«يوجد كونٌ في كلِّ فوضى، وفي كلِّ اضطرابٍ يكمنُ نظامٌ خفي». بهذه العبارة يضع كارل يونغ يده على جوهر التوتُّر الأبدي بين النظام والفوضى، مُلمِّحًا إلى أنَّ ما يبدو فوضويًّا على السطح قد يحملُ في طيَّاته هندسةً دقيقةً لا تُرى من النظرة الأولى. إنَّها رؤيةٌ تُربكُ يقيننا، وتجعلنا نعيد التفكير في الثوابت التي نبني عليها مفاهيمنا عن النظام.
بهذا المعنى، لا تكون الفوضى نقيضًا للنظام، بل انعكاسًا له حين يصلُ إلى لحظةِ الانكسار، وهي اللحظة التي وصفها أنطونيو غرامشي بحدَّةٍ حين قال: «الأزمة تكمن في أنَّ القديم يحتضر، بينما الجديد لم يولد بعد». هذه الفجوة الزمنيَّة التي فيها تتوقَّف عقارب التاريخ، وتتعطل أدوات الفهم التقليدي، هي التي تتيحُ للفوضى أن تطفو، لا كحالةٍ طارئة، بل كبنيةٍ تحتيَّةٍ تسبقُ كلَّ تحوُّل.
ضمن هذا الإطار، يمكن قراءة فيلم بيلا تار «تناغمات فيركمايستر» (Werckmeister Harmonies - 2000) كعدسةٍ فلسفيَّةٍ ترصدُ تلك اللحظة التي تصبح فيها الأنظمة البشريَّة، مهما بدا تماسكها، عاريةً أمام الريح. يتصارع النظام والفوضى داخل نسيجِ الواقع، لا كقوَّتين متنافرتين، بل كقطبين يتناوبان في دورة أبدية من التشكُّل والانهيار، بينما يتباطأ الزمن ويتلاشى حضور العالم الخارجي، كأنَّه يتوارى خلف ستارٍ من الضباب.
حين ينقلب النظام على ذاته: مَتاهة الفوضى الجماعية
يُصوِّر الفيلم بلدةً مجريَّةً صغيرةً متماسكةً ظاهريًا في إطارٍ من نظامٍ هش، تتآكل من الداخل بفعل توتُّراتٍ كامنةٍ تنتظر الانفجار. يتتبَّع الفيلم شخصيَّة يانوش (لارس رودولف)، وهو شابٌّ بسيطٌ يعملُ في توزيع الصحف ويحملُ نظرةً حالمةً للعالم تجعله أقرب إلى شاهدٍ على انهيارِ نظامٍ يجدُ نفسه عاجزًا عن تغييره. ومع وصول سيركٍ غامضٍ يحمل حوتًا محنَّطًا عملاقًا، وشخصيَّة تُدعى "الأمير"، تبدأ البلدة بالتحلُّل من الداخل، وتطفو على السطح العلاقة المعقَّدة بين الفرد والمجتمع في لحظات الأزمات.
تُفجِّر كلمات "الأمير"، التي تُبث عبر مكبِّر الصوت، الخوف المكبوت في صدور الجماهير. لا تستجيبُ الحشود لهذا الصوت بعقلانيَّة، بل بردَّة فعلٍ جماعيٍّ يفقد فيه الأفراد وعيهم الذاتي، فيذوبُ كلَّ فردٍ داخل جماعةٍ غاضبةٍ تتحرَّكُ بلا هدفٍ واضحٍ سوى الهدم. يُجسِّد هذا التحوُّل كيف تذيب الأزمات الحدود الفاصلة بين الفرد والجماعة، فتُجرِّد الإنسان من وعيه الذاتي، وتدفعه ليصبحَ أداةً مسيَّرة داخل تيَّارٍ انفعاليٍّ جماعيٍّ لا يفكِّر ولا يُحاسب.
على الضفة المقابلة، يقف "يانوش" ممثِّلًا للفرد العاجز، الذي يراقب الأحداث دون قدرةٍ على التأثير فيها. لا يذوبُ في الحشود ولكنَّه لا يستطيع الوقوف في وجهها. يظلُّ معزولًا، مشلولَ الإرادة، وكأنَّ الأزمة تُفقِده أدوات الفهم والتصرُّف معًا. هذا العجزُ لا ينبعُ من طبيعته الشخصيَّة فحسب، بل أيضًا من طبيعة الواقع المنفلِت من أيِّ منطقٍ مألوف.
العلمُ كاستعارةٍ مكسورة: جيورجي إستر ومأساة النظام العقلاني
تُشكّل شخصيَّة جيورجي إستر (بيتر فيتز) تجسيدًا معقَّدًا لصراع العقل أمام الفوضى، حيثُ يقف العالم العجوز في مواجهة مدينةٍ تنهار من الداخل. يجد إستر، الذي كرَّس حياته لنظريَّة تناغمات فيركمايستر، تلك المحاولة العقلانيَّة لتنظيم الكون الموسيقي عبر نِسَبٍ رياضيَّةٍ مثاليَّةٍ يجدُ نفسه في عالمٍ لا يخضع لأيِّ منطق، لا سياسيٍّ ولا موسيقي. في هذا السياق، لا يُستخدم العلم كمصدرٍ للحقيقة، بل كاستعارةٍ لانهيار المشروعِ الحداثي برمّته، إذ تتحوَّل النظريات التي سعت للانسجامِ إلى أدواتٍ عاجزةٍ أمام عبثيَّة الواقع.
لا يُدين بيلا تار النظريَّة ذاتها، بل يستحضرها بوصفها رمزًا لحلمِ العقل البشريِّ بتنظيم الكون، وهو حلمٌ يتهاوى أمامَ عنفِ الغوغاء وتحلُّل المعنى. يقف إستر في نهاية الفيلم أمام الحوت المتحلِّل، لا كعالِم، بل كإنسانٍ مُجَرَّدٍ من أدواته التحليليَّة، مشلولٍ أمام اللاشيء. هذا المشهد، بتكوينه الصامت، يُلخِّص مأساة المعرفة حين تفقد قدرتها على الفعل أو التأويل. ويوضح روبرت سينربرينك قائلًا: «تصبح النظريَّة الموسيقيَّة استعارةً لحلم العقلانيِّين بالنظام والانسجام. غير أن هذا الحلم يتحطَّم على صخرة الواقع الكاريكاتوري الذي يصوِّره الفيلم».
بهذا تتحوَّل تناغمات فيركمايستر من نظريَّةٍ موسيقيَّةٍ إلى نواةٍ رمزيَّةٍ في قلب الفيلم؛ إذ تصبحُ محاولة ترتيب الأصوات صدى لمحاولةٍ أوسع لترتيب العالم، وكلا المُحاولتَين تنهاران أمامَ عبثيَّةٍ لا يمكنُ إخضاعُها لأيِّ تناغم.
تُجسِّد هذه اللحظة ذروة التأمُّل العبثي، حيث يتحلَّل رمزُ القوة والفوضى (الحوت) إلى جسدٍ فارغ، ويُصبح إدراك العدم موقفًا لا يبعث على اليأس فقط، بل يفتح نافذة للتفكير: هل الفوضى هي نهاية كلِّ نظام؟ أم أن الاعتراف بالعدم هو بداية بناء معنى جديد؟ يطرح الفيلم هذا السؤال دون تقديمِ إجابة، تاركًا المشاهِد معلَّقًا بين العبث والاحتمال.
ما يميِّز الفيلم هو هذه الرؤية المزدوجة: يُظهِرُ عبثيَّة الوجود وعجز الإنسانِ عن السيطرة على مجريات الأحداث، لكنَّه في الوقت ذاته يُلمِّح إلى إمكان تجاوز هذا العبث عبر التأمُّل، وأيضًا عبر السعي الإنساني الدائم لفهمِ العالم، ولو على هامشه. لا تمنحنا الشخصيَّات حلولًا، لكنَّها تمنحنا مرآةً نرى فيها هشاشتنا، وضعفنا، وربَّما أيضًا قدرتنا على إعادة المعنى من بين أنقاضِ الممكن.
الزمن ككائنٍ حي: تأمُّلٌ سينمائيٌّ خارجَ السرد
يتجاوزُ أسلوب بيلا تار السينمائي كونه وسيلةً لسردِ الحكاية، إذ يتحوَّل إلى لغةٍ فلسفيَّةٍ قائمةٍ بذاتها، تُجسِّد موضوعات العزلة والعبث والتأمُّل في الوجود. يعتمد «تناغمات فيركمايستر» على إدارة الزمن كعنصرٍ بنيَوي، لا مجرَّد إطارٍ للسرد، حيث تهيمن اللقطات الطويلة على نَسَق الفيلم، مُجبِرةً المشاهد على التوقُّف والانخراط في تأمُّلٍ بطيء. لا يتعاملُ تار مع الزمن كحيِّزٍ خام، بل يُحيله إلى أداةٍ وجوديَّةٍ تكشفُ التوتُّر بين السكون والحركة، بين النظام والفوضى.
يُفتَتَح الفيلم بلقطةٍ تمتدُّ لأكثر من عشر دقائق، يُوظِّف فيها يانوش أجساد السكارى ليشرحَ حركات الكواكب في محاكاة عبثيَّة للنظام الكوني. تُصبح هذه اللحظة الطويلة تمرينًا تأمُّليًا يُقارن بين انسجام الكون المفترض وبين اضطراب الإنسان، فبينما تبدو الكواكب منضبطة في دورانها، تتمايل الأجساد البشريَّة بتثاقلٍ كأنَّها تعجز عن مجاراة فكرة النظام نفسه.
تتحرَّك الكاميرا عند بيلا تار ببطءٍ متعمَّد، لا لتُراقب، بل لتعيش مع الشخصيَّات. تُرافق اللقطة الشخص، تلتصق به دون قسوةٍ أو اقتحام، فتُشعر المشاهد بأنَّه يتحسَّس الزمن لا كإيقاعٍ روائي، بل ككتلةٍ محسوسة. في مشاهدٍ يتجوَّل فيها يانوش بين الشوارع الخالية، تُصبحُ البلدة ذاتها كائنًا حيًّا، كأنَّها شخصيَّةٌ تشارك أبطالها العزلة والتفسُّخ، وتُجسِّد حال المجتمع المنهار من الداخل.
تُقارب الموسيقى هذا الأسلوب في البطءِ والتكرار. لا تُقدَّم كمرافقةٍ دراميَّة، بل كعنصرٍ وجودي. تتكرَّر المقطوعات بشكلٍ دائريٍّ يُحاكي دوَّامة الحياة الرتيبة، حيث لا يَحدث شيءٌ فعليًّا، لكنَّ الشعور بالمرور يبقى حاضرًا. لا يُحرِّك التكرار الزمنَ إلى الأمام، بل يُعيد إنتاجه بلا أمل، كأنَّ البلدة تعيش في يومٍ واحدٍ ممتد، لا نهار له ولا نهاية.
يستخدم تار الصمت كما يستخدم الصوت، لا كفراغ، بل كأداة شحنٍ دراميٍّ وتأمُّلي. حين ينسحب الحوار، تظهر الأصواتُ الطبيعيَّة مثل الرياح، والخطوات وصرير الأبواب، كأنَّها أصوات العالم ذاته وهو ينهار ببطء. لا يملأ الصمتُ الشاشةَ بالفراغ، بل يثقله بالحضور، كما عبَّر تار ذات يومٍ حين قال: «الصمت في أفلامي نوعٌ من الموسيقى؛ إنَّه يمنحُ المشاهد فرصةً للتأمُّل، لا للاستهلاك».
يُعيدُ هذا التوظيف المتقن للزمن والصورة والموسيقى تعريف العلاقة بين المشاهدِ والفيلم. لا يعود الفيلم قصَّةً تُروى، بل تجربة تُعاش. المشاهد هنا لا يتلقَّى، بل يشاركُ في بناء المعنى، في تأمُّل المساحات، في ملاحقة الظلال، في التوقُّف عند تفصيلٍ قد يبدو عابرًا لكنَّه يُضيء ما هو أعمق. الزمن عند بيلا تار لا يركض، بل يتمدَّد ليُظهر ما يغيب عادةً في أفلامِ الإيقاع السريع: هشاشة الإنسان، عبثيَّة انتظاره، ومحدوديَّة سيطرته.
بهذا المعنى تصبح الكاميرا كائنًا مفكِّرًا، وليست مجرَّد عينٍ محايدةٍ، يمنحُ الشخصيات والمكان وقتًا كي تقول ما لا يُقال. تأخذُ الأشياء في اللقطات الثابتة أو المتحرِّكة ببطء حقها في الظهور: أبواب الصفيح، ثلوج الشوارع، وجوه المُتعبين، وجسد الحوت الميِّت. كلُّ شيءٍ يتحوَّل إلى شهادةٍ على عالمٍ يفقِدُ معناه لحظةً بلحظة، لكنَّه يظلُّ يحتفظُ بجماله الكئيب.
حين يولد المعنى من الحطام: خاتمة بلا أجوبة
لا يقف «تناغمات فيركمايستر» عند حدود الانهيار الاجتماعي في بلدة مجرية صغيرة، بل يتوغّل في قلب التجربة الإنسانية حين تنهار البُنى التي تمنح الحياة معناها الظاهري. لا يقدّم الفيلم حكاية بالمفهوم التقليدي، بل يعمل على تفكيك الزمن، وكسر الإيقاع، وبناء صمت ميتافيزيقي يُعيد ترتيب علاقتنا بالصورة والواقع. في هذا، يقترب من تراث سينمائي فلسفي عميق، كما في «الختم السابع» (The Seventh Seal - 1957) لإنغمار بيرغمان، حيث يُواجه الفارس الموت في عالم اجتاحه الطاعون والصمت الإلهي، وتتحول الرحلة إلى بحث عن يقين وسط خراب روحي شامل. كذلك، يُحاكي عمل أندريه تاركوفسكي في «المطارد» (Stalker - 1979) حين تتحوَّل "المنطقة" إلى مسرحٍ تنكشف فيه هشاشة الإنسان، ويظهر فيه القلقُ كقوَّةٍ دافعةٍ ومُفكَّكة. إلَّا أنَّ «تناغمات فيركمايستر» يذهب أبعد في التجريد، إذ لا يمنحنا أيَّ بنيةٍ روحيَّةٍ أو أملٍ بالخلاص، بل يرينا شخصيَّاتٍ تتخبَّط وسط واقعٍ لا يجيب، ولا يعترف حتى بأسئلتها، فيانوش وجيورجي لا يسألان عن سبب حدوث ذلك، بل يواجهان سؤالًا أعمق: ما الذي يجعل الإنسان يتمسَّك بالمعنى حين ينهار كلَّ ما يحيط به؟
في هذا السياق، يُجسِّد مشهد النهاية، حين يقف جيورجي وحده أمام الحوت المتحلِّل، لحظةَ انكشافٍ وجوديٍّ عميقة. لا يبدو الحوت جسدًا ميِّتًا فحسب، بل أثرٌ لنظامٍ فقد روحه، إشارةٌ إلى أنَّ ما كنَّا نهاب حضوره لم يكن يحمل في جوهره إلا الخواء. لا ينبع العبث من غياب المعنى فقط، بل من الصمتِ المطبق الذي يواجه به العالمُ حاجةَ الإنسان للتفسير. وفي لحظةٍ كهذه، لا تظهر الحقيقةُ كنتيجةٍ عقليَّة، بل كصدمة: تمرُّدٌ داخليٌّ على ما هو مألوف، وانكشافٌ لما ظلَّ مخفيًا تحت سطح الطمأنينة اليوميَّة. الحقيقة هنا لا تُكتشف، بل تُولَد من التصدُّع. وهنا تتردَّد مقولة هايدغر: «الكائن يظهر على حقيقته فقط عندما ينكسرُ النظام اليومي»، إذ لا يكشف الإنسان عن جوهره إلا حين تنهار البُنى التي كان يتَّكئ عليها.
هذا التصدُّع هو ما يمنحُ الفيلم بعدَه الفلسفي. ليست الفوضى فيه خللًا، بل نافذة. ليست الجماهير الغاضبة مجرَّد فاعلٍ مدمِّر، بل انعكاسٌ لحاجةٍ مكبوتةٍ إلى كسر صمت النظام. بذا تتحوَّل تجربة المشاهدة إلى مواجهةٍ شخصيَّةٍ لا تسعى إلى تفسير الفيلم بقدر ما تدفعنا للتأمُّل في علاقتنا نحن بالعالم، بالخوف وبالمعنى.
يتركنا «تناغمات فيركمايستر» أمام شاشةٍ لا تُغلَق على أجوبة، بل تفتح بابًا نحو تأمُّلٍ آخر: هل النظام خلاصٌ فعلًا؟ أم أنَّه مجرَّد ترتيبٍ مؤقَّتٍ يخفي خلفه رعبَ الانهيار القادم؟ وهل الفوضى نفيٌ لهذا النظام، أم طريقٌ إلى إعادة تشكيله من جديد؟ لا يدفعنا الفيلم إلى اليأس، بل إلى نوعٍ من الإدراك الصامت أنَّ طرح الأسئلة، وسط الخراب، هو آخر ما يبقينا بشرًا.