«تار»: السيرة الخيالية لشخصية حقيقية جدًا

January 11, 2023

يعود المخرج الأمريكي «تود فيلد» بعد ما يقارب ستة عشر عامًا بفيلمه الجديد «تار»، والذي اكتسب مكانةً واسعةً في المهرجانات السينمائية لهذا العام، وما زال مرشحًا لحجز المزيد من المقاعد في القادم منها، خاصةً مع الاهتمام الواسع الذي حظيت به «كيت بلانشيت» لأدائها واحدًا من أكثر أدوارها حساسيةً وأهميةً. يملك «تود فيلد» في حصيلته الإخراجية فيلمين اثنين فقط، فيلمه الأول هو دراما عائلية وتحمل ثيمة انتقامية هو فيلم «في غرفة النوم» 2001، أما فيلمه الآخر والذي قامت ببطولته الممثلة الكبيرة كيت وينسلت وهو فيلم «أطفال صغار» لعام 2006، ليتبعهما فيلد بفيلمه «تار» والذي يكتبه ويخرجه ببراعة ورصانة غير مسبوقة في فلميه السابقين. 

يتتبع الفيلم حياة «ليديا تار» وهي قائدة أوركسترا بارعة، تتكشف لنا براعتها مع أول الفيلم عندما تستعد لمقابلة مجلة النيويورك تايمز على خشبة المسرح، يحاورها الكاتب «آدم غوبنيك» وهو كاتب فعلاً في صحيفة التايمز، حيث يأتي هنا ليؤدي دور نفسه، ما يعطينا خيطًا مهمًا لتتبع البكرة التي ينسج منها تود فيلد فيلمه هذا، فهو يريد أن يصبغ الفيلم بصبغة شديدة الواقعية، ويريدنا أن نتلمس وهج النجومية الذي تعيشه «ليديا تار»، فنحن لا نتتبع صعودها؛ بل ما نتتبعه هو العكس. ليديا تعتبر من أكثر قائدات الأوركسترا شهرةً في عصرها، فقد قادت عددًا من الأوركسترات الشهيرة في مدن كبيرة، كما أنها حائزة على الـ(إي، جي، أو، تي) وهي اختصار للجوائز الأربع الكبرى: (إيمي، جرامي، أوسكار، توني) ما يوحي لنا بشهرتها ونجوميتها العالية، ويبدأ غوبنيك في استعراض أهم إنجازات ليديا ثم يلقي عليها الأسئلة تباعًا، لتتضح لنا براعتها الكلامية وقوتها في التعبير، وهي على وشك تسجيل السيمفونية الخامسة للمؤلف النمساوي غوستاف مالر، متحدثةً عن فهمها الخاص للسيمفونية، ومسهبةً الحديث عن دور قائد الأوركسترا في تنظيم الوقت، ودفعه للتقدم أو التأخر، كما دورها كامرأة في قيادة الأوركسترا. 

تُنسج هذه الدراما بحذرٍ شديد؛حيث تريد منا أن نتأمل في هذه الدراسة المتأنية التي تطرحها مُمثلةً في شخصية ليديا، والتي نراها في جميع مشاهد الفيلم دون انقطاع، فهي شخصية عصرية، ناجحة، وقيادية، تعرف مسارها جيدًا، وتبدو كل خطواتها مدروسة، ولكن ما إن يخرج سر من الماضي حتى تتوالى أحداث سقوطها، حيث تعود لها «كريستا» وهي شخصية لا تظهر حقًا في الفيلم سوى على هيئة مراسلات وتهديدات إلكترونية تلحق ليديا وتصلها عن طريق مساعدتها شديدة الإخلاص «فرانشيسكا»، والتي تُظهر اهتمامًا وحقدًا مكتومًا على سيدتها بسبب تجاهلها المتعمد لكريستا. إن ليديا شخصية قيادية ودقيقة للغاية، تظهر لنا شخصيتها عن مدى توغلها في الدور القيادي ليس على مستواها العملي فحسب؛ بل حتى على صعيد المهنة كاملةً، فهي تريد أن تعمّق من شأنها إلى درجة السيطرة على تدريب النساء الأخريات اللواتي قد يمتهن ذات المهنة، دون أن تظهر تنافسية حاقدة، يدلنا هذا على مشهد الغداء مع صديقها «إليوت كابلان» الذي شارك معها في إنشاء مؤسسة لتدريب قائدات الأوركسترا، وتخبره أن يسمح بتسجيل كلا الجنسين بعد أن كانت المؤسسة تدرب النساء فقط، قائلة: «لقد أوضحنا وجهة نظرنا».

هناك -في رأيي- مشهدان يظهران الجانب الفكري والسلطوي عند ليديا، كما تنطلق منها كتابة الفيلم الذكية والمتوترة، وأولهما مشهد ليديا في قاعة دراسية حيث تدخل في نقاشات فنية عن الموسيقى مع طلبتها، ثم يتدرج المشهد نحو استفزازية عالية عندما يخبرها طالبها أنه لا يحب المؤلف الموسيقي باخ بصفته معاديًا للنساء، ويذهب هذا التصريح إلى جدلية فصل الفنان عن فنه، حيث تدافع ليديا عن باخ الذي ترك إرثًا موسيقيًا لا يمكن مقارنته بإساءاته للنساء، ليديا تعامل الفن بعملية واستقلالية، في حين تترك لنا كتابة الفيلم الحكم الأخير من خلال رسمه لنا حياة ليديا تار العاطفية، والعملية، والعائلية، في مقابل إظهار تمكنها من عملها الفني ليتخذ كل متفرج قراره في تلك المسألة. أما المشهد الثاني فهو المشهد الذي تخبر ليديا عازفي الأوركسترا قرارها باختيار عازف رئيسي للأوركسترا، وهي متخذةً قرارها مسبقًا تحت تأثير إعجابها بعازفة التشيلو الروسية «أولغا»، ولكن تصر على إجراء اختبار للأداء مخفيةً بذلك ميلها العاطفيّ، ومتلاعبةً ببقية الأعضاء حيث تمرر تلك الإجراءات بحزم، هي تدرك أنها تُمثّل ذلك الدور الديمقراطي في اختيار العازف الرئيسي؛ لكنها لا تمانع خداعها ذاك بما لها من سلطة وتحكم. ولأن الفيلم يسير في وتيرة درامية واحدة تقريبًا، فإن أغلب المشاهد في الفيلم تؤكد على هذين المشهدين وتستدلّ بهما وعليهما. 

نستطيع القول بأنّ الثيمة السلطوية في تار هي المحور الذي تتحرك في محيطه كل الأحداث؛ بل إننا نراها مدسوسةً بدهاء حتى في الملصق الرسميّ له، فهو يصور بمبالغة ليديا كقائدة أوركسترا تصويرًا غير معتاد لهذا النوع من الصور بل على العكس فهي عادةً ما تتسم بالهدوء، وتظهر فيه ممسكةً بعصا المايسترو بيد فيما ترفع قبضتها المفتوحة باليد الأخرى، بطريقةٍ تذكرنا بالشخصيات الشريرة في الرسوم المتحركة، إنها إشارة أخرى تريد أن تُفهمنا رؤية ليديا لعملها، والقبضة التي لا تريد أن تفلتها لإدارة كل ما يتعلق به. يجعلنا تار نتأمل بالشكل الحديث للسلطة، وهو بالطريقة العصرية التي صُوّر لنا بها يريدنا أن نستبدل ليديا في أذهاننا بأي شخصية قد تكون في مكانها، تلك السلطة التي نمنحها لأحدهم تحت تأثير النجومية والمبالغة الإعلامية لمنجزاته، وإلى أي مدى يعد سقوط النجومية سهلاً كما الصعود إليها أحيانًا. إن تار فيلم غني فنيًا، بتصويره وأداءاته الواقعية وكتابته الدقيقة والمحبوكة بإخلاص، فضلاً عن موضوعاته الزاخرة، من الفنون والنجومية وتأثيرها وتلاشيها، والسلطة وما تمنحها وتسلبها من الآخرين، وكلها طُرحت بحرفيّة عالية تجعلنا في تأهبٍ لما قد تسير عليه الأحداث، وتشعرنا بخطرٍ على وشك أن يحدث. وليس مستغربًا بعد ذلك ما احتلّه من مكانة عالية تجعله حتمًا على رأس أفضل أفلام هذا العام.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى