«تانغو الشيطان»: الأدب مصورًا

مقدِّمةٌ لا بدَّ منها:

«الحرب والسلم»، «الإخوة كارامازوف»، «يوليسيس»، «المسخ»، و«دون كيخوته»... قد يكونُ العامل المشترك بين أهمِّ أعمالِ الأدب العالميِّ هو افتقارها إلى اقتباسٍ سينمائيٍّ بعظمة الأصل الروائي. نميلُ لاشعوريًا إلى التعامل مع الفيلم كبديلٍ مصوَّرٍ للرواية، فكلا الوسطين يقدِّمان قصصًا طويلةً وأكثر تعقيدًا من أيِّ وسطٍ فنيٍّ آخر، لكن يكادُ يكون هذا هو التشابه الوحيد. إنَّ الفروقات بين الفيلم والرواية فروقاتٌ جوهريَّةٌ في أدوات حكاية القصَّة. في العمل الإبداعي، لا تهمُّ الأحداث في قصَّةٍ معيَّنةٍ بقدرِ ما يهمُّ الأسلوب الذي حُكيَت به. ولأنَّ الأدوات الفنيَّة تختلف في حكاية القصَّة الواحدة، نجدُ أنَّ أفضل ما يقدِّمه كلُّ وسطٍ فنيٍّ غير قابلٍ للنقل إلى أوساطٍ أخرى، لأنَّ قمَّة كلِّ وسطٍ فنيٍّ تتجلى في التطويع الأفضل لأدوات هذا الوسط، وفي إيجاد لغةٍ جديدةٍ داخله. 

لا يوجد اقتباسٌ سينمائيٌّ يمكنه نقلُ مشاعر آندريه في «الحرب والسلم» وهو ملقى في أرض المعركة مفكِّرًا في عبثيَّتها، أو في صراعات إيفان كارامازوف الداخليَّة لفهم الدين والعالم، فلِوَصف غرفةٍ داخليَّةٍ باستفاضةٍ تحتاج روايةٌ إلى صفحتين كاملتين أحيانًا، في حين يمكن تصويرها في مشهدٍ فيلمي طوله ثانيتين. هذا الاختلاف في طريقة إيصال المحتوى يؤدِّي إلى تولُّد مشاعرَ مختلفةٍ لدى المتلقي. بينما تولي الرواية اهتمامًا خاصًا بالوصف، يميلُ الفيلم إلى التركيز على الحدث معتمدًا على التأثير اللحظي للصورة في توليد المشهد. ماذا ينشأ عن هذا الاختلاف؟ تمنحُ المساحة الواسعة للوصف الرواية هامشًا أكبر من الحريَّة في تناول تفاصيل محوريَّة في شخصيَّاتها بالمقارنة مع الفيلم.

لماذا هذه المقدِّمة الطويلة عن الفيلم والرواية قبل الحديث عن الفيلم الذي أتناوله هنا، أي «تانغو الشيطان» (Sátántangó - 1994)؟ لأنَّ هذا الفيلم هو النموذج المثالي لفيلمٍ يُقدَّم بأسلوب روائي، لذلك أجده أكثر فيلم مقتبَس من رواية كمالًا على الإطلاق. لا يُعتبرُ نجاح الفيلم في نقل الرواية مستغربًا، ذلك لسببين: أوَّلهما مساهمة لاسلو كراسناهوركاي مؤلف الرواية في كتابة نص الفيلم (هذا يذكرني بالتعاون الناجح بين كوبو آبي وهيروشي تيشيغاهارا في «امرأة في الرمال» (Woman in the Dunes - 1964) و«وجه الآخر» (The Face of Another - 1966))، وتعاوَنَ لاسلو أيضًا مع بيلا تار في اقتباس روايات أخرى له كما في كتابة نصوص أصلية كـ«حصان تورينو» (The Turin Horse - 2011)؛ وثانيهما هو مناسبة أسلوب بيلا تار للاقتباسات الأدبية، بمَشاهده الطويلة التي تتمرَّد على التقليد الدارج في السينما والذي يقوم على تقديم المحتوى السريع القابل للاستهلاك من أوساط أكبر. 

عن الأسلوب:

يحتوي الفيلم الذي يبلغ طوله ثماني ساعات على 156 مشهدًا فقط، ومتوسط طول اللقطة الواحدة هو ثلاث دقائق، في حين يبلغ متوسط طول اللقطة الواحدة في أفلام هوليوود ثلاث ثوانٍ فقط، أي أنَّ كلَّ لقطةٍ في الفيلم هي أطولُ بستِّين مرَّةٍ من اللقطات المعتادة في الأفلام1، بالإضافة إلى تناسبِ هذا الأسلوب مع نقل روح الرواية في تصوير الشخصيَّات والتفاصيل الحياتيَّة، فهو أيضًا يتلاءم مع طبيعة الشخصيَّات، حيثُ يصوِّرُ الفيلم مجموعةً من الشخصيَّات القرويَّة العالقة في منطقةٍ معزولةٍ عن الحضارة وخارج عجلة الزمن. في السينما التقليدية توجدُ تقنيَّاتٌ مختلفةٌ للتجسيد البصري للتفاصيل المتعلِّقة بشخصيَّات الفيلم (إمَّا عن طريق المونتاج وإضافة لقطاتٍ مكبَّرةٍ سريعة، أو باستعمال زوايا تصويرٍ معينة). في «تانغو الشيطان» (وفي أعمال بيلا تار الأخرى) تقدَّم هذه التفاصيل بصريًا بتنويعاتٍ مختلفة، لكنَّها دائمًا ما تتَّبع نمطًا واحدًا: تطوُّرٌ بطيءٌ لمنظرٍ بصريٍّ يجسِّدُ القصَّةَ كاملةً بلا كلمات، فعادةً ما تنطلقُ الكاميرا من نقطةٍ معيَّنةٍ حيث تركِّزُ على شخصيَّةٍ أو موضوع، ثمَّ تتحرَّك بشكلٍ بطيءٍ داخل المساحة الخاصَّة بالشخصيَّات كي تجسِّد للمُشاهد اللوحة الكاملة لعالمها. يعاملُ بيلا تار  الكاميرا في أفلامه كفرشاة، بالمعنى الحرفي للكلمة.

وهكذا، في كلِّ مشهدٍ من المشاهد الطويلة في الفيلم، يُرسَم كلُّ تفصيلٍ يجسِّدُ نفسيَّة وتاريخ كلِّ شخصيَّة، وتاريخ المكان بالأخص، لكن ليس هذا وحده ما يجعل الفيلم مميزًا، إذ تعمل اللوحات المتفرِّقة (التي تتمثَّل في مشاهد طويلة للغاية) كقطعٍ صغيرةٍ في فسيفساء الفيلم. تصوِّرُ كثيرٌ من المَشاهد وجهةَ نظر إحدى شخصيَّات الفيلم (أو مراقب خارجي)، وفي أجزاء مختلفة من الفيلم نرى عودة إلى تصوير الحدث نفسه من وجهةِ نظرٍ شخصيَّةٍ أخرى. يلعب الفيلم كثيرًا على وتر التنويعات في وجهات النظر في كلِّ مشهد. في أحيانٍ معيَّنةٍ نجدُ تغييراتٍ صغيرةٍ في كيفيَّة تصوير المشهد (وحتى في الحوارات داخله) عندما يتمُّ تصويره من أكثر من وجهة نظر. في أحد المشاهد يغادر القرويون القرية تاركين خلفهم صاحب الحانة الذي يصرخ تجاههم مطلقًا شتيمة. عندما تصوَّرُ نفس اللقطة لاحقًا في الفيلم من وجهة نظر صاحب الحانة وهو يشاهد القرويين يرحلون، يتغيَّر النص حيث تتكرَّر الشتيمة مراتٍ عديدةٍ ويستمرُ المشهد لفترةٍ أطول. إنَّ وَقعَ الموقف أشدُّ مرارةً على المتروك مقارنة بالراحلين.

أحد الفصول الأجمل في الفيلم هو الفصل الذي يصوِّرُ شخصيَّة طبيب القرية، والذي يبدو خاليًا من الأحداث لكنَّه واحدٌ من أهمِّ التجليات الأسلوبيَّة في الفيلم. يبدأ هذا الفصل بلقطةٍ طويلةٍ تُصوَّر من منظارٍ مكبِّرٍ حيث نشاهد ما يحدث في المنزل المقابل (بعد عرض تفاصيل الأحداث من وجهة نظر شخصيَّات المنزل في الفصل السابق) ثمَّ تنتقل العدسة المكبِّرة لتفحصَ كلَّ تفصيلٍ في القرية. هذه اللقطة الاستهلاليَّة تصوِّر العالم كما تراه الشخصيَّة التي سيتناولها الفصل وهوسها المرضي بالمراقبة والإحاطة بكلِّ تفاصيل المكان. تنتهي اللقطة بمشهدٍ مُقرَّب على وجه الطبيب. يُخرج دفاتره ويبدأ مهمَّته اليومية بتدوين تفاصيل تحرُّكات سكان القرية وتحليل نواياهم وأفكارهم. نكتشف لاحقًا أنَّ الطبيب يقضي فتراتٍ طويلةٍ تصل إلى الأسابيع دون أن يغادر منزله، مكتفيًا بمطالعة كتب الفلك والتاريخ وتدوين كلَّ تفصيلٍ يمكن أن يراه من نافذته. نجده أيضًا يُخرج دفترًا ويبدأ برسمِ المشهد الخارجي، المشهد الذي لا بدَّ أنَّه رآه لآلاف المرات في حياته. لا نعرف ما سرُّ هذا الهوس العبثي بتدوينِ كلِّ شيءٍ في مكان قد يكون الأكثر مللًا في العالم، ولكن أليست الحياة في «تانغو الشيطان» عبثيَّة بمجملها؟ يختتم الطبيب تدوينه ليوميات الشخصيَّات في المنزل المقابل بقوله: «هم سيموتون على أيِّ حال، وأنت أيضًا يا فوتاكي ستموت». لا عجب أن كثيرًا من النقاد يقارنون «تانغو الشيطان» بعمل صامويل بيكيت «في انتظار جودو»، فالشخصيات هنا عالقةٌ أيضًا في دوَّامتها الخاصة بانتظار قدوم شيءٍ قد يضفي على حياتهم معنىً ما.

في اللقطة المقربة لوجه الطبيب تنتقل الكاميرا على زوايا مكتبه، أعقاب السجائر المتراكمة وزجاجة الشراب التي يتناولها بِنَهَم. تنتقل الكاميرا ببطء إلى ما هو خلف الطبيب. نشاهده جالسًا أمام النافذة، في حين تنسحب الكاميرا أكثر إلى داخل المنزل لتنكشف التفاصيل شيئًا فشيئًا. ندخل إلى عالم الطبيب في حين تنتقل الكاميرا لرسم تفاصيل منزل إنسانٍ وحيد، مكتئبٍ ومهووس. ننتقل مع الطبيب وهو يغادر مكتبه بصعوبة، نسير معه عبر منزله المتداعي والقذر، يتوقَّف أمام أكوامٍ من الدفاتر المتراكمة ويُخرج دفترين منها، يقارن رسمه الحالي للمشهد برسوماته السابقة ثمَّ يعود للمراقبة والتدوين. في اللقطتين اللاحقتين نرى الكاميرا تصوِّر الشخصيَّة من اليسار أولًا ثم من اليمين، وذلك باتِّباع التقنيَّة نفسها (الحركة البطيئة والمستقيمة باتِّجاه الشخصيَّة أو بعيدًا عنها). عندما يسقط الطبيب على الأرض نتيجةً لاعتلال صحَّته (لأسباب واضحة!) تركِّز الكاميرا على وجهه وهو ملقىً على الأرض: تنتقل ببطءٍ بالحركة الأفقيَّة نفسها على طول جسدِ الطبيب من رأسه حتى قدميه، وبعد جولة مطوَّلة في منزل الطبيب تأخذنا الكاميرا إلى جولة في جسده. تعمل هذه اللقطات الأفقيَّة البطيئة على تقديم رؤيةٍ متمهِّلة وفاحصة للعالم، وتُروى قصَّةٌ كاملةٌ باستعمال الصور فحسب، بلا حواراتٍ ولا راوٍ لشرح التفاصيل للمُشاهد. تنتقل الكاميرا بين تفاصيلِ كلِّ حياةٍ ببطء وحذر؛ الكاميرا هنا هي فرشاة الرسَّام أو قلم الروائي الذي يرسم كلَّ جزءٍ ببطءٍ حتى تكتمل الصورة الكاملة. 

هذا الفصل هو نموذج للرؤية العامة في «تانغو الشيطان». لفهم شخصيَّة معيَّنة، يجب أن نراها من زوايا مختلفة حتى تكتمل الصورة، والحال نفسه عند مقاربة مجتمعٍ بأكمله. من خلال تصوير المشاهد من وجهات نظر مختلفةٍ نجدُ أنفسنا أمام عالمٍ مركَّب تتضافرُ جوانب كثيرةٌ لتشكيله، عالمٌ لا يمكن فهمه أو تبسيطه حتى في أكثر المجتمعات بدائيَّةً وانعزالًا (كالقرية التي يصوِّرها الفيلم). الظريف هو أنَّ الفيلم ينتهي بتقريرٍ حكوميٍّ مكتوبٍ على يد المسيح المنتظر في الفيلم -إرمياس- الذي ترقص الشخصيَّات على «تانغو الشيطان» في انتظار عودته إليهم وتخليصهم من ضياعهم. في تقريره، يكتب إرمياس تحليلًا لكل شخصيَّة من شخصيَّات القرية ومدى «فائدتها» للسلطة أو تهديدها لها. يُلاحظُ أنَّ التقرير مكتوبٌ بصيغةٍ أدبيَّةٍ وشاعريَّة، مما يثير ضحكَ ضبَّاط المخابرات الذين يشطبون كل كلمةٍ من التقرير «غير الاحترافي»، مكتفين بأوصافٍ مُقتضَبة: «شخصٌ أبله ذو عينين بليدتين». وهكذا فإنَّ الرؤية المركبة التي يقدِّمها الفيلم تَستبدل بها السلطةُ تقريرًا لا يتجاوز بضع كلماتٍ لتلخيص حياة كلِّ شخصية.

يمثِّلُ «تانغو الشيطان» هجاءً للسلطة الشيوعيَّة في المَجَر في النصف الثاني من القرن العشرين، لجاسوسيتها وللمستوى المادي والاجتماعي المتدني تحت حكمها، فالشخصيَّات المعزولة عن العالم الخارجي والعالقة في تكرارٍ رتيبٍ ودائرةٍ لا يمكن الخروج منها تمثِّل حالة بلدٍ بأكمله. لكنَّه أيضًا عملٌ يتجاوز ذلك بكثير: يمكنُ لكلِّ لقطةٍ في الفيلم أن تكون صورةً فوتوغرافيَّة، وكلُّ شخصيَّةٍ فيه تستحقُ اهتمامًا خاصًا. شاهدتُ الفيلم للمرة الأولى مراهِقًا وفتنني دون أن أعرف لماذا (حينها كتبتُ عنه مراجعة أتمنى أن تكون قد مُحيت من الإنترنت)، وأعدتُ مشاهدته بعدها بعشر سنوات فأذهلني. أليس هذا هو معيار عظمة الأعمال الفنيَّة؟ أن تترك أثرًا أعمق في كلِّ مرَّةٍ تعودُ إليها؟ 

الهوامش:

  1. ‘Orders of Time and Motion’ Bela Tarr’s Satantango https://youtu.be/oDHgnFSSiYE?si=YjGbWPJeG61jv20S

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى