السينما كحرفة (نقش وكتابة صورية).
السينما نمطٌ من أنماط تفكير متعددة، مثل الفلسفة والعلم والدين. بل إننا أصبحنا نتحدث عن ما يُسمى «بالفيلمولوجيا» وهو مصطلح صاغه إيتيان سوريو، يتعلق بعلاقة السينما والفيلم بالفلسفة والتفكير بشكل عام.
إن الصورة فكر، وبقدر ما تكون الصورة فكرًا، فهي تُفكِّر. والسينما ليست مجرد عنصر مفكر قابل للتفكير فيه فحسب، بل هي استيطيقا جديدة، باعتبارها العنصر الجمالي المفكَّر فيه، والعنصر الذي يُفكِّر، والذي يحثنا على التفكير، وهنا مكمنُ قوة الصورة.
ومثلما لا يُعتبر كل نشاطٍ إنسانيٍ فكرًا، فإننا لا نعتبر كل إنتاجٍ سينمائيٍ سينما، لكن الاستثناءات دومًا موجودة، ونذكر من هذه الاستثناءات سينما المخرج ثيو أنجيلوبولوس. وسنأخذ فيلمه «تحديقة أوليس» (1995 - Ulysses' Gaze) أنموذجًا لهذا المقال. أنجيلوبولوس مخرجٌ تفكَّر في العديد من القضايا، مثل الحرب والحب والوقت والزمان.
عن ثيو كشاعر سينمائي:
«الفيلم يجب أن يكون قبل أي شيء آخر، حدثًا شعريًا وإلا فلن يكون له وجود» ثيو أنجيلوبولوس المخرج اليوناني المولود في أثينا «27 أبريل 1935,» شهِد الحرب العالمية وهو طفل، وتعرضت بلاده لهزات سياسية واقتصادية بفعل تدهور الأوضاع، اُعتقل والده وحكم عليه بالإعدام أثناء الاحتلال الألماني ـ لكنه تمكّن من الهرب بعد ذلك-. الكثير من ذكريات الطفولة هذه وغيرها ظهرت في أفلام ثيو بشكل متكرر والتي فضّل برؤيته الخاصة عرضها بشاعرية.كتب ثيو الشِعر أثناء دراسته للقانون بعدما تأثر بأكبر شُعراء اليونان مثل «جورج سيفيروس، وكونستانتين كافافي». حاز على الكثير من الجوائز كأفضل مخرج، وحازت أفلامه على جوائز عِدة في مهرجانات عالمية منها: مهرجان كان، مهرجان شيكاغو ومهرجان فينيسيا وغيرها.
يقول ثيو متحدثًا عن أفلامه: «أظن أن أفلامي هي عن الرحلات التي نقوم بها جميعًا في أي مكان في العالم. المشكلة هي كونية: افتقاد المكان، البيت، الوطن الخاص بنا».
نظرًا لخلفية حياته الصعبة وتنقله الدائم، كانت شخصياته تتسم بالأسلوب الذاتي، يشعر المُشاهد أن الأفلام تحكي قصصًا نفسية شخصية للمخرج نفسه. أبطاله أشبه بانعكاسٍ لذاته، وتنقل أفلامه صورًا درامية قريبة تمامًا من بعض جوانب حياته الشخصية.
نشهد في أفلامه غيابًا تامًا للنمط الكلاسيكي ونسق السرد التقليدي، بأسلوب فني يتجاهل ثيو بلا تردد استخدام لقطات القرب في اللحظات العاطفية، يميل بدلاً من ذلك إلى اللقطات البعيدة والطويلة، ويعتمد في مشاهد عِدة تكنيك اللقطة الواحدة التي قد تستغرق دقائق طويلة، ليُتيح الزمن للمُشاهد في تأمل وتكوين صور خاصة به فيما هي تتجلى تدريجيًا.
نجح ثيو بتصوير الإنسان والمجتمع، الحياة والموت، الحب والصداقة، الصدق العاطفي، النوستالجيا وحتى الأحداث السياسية والحروب من خلال أفلام رمزية غير تقليدية.
أعماله الفنية متكاملة، تشبه وقوفك على عتبة قلب المجتمع، على عتبة الحدث وعمقه، على عتبة ذاتك كإنسان! وكأن نافذة كبيرة فُتحت لك لتنظر إلى الداخل، وتتعلم حقيقية الحياة والإنسان وتتأمل معاني الموت والوطن.
لقطة أوليس و إيحائية إيثاكا:
ما الذي يمكن أن يكون أكثر رهبةً من الزمان؟ أكثر رعبًا ربما.. في سينما أنجيلوبولوس تتوالى السنين في رقصةٍ واحدةٍ.. في رقصةٍ واحدةٍ يمر العام (1945 ثم الـ 1948 فالـ 1950)، ولا يمكننا تحديد ما إذا كان هذا العودُ إلى الوراء حلمًا أو استرجاعًا للذكرى! لكننا هنا نسأل، أهناك حقًا فرق؟ بين التذكّر والحلم، بين التذكّر والتخيل وحتى بين التذكّر والنسيان. يحلم البطل ويتذكّر ويتخيل في شكل المنسي على هيئته الحالية ليس كطفلٍ وإنما كناضجٍ.. يسترجع البطل الماضي بما كسبه عبر السنين، في هذا التداخل الزمني قد يربكنا أنجيلوبولوس، وها هنا تحديدًا نلجأ إلى الاعتبار الهيدغيري عن الزمان.. الزمان سؤال الأسئلة واستشكال لا حل له.. يعتبر هيدغير أن الزمن ينقسم إلى زمان انشقاقي هو أصل كل الأزمنة، وزمان مشتق عن الزمن الأول الأصل، فيكون المستقبل أولاً، ثم الماضي. ذاك أنه لا حاضر ولا مقبل إلا بماضٍ، إذن أنجيلوبولوس يبرر حاضره بتلك اللقطة من الماضي، يؤسس حاضره على ماضٍ، وهكذا يبني فيلمه.. لكن لمَ هيئة الناضج في الماضي؟ ربما للتذكير أن ما قد مضى لا يمكن أن يكون إلا ماضيًا لا يحضر، وحده الحاضر يحضر ويصير، ليمضي..
البكرات الثلاث أساس القصة.. لوهلةٍ لا نعلمُ إن كان البطل هو من يبحث عن البكرات، عن الحقيقة، أم أن الحقيقة هي التي تبحث عن صاحبها.. البكرات الثلاث هي القصة، ثلاث بكرات ورحلة هي ما صنعت القصة.. ثلاث بكرات من الماضي صنعت رحلة، لكن ما الذي يعطي هذه القيمة للماضي؟ كيف يكون للقديم قيمةً وكيف تكون القيمة معنىً؟
في الرحلة حربٌ وقبلةٌ، في الرحلة قبلةٌ ورقصةٌ.. ولا إمكان للرقص إلا في الضباب كي لا تشتغل القناصة، ولكن القناصة دومًا ما تشتغل، تحت أي ظرف.
الفيلم رحلة، وكأن الرحلة بأكملها لا تزيد عن كونها حياة أحدهم..
لماذا اختار ثيو «لقطة أوليس, Ulysses' Gaze» اسما للفيلم؟
ثلاث بكرات قديمة تُمثل الوطن، ثلاث بكرات بالأبيض والأسود تُمثل جوهر الفيلم وحبكته.
يستوحي ثيو بعض الأفكار والموضوعات من الأسطورة اليونانية، حيث يبحث أوليس عن إيثاكا باعتبارها الوطن الضائع، وبطل الفيلم يبحث عن وطن في بكرات ثلاث..
يترحّل بطل الفيلم كما يترحّل أوليس /أوديسيوس.. لنجد أنفسنا في رحلة مع شخص يبحث عن وطن بعد غياب طويل، عن شيء مفقود، عن الجنة والخلود.
رحلة مشابهة لرحلة أوليس الأسطورية. أوليس... يعطينا ذاكرة ورحلة ومفهوم الوطن. لكن الرحلة لا تنتهي، ذلك أنه لو انتهت الرحلة تنتهي القصة، لو عثر أوليس على إيثاكا تنتهي الأوديسة.. وكذلك بطلنا يقترب من البكرات الثلاث من تاريخ وطن، لكنه لا يمسك إلا بأمل انطفأ مع طلقة قناص..
يقول كونديرا في رواية الجهل: «الحنين إلى الجنة هو رغبة الإنسان ألا يكون إنسانًا». وهكذا كان بطلنا بحنينه إلى مسعاه، إلى جنته وإلى خلوده..
أنجيلوبولوس يضع في قصته قضايا أرهقت الإنسانية منذ فجرها؛ الحب، الحرب، الذاكرة، الوقت والزمان.. يقول أنجيلوبولوس في أحد أفلامه الأخرى في عبارة سعيدة: «الزمان طفل يلعب النرد على الشاطئ». سينما مخرجنا ليست لعبًا بالصورة وحسب، ليست مجرد تحريك للصورة، وإنما تحريك للكلمات، تحريك للمعنى والقيمة.
أنجيلوبولوس يسأل ونحن نسأل مع المخرج: متى يمكن أن لا نسأل؟ متى نستكين؟
أنجيلوبولوس و إيليني كاريندرو (الصورة والموسيقى كعلاقة تلاحم وتظافر):
«علاقتي بإيليني هي حميمية جدًا. في البداية، أسرد لها قصة الفيلم، وهي تسجل ما أقول على آلة تسجيل. هي لا ترغب في قراءة السيناريو، تلح على سماع صوتي، والتغيرات التي تطرأ في نبرات ومقام الصوت، وأنا أسرد القصة». من خلال ما ذكره أنجيلوبولوس في علاقته بإيليني كاريندرو لا يظهر الفيلم نقشًا بالصورة وحسب وإنما كحياكة، الفيلم لا يحاك إلا بالموسيقى، لتكون الموسيقى هي لحم الفيلم وعظمه.. إن موسيقى كاريندرو تخرج بأفلام أنجيلوبولوس من إطار المعقول إلى إطار اللامعقول، و كما يمكننا أن نعتبر هنا أنه لا يكون المعقول معقولا إلا باللامعقول فإن أفلام انجيلوبولوس لا تكون هي بما هي عليه إلا بموسيقى كاريندرو.