«إذا قتلت صرصورًا فأنت بطل،
وإذا قتلت فراشة فأنت شرير،
الأخلاق لها معايير جمالية».
نيتشه
في فيلم «أوغاد مجهولون» للمخرج كوينتن تارانتينو مشهد متطابق مع فلسفة نيتشه أعلاه، إذ يشرح الكولونيل هانز، الذي قام بدوره الأوسكاري كريستوف فالتز، فكرة الكراهية البغيضة تجاه الجرذان -والتي يشبهها في اليهود- التي قد تجلب الأمراض والطاعون، وعدم التسامح معها رغم أنها تُصنّف قوارضَ تتشابه مع السناجب التي نستلطف وجودها، دون أن يُنزّه نفسه من الكراهية غير المبررة تجاه الجرذان، شارحًا الكراهية بأنها مخزون ثقافي وعرقي وعقائدي يحضر حين تحضر الظروف المهددة للإرث الذي تَنَعَّمَ به صاحب الصدفة البيولوجية!
ولعل هذا الوعي في الكولونيل هانز يدركه المحرضون بالمقام الأول من أصحاب السلطة فقط، مَن لديهم أهداف مستقبلية تفوق فكرة الكراهية التي تعمدوا زرعها في الأكثرية من المواطنين بغرض توجيه الغضب وتصويبه نحو وجهة معينة تمت حوسلتها بعدما تشكلت الأقلية كقالب تنسكب فيه الدوافع المجنونة التي يتمتع بها المتأثرون في مغالاتهم الوطنية. وذلك بعد رصد قضايا ومواقف فردية تم تعميمها، على أنها نتاج تخطيط وليس سوء حظ.
وهذا الامتداد المتطرف والتفكير الهتلري التحريضي، يمتاز بالمرونة والليونة التي تتنقل زمنيًا وتسقط على كل مجتمع يمتلك ضمن نسيجه مجموعة إثنية مرشحة لِأن تتفوق عن غيرها، كأقلية طموحة يعتقد بأنها تنخر المواطنة من القاع. وهذا ما حصل تمامًا في فيلم «التاريخ الأمريكي إكس» الصادر عام 1998م للمخرج توني كاي، كما لو كان هناك عالمان موازيان تُقدَّم فيهما الأحداث بصورة متشابهة، فالفيلم كان يتحدث عن مقالة لمراهق يتناول فيها سيرة أخيه الشاب العنصري النازي ديريك فينيارد الذي قام بدوره الممثل إدوارد نورتن. منذ وفاة والده مقتولًا وهو يؤدي واجبه إطفائيًا على يد تاجر مخدرات أسود، وصولًا إلى تجنيده خطيبًا متفوّهًا يحرّض على الكراهية تجاه كل مغاير عن الرجل الأبيض انتقامًا لما حصل لوالده، حتى سجنه بعدما قام بقتل رجل أسود حاول سرقة سيارته بصورة عنيفة.
في أحد مشاهد المراهقة من حياة ديريك قبل أن يصبح نازيًا، كان يعبّر عن إعجابه في معلمه الأسود سويزي الحائز على شهادتي دكتوراه ويتحدث عنه بصورة المأخوذ بالأفكار التي كان يمررها له، على طاولة الغداء العائلي، بما فيها حديثه عن رواية الأمريكي ريتشارد رايت «الابن الأصلي» التي كان يتحدث فيها عن الرجل الأسود، ليرد الأب قائلًا:
«الأمر في كل مكان، قضية التمييز الإيجابي للسود، عليك أن تشكك في هذه الأشياء يا ديريك، تنظر إلى الصورة الكاملة، ولا أتحدث عن كتاب هنا بل حتى عن وظيفتي. لدي رجلان أسودان بفريقي الآن حصلا على عملهما بدلًا عن رجلين أبيضين، والذي يصدف بأنهما حصلا على علامات أعلى بالاختبار، هل هذا منطقي؟ بالطبع هي المساواة ولكن لدي رجلان مسؤولان عن حياتي ليسا بجودة الآخرين.. حصلا على الوظيفة لكونهما أسودان فقط».
وهذا المشهد مطابق مع ما وضحه هتلر في كتابه «كفاحي» عندما تحدث عن بداية شبابه، حيث كان يعتبر يهود بلاده مواطنين ولا يقيم كبير الوزن لاختلاف دينهم وعاداتهم، بل وأنه عندما كان في لانز، وبّخ أحد أصدقائه لأنه أهان تلميذًا يهوديًا لأنه يهودي. وظلت هذه النظرة في هتلر حتى انتقل إلى فيينا فشهد على حملات الصحف المنادية للسامية كتعصب أعمى ولاحظ أن الصحف المهاجمة لليهود ضعيفة الرواج، وهذا تمامًا ما قصده والد ديريك في انتشار وشيوع أدب السود على الأدبيات الأخرى التي ابتدعها البيض. وهذا لون من ألوان الاستدعاء التاريخي التأويلي الذي يحضر كشماعة بعدما فشلت المجتمعات في إرساء دعائم العدل الشامل فيها.
حتى النماذج الإحصائية والمواقف المرصودة التي أثارها هتلر في كتاب «كفاحي» ذُكرت بشكلٍ وآخر على لسان ديريك حين تحدث في إحدى نقاشاته الراديكالية عن أعمال شغب شيكاغو عام 1968م، حيث كان يوضح عن مدى الانتهازية والاستغلالية التي حصلت في مجتمع السود بحجة التفاوت الطبقي، من سرقة ونهب، فلم يجد مبررًا لإحصائية دخول 1 من كل 3 ذكور بمرحلة النظام الإصلاحي قائلاً: «وكأن هناك التزامًا تجاه الجريمة، بل ويفخرون بها»، موضحًا بعدها أن ما حصل في قضية رودني كينغ كانت تحريفًا وتأجيجًا إعلاميًا كان هدفه التركيز على أفراد الشرطة متغاضين عن رجل يمتلك سوابق كثيرة باعترافه، وهذا يتشابه أيضًا مع مدى تأثير اليهود في توجيه الرأي العام، عندما كانوا محررين لصحف كبرى، حيث كانوا يهاجمون غليوم الثاني ويرفعون من قدر آل هابسبورغ ويكيلون المديح لفرنسا تزلفًا في وصفها «الأمة المتمدنة».
وهكذا ينبثق وحش الهوية الانتمائية والذي سيجابه وحشًا آخر يُصنف مواطنًا أقلويًا مسحوقًا لا يمتلك شيئًا ليخسره. وهذا التقاذف المميت ما زال يتنقل كعدوى حتى يومنا هذا، حيث تم التبليغ في عام 2020م عن 8263 حادثة جنائية و 11129 جريمة تتعلق بالميول الجنسية والعرق والجندرية والمعتقدات الدينية والإعاقة، ولعل التنمر والجريمة حيال الإعاقة التي نتعاطف معها تصبح عرضة تكهن وتأويل فيه من الظن كثير، فكما ورد في كتاب «الخوض في روح فارس الظلام» ذكر المؤلف: «نحن نعتقد بشكل طبيعي بأن ما يجعل شخصًا فاضلًا هو ما يفكر فيه لا ما يفعله أو يميل لفعله، فعلى سبيل المثال نحن نعتقد بأن فتاة مشلولة ما بامكانها أن تكون فاضلة أو شريرة حتى لو لم تكن لديها القدرة على التأثير على الآخرين بأفعالها».
وعلى ذكر هذا المنزلق المعني بسوء الظن الذي لا يسلم منه مجتمعيًا حتى مَن صوّر نفسه حياديًا لا في العير ولا في النفير، يحضر الفيلم الفرنسي «كراهية» الصادر عام 1995م للمخرج ماتيو كازافيتش، لتنتقل بنا السينما نحو صورة مغايرة نفهم من خلالها ما تخوضه الأقلية وما تقاومه من عنصرية في المجتمع الباريسي المتشرذم بالمفهوم الكوزموبوليتي الزائف. تتمحور قصة الفيلم حول 24 ساعة من حياة ثلاثة أصدقاء، الأول مهاجر مغربي اسمه سعيد، والثاني يُدعى فينز، فرنسي من أصول يهودية يتسم بشيء من الغباء والطباع الحادة حيث لا يكف عن محاولة الانتقام لصديقهم الرابع «أبديل» الذي هوجم من قِبَل الشرطة، والثالث الأكثر تعقلًا وتشاؤمية بالوقت نفسه يُدعى أوبير، وهو شاب إفريقي مهاجر طَموح معيل لعائلته، لا يكف عن ترديد قصة يكاد لها أن تفشي ما يعتلج بداخله من توجس حيال القادم على أصدقائه. يقول: «هل سمعتم بالرجل الذي سقط من أعلى ناطحة سحاب؟ في طريقه للأسفل عندما كان يجتاز كل طابق ظل يردد مطمئنًا نفسه: "الأمر على ما يرام حتى الآن"»، وكأن الرجل صورة عن مجتمع ينهار، وفي طريقه للسقوط يظل يردد لنفسه: الأمر على ما يرام حتى الآن.. الأمر على ما يرام حتى الآن!
يعيش الثلاثة في إحدى ضواحي باريس الفقيرة، أو كما يسمونها المناطق المعزولة التي يعيش فيها المرء «شبه المعدم» طوعًا أو كرًها: «غيتو»، محاطين بالنظرات التمييزية من قِبَل الشرطة ووسائل الإعلام والأفراد في المجتمع، حيث تظهر باريس كبقعة تلفظهم، كلما ولوا وجوههم لمكان، لينتهي بهم الحال بعد كثير من التسكع في أيادي الشرطة الفاسدة المتهورة، ليموت فينز اليهودي بصورة خاطئة، لتنبثق شخصية أوبير اضطرارًا بعد محاولة مستميتة للتماهي مع المجتمع الرافض له، لينتقم لصديقه اليهودي، وهذا يذكرني بأمين معلوف حين قال: «ينزع المرء إلى التماهي مع أكثر انتماءاته تعرضًا للتجريح، وحين لا يقوى على الدفاع عن نفسه أحيانًا، يخفي هذا الانتماء الذي يبقى متواريًا في أعماقه، قابعًا في الظل، ينتظر ساعة الانتقام.. وذلك المفهوم الذي يختصر الهوية في انتماء واحد يحصر البشر في موقف متحيز ومتعصب ومتشدد ومهيمن، غالبًا ما يحولهم إلى قَتَلة وأتباع قتلة، فتتشوه رؤيتهم إلى العالم وتنحرف».
وهكذا تحضر الكراهية بصورة تراشق بين الأقلية والأكثرية حاصدة للأرواح، كاختلال للمنظومة الطبقية بسبب انحراف العدل عن مساره، رغم أن ما يجمع الأطراف المتخاصمة أكثر بكثير مما يجمعهم مع تاريخهم وموروثهم الذي حضر محملًا بكراهية إما أن تكون مصدرة أو مستوردة، كسلعة يتم تداولها عبر التاريخ للأبد.