة، داعية للتمييز بين ما هو حقيقي وما هو انعكاس مشوه للواقع. شخصية ناعومي واتس، على وجه الخصوص، تجسد هذا الموضوع حيث تتنقل شخصيتها من خلال مجموعة متنوعة من الهويات، وهو ما يمحو الحدود بين الأحلام والواقع. أداؤها المتعدد الأوجه يدعو للشك في صدق شخصياتها المختلفة، وتلك رحلة أخرى متشعبة من التفسير والتأمل. استخدام لينش المتعمد للشبيهات يدعو للتأمل في الطبقات المعقدة للهوية والتعقيدات الجوهرية في النفس البشرية. طبيعة العمل المبهمة تسمح بتفسيرات متنوعة، وهو ما يطرح المناقشات حول طبيعة الوجود، والعقل اللاواعي، والحدود الملتبسة بين الذات الواعية والرغبات الخفية.
ومع كل ذلك، يدعو «طريق مولهولاند» مَن يشاهده لمواجهة الفكرة المرعبة بأن الهويات يمكن أن تتشقق، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى رحلة غير مريحة إلى زوايا أكثر ظلامًا في النفس البشرية. استكشاف الفيلم لهذا الموضوع يتداخل بسلاسة مع سرده الأوسع، مدعومًا بالانعكاس في طبيعة الهوية والأوهام التي نبنيها حول أنفسنا.
في الختام، يقف العمل بوصفه استكشافًا مثيرًا للوجود والجوانب المعقدة للهوية. استخدام لينش المتعمد لهذه الموضوعات يدفع الفيلم إلى ما وراء السرد التقليدي، وهو أحد أفضل أفلام ديفيد لينش التي ناقشت الهوية البشرية وطبيعة الواقع الفاني، وهو بكل تأكيد نجح في ترك بصمة لا تُمحى في المشهد السينمائي.