تحوُّلات الصورة: من الكهف الحجري إلى الكهفِ الرقمي

July 6, 2025

ما كنَّا لنعرف عن الإنسان الأول تاريخَه وحياته لولا توثيقُه لتجرِبته الحياتيَّة وتعبِيرُه عن أفكاره من خلال لغة الصورة المتمثلة في الرسوم والنقوش، والتي برزت كوسيطٍ بصريٍّ أساسيٍّ رافق مسيرة الحضارة الإنسانيَّة عبر العصور، ابتداءً من الرسوم المنتشرة على جدران الكهوف، مرورًا بنقوش حضارات مصر وبلاد ما بين النهرين، من بعدها فنون العصور الكلاسيكية وعصر النهضة حيث ارتقت الصورة فنيًا وجماليًا، وصولًا إلى القرن التاسع عشر، زمن السرعة والثورة الصناعيَّة، لتأتي ثورة القرن العشرين الأبرز: ثورة الصورة، الثورة التي بدأت باختراع كاميرا التصوير الفوتوغرافي وما أحدثته من تأثير فنيٍّ وثقافيٍّ واجتماعي، تأثيرٌ تمحورَ حول صورةٍ غير معتادة كانت في بدايتها ثابتة، لكنَّها سرعان ما انتقلت إلى صورةٍ متحرِّكةٍ باختراع الكينتوسكوب.

مع كلِّ اختراعٍ جديدٍ يُولد خوفٌ تجاه التغيير والانحراف عن المألوف، إلَّا أنَّه سرعان ما يبدأ في التلاشي عند ظهور جيلٍ جديدٍ يعتادُ التغيير ويتبنَّى مفاهيم وتقنيَّاتٍ تصبح جزءًا من نسيجه الفنِّي والثقافي. وهذا المقال هو محاولةٌ لفهمِ المخاوف المرافقة لتحوُّلات الصورة عبر الزمن وتطوُّراتها الفكريَّة والفلسفيَّة والجماليَّة من صورةٍ بدائيَّةٍ رسمها الإنسان إلى صورةٍ اصطناعيَّةٍ غير بشريَّة.

كشف الإنسان القديم عن الصورةِ الأولى حين وثَّق مشاهد حياته اليوميَّة برسومٍ على جدران الكهوف، سَجَّلت في إطارٍ واحدٍ حكايات الصيد وأساليبه وأشكال الفرائس والطقوس الدينيَّة والشعائر. هذه الرسوم كانت محاولةً من الرسَّام القديم للتعبير عن خوفه وآماله تجاه العالم المحيط به بصورةٍ بسيطةٍ تطوَّر شكلها وأسلوبُها بحسب المكان والزمان: بدايةً مع نقوش وصور حضارات بلاد ما بين النهرين والفراعنة، مرورًا بالحضارة اليونانيَّة ثمَّ الرومانيَّة التي احتلَّت فيها الصورة مكانةً مقدَّسةً ووصلت إلى أقصى درجات الدقَّة والواقعيَّة في تصوير الطبيعة والإنسان، وتجسَّدت فيها صورُ الآلهة والأساطير في اللوحات والجداريَّات بأسلوبٍ مسطَّحٍ لم تخرج فيه عن إطار التعبير والتعليم الكنسي الذي كان سائدًا آنذاك.

ثمَّ جاء عصر النهضة الموافق للقرنين الخامس عشر والسادس عشر، ليَنقل الصورة المسطَّحة إلى صورٍ بمنظورٍ ثلاثي الأبعاد ومنحوتاتٍ فائقة الواقعيَّة في التشريح والحركة أبدعها عظماء عصر النهضة: مايكل أنجلو، ليوناردو دافنشي، رافاييل وغيرهم. وقد تنافس هؤلاء الفنَّانون فيما بينهم للوصول إلى الكمال والجمال الواقعيِّ المدهش عبر صورٍ هادئةٍ عكست روح العصر وجدل الدين والعلم. وبرحيلهم انتهى عصر النهضة وانتقلنا إلى عصر الباروك حيث تحوَّلت الصورة من الاعتماد على الضوء إلى الاعتماد على الظلِّ والعتمة، لتخرجَ من حالة النظام والضوء الناصع إلى حالة الدراما التي تجسَّدت من خلال مشاهدَ أكثر انفعالًا وملحميَّةً تجمع بين الدين والسياسة والخوف والحب (كما في لوحات كارافاجيو). 

استمرَّت هذه الصورة الدرامية بكونها سمة العصر الأبرز إلى غاية حلول عصر الروكوكو، حيث ظهر فنَّانون مجدِّدون أرادوا تحديثَ الصور الجادَّة وتغيير الحالة الدراميَّة إلى حالةٍ تكون فيها الصور أكثر مرحًا وزينة، تعكسُ حياة طبقةٍ تعيش البذخَ والترف وتسعى للبحث عن المتعة والجمال اللحظي دون عمقٍ فلسفيٍّ أو ديني، لتصبح الصور إعلانًا بصريًّا عن رفاهيَّة طبقةٍ احتكرت الصورة، إلى أن انقلبت عليها الثورة الفرنسيَّة التي أعادت الاعتبار للصورة الجادَّة ذات الرسائل الأخلاقيَّة من خلال مواضيعَ مستوحاةٍ من الأساطير والتاريخ، وذلك عبر لوحاتٍ تعيد أمجاد الصور الرومانيَّة، ضمن ما عرف بالكلاسيكيَّة الجديدة التي هيمن فيها الخطُّ على حساب اللون، وجاء فيها التأكيد على اقتناص اللحظة الدراميَّة بزعامة جاك لوي دافيد.

بعدها ظهرت الصورة الرومانسيَّة لتقلب الصورة من حالتها الجادَّة التربويَّة إلى الحالة الانفعاليَّة الغارقة في الخوف والمعبِّرة عن المكنون الداخلي للمشاعر لتصبحَ الصورة وسيلةً للتأمُّل بتصوير المناظر الطبيعيَّة، وحالات الألم والصراع ولتفتح الباب إلى صور الواقعيَّة الجديدة؛ وهي الصور المرادفة للصورة الأولى على جدران الكهوف ولكن بخبرةٍ إنسانيَّةٍ فكريَّةٍ وتقنيَّةٍ هائلةٍ يعود الفنان فيها لتوثيق حياته ومحيطه بعيدًا عن الأساطير والكنيسة والنبلاء بصورٍ للشارع والناس وحياتهم اليومية. هذا التحوُّل كان أشبه بوصول الصورة إلى ذروتها التقنيَّة والفكريَّة حتى اختراع الكاميرا وقدرتها على نسخ الواقع المرسوم بلمح البصر، ممَّا فتح بابا للصراع الجدليَّ حول الصورة وأهميَّة الفنان في تخطِّي نقل الواقع مثل الكاميرا إلى فكرٍ إبداعيٍّ تحرَّرت فيه الروح الفنيَّة وأنتجت مدارسَ فنيَّةً جديدةً مثل الانطباعيَّة والتكعيبيَّة والسرياليَّة، وكذلك الفنون المعاصرة التي حطَّمت القيود وفتحت آفاقًا فكريَّة وفلسفيَّة للصورة كمفهومٍ أكثر من كونها شكلًا وموضوعًا.

أمَّا الصورة الفوتوغرافيَّة فقد انطلقت كمسارٍ جديد في مفهوم الصورة وشكلت تحولًا اجتماعيًا وثقافيًا؛ فلم تعد الصورة حكرًا على الفنانين والنخبة، بل باتت في متناول مختلف طبقات المجتمع لتشكِّل هويةً بصريَّةً شعبيَّةً تقبض على الزمن.

بعد عدَّة سنواتٍ على اختراع الكاميرا والصورة الفوتوغرافيَّة الثابتة ظهرت الصورة المتحرِّكة (الكينتوسكوب)، وانطلقت رحلةٌ جديدةٌ للصورة باختراع السينما بمسارٍ فنيٍّ وفلسفيٍّ لصورةٍ متحرِّكةٍ ذات قدرات إبداعيَّةٍ جاذبةٍ بكلِّ أشكالِها ومواضيعِها التعبيريَّة بصورٍ تشحنُ عواطفَ الجمهور وتثير فضول الفلاسفة والنقاد حتى استحقَّت مكانة الفنِّ السابع.  

بدأت السينما في نهاية القرن التاسع عشر كفنٍّ صامت، بلا حوارٍ وبلا مؤثِّراتٍ صوتيَّة. كانت الصورة وحدها هي التي تحكي عبر تعابير الوجوه وحركة الأجسام والمونتاج الذكي. ولكن مع ظهور فيلم «مغنِّي الجاز» (The Jazz Singer - 1927) تغيَّر كلُّ شيء: أصبح للصورة صوت، ودخلت السينما عصرًا جديدًا يمزجُ بين البصر والسمع.

هذا التحوُّل لم يكن سهلًا، فقد انقسم الفنَّانون بين من رأى أنَّ الصوت يعزِّزُ من قيمة الصورة وجماليَّتها، وبين من اعتبره تشويشًا على نقاء الصورة. هذا الخلافُ عزَّز من فهم السينما وأهميَّة ارتباط الصورة بالصوت، وفتح بابًا لقصصٍ أكثرَ تشويقًا، وكان بمثابة إبداعٍ خلاقٍ لمعنى إضافيٍّ للصورة.

ثمَّ انتشرت التلفزيونات داخل البيوت في منتصف القرن العشرين، وهنا لم تعد الصورة بقصصِها حدثًا جماعيًّا داخل صالةٍ مظلمة، بل أصبحت جزءًا من الحياة اليوميَّة، ممَّا غير شكل الإنتاج، وبدَّل طبيعة القصص، وأصبحت الشاشة الصغيرة منافسًا جديدًا لصورة السينما بايقاعٍ أسرع وأسلوبٍ أكثر مباشرةً بصورةٍ تتناسب مع تقنيَّات بثٍّ تفرضُ وفق برنامجٍ ووقتٍ محدَّد سيطرَ فيها التلفزيون على الصورة الموجَّهة، في حين التزمت السينما بصورتها الإبداعيَّة الحرَّة وسط موجة التغيُّرات التقنيَّة في الإنتاج والبث؛ مثل الكاميرات والمعدَّات والبث الفضائي، ممَّا أدخل الصورة إلى فضاءٍ أكثر صخبًا وتعقيدًا وأدى إلى ظهور أنماطٍ وأساليبَ تجريبيَّة في التعبير، ما بين اللوحات الفنيَّة والصورة المتحرِّكة، لينتج لنا "فن الفيديو" في محاولة للتمرُّد على سلطة الصورة التجاريَّة الملقَّنة والعودة إلى بدايات التجريب السينمائي ولكن بلغةٍ عصريَّةٍ وتقنيَّةٍ تكبرُ وتتطوَّر مع تطوُّر التقنيَّة، إلى أن وصلنا إلى منتصف الألفيَّة وعصر الإنترنت حيث أصبحت الصورة حسب الطلب، ورافق ذلك تحوُّلٌ من الفرجة الجماعيَّة إلى الفرجة الفرديَّة، ومن الصورة التي تذهب إليها إلى الصورة التي تصلُ إليكَ دون جهد، والتي لم يعد توليدها وابتكارها حكرًا على محترفين، فكلُّ شخصٍ يستطيع فعل ذلك بهاتفه الذكيِّ وبسهولة.

لقد غيَّرت التقنيَّة الرقميَّة خصائص الصورة ووظائفها، فالصورة اليوم أصبحت فوريَّة، تُلتَقط وتُعرَض وتُشارَك في اللحظة نفسها، وهي قابلةٌ للانتشار الواسع والآني، ممَّا يتيح لها الوصول إلى جمهورٍ عالميٍّ في غضون ثوانٍ عبر الإنترنت. وقد سمح ذلك لمنصَّاتٍ مثل فيسبوك وإنستغرام بتحويل الصورة إلى حدثٍ اعتيادي، سواء كانت صورًا ثابتةً أم متحرِّكة، يتناولها الناس بوصفها جزءًا أساسيًا من الثقافة البصرية الشعبية، مما يعيدنا إلى فعل إنسان الكهف وصورته الأولى التي سعى من خلالها إلى توثيق حياته ومحيطه.

 هذا التحوُّل الكبير ليس تحولًا تقنيًّا فقط، بل هو تحوُّلٌ نفسيٌّ وثقافي، إذ لم تعد الصورة مفاجأةً ولم نعد نلاحقها، بل أصبحت تصل إلينا وتفرض نفسها علينا، أو بالأحرى نسلم أنفسنا لمشاهدتها، وكردَّة فعلٍ طبيعيَّة للبحث عن المتعة والدهشة نقومُ أيضًا بتوليد صورٍ خاصَّةٍ بنا، سواء كانت هذه الصورة احترافيَّةً متخصِّصةً أم موثقة لأحداث يوميَّة، التقطت من أجل التسلية أو التعبير عن حدثٍ أو شعور أو خوف ما. فهل ما نشعر به الآن هو ما شعر به الإنسان الأول داخل الكهف؟ 

قبل أن نفكر في الإجابة، انتقلنا بسرعةٍ مخيفةٍ إلى الذكاء الاصطناعيِّ، وأصبح توليد الصور والمشاهد مرهونًا بقدرة المرءِ على إجادة التعبير الكتابي لما يريده بوصفٍ عاجل. لم يكن الذكاء الصناعي ذكيًّا في بداية الأمر، إذ لم يتجاوز ذكاؤه ذكاء طفلٍ ولد للتو، لكنَّه كبُر خلال عامين ليفوق ذكاؤه في بعض الأحيان ذكاء أساتذة الجامعة. لم تعد الصورة أو القصَّة، أو العمل الفني ككل، هي الوحيدة التي رفعت أصوات المعارضة، بل إنَّ العالم بكامله انقسم تجاه حقيقةٍ مرعبةٍ تنذر بتجاوز الإبداع البشريِّ إلى إبداعٍ مولَّدٍ عبر فكرةٍ تتوافق مع خوارزميَّة الذكاء الإصطناعي. 

هكذا انتقلت الصورة الرقميَّة من كونها تسجيلًا لما تلتقطه العدسة بفكرٍ وإبداعٍ بشري، فرديٍّ أو جماعي، إلى صورةٍ أو مشهدٍ يولدُ بكلِّ تفاصيله رقميًا، عبر وصفٍ يُلقَّنُ لخوارزميَّةٍ قادرةٍ على توليد نقاطٍ ذات أنماط بصريَّةٍ، تنبثق منها لوحاتٌ وصورٌ لم تكن موجودةً من قبل، ويمكنُ لأيِّ شخص توليدها في ثوان، سواء كانت صورًا فوتوغرافيَّةً أو أعمالًا فنيَّة. وما كان يتطلبُ في السابق معدَّاتٍ وأدواتٍ ومهارةً عاليةً وخبرةً طويلةً أصبح يتطلبُ وصفًا جيدًا لتوليد أعمالٍ تحاكي في جودتها أعمالَ مبدعين آخرين، ممَّا يثير جدل الملكيَّة الفكريَّة وأصالة المنتج. هذا ما حدث مع المخرج الياباني هاياو ميازاكي الذي أعرب عن استيائه من انتشار توليد الناس لصورهم بأسلوب «استوديو جبلي»، وهذا ما يكشف حقيقة تحوُّلات الصور في البحث عن صورٍ مدهشة. وبما أنَّ هناك فائضًا بصريًا هائلًا لا يكفُّ عن الظهور في منصَّات التواصل الاجتماعي، بصورٍ اعتدنا عليها رغم دهشتها، فإنَّ الذكاء الاصطناعي يبهرنا بصورةٍ غير واقعيَّةٍ بقدرته على الخلق من الصفر. ورغم أنَّ هذه التقنيَّة تنبِّئ بفرصٍ إبداعيَّةٍ جديدةٍ في مجال الصورة أو الترفيه، إلا أنَّها في الوقت نفسه تُعدُّ تحوُّلًا كبيرًا وعميقًا في طبيعة العمل الفني، وتؤكد أهميَّة الفكر البشري في إبداع الصورة التي تتجاوز كونها محتوى استهلاكيًا.

في الختام، يراودني سؤال إنساني مُلح: هل استخدامنا الحالي للذكاء الإصطناعي ليس سوى مرحلة عابرة نقوم فيها بإطعام الخوارزميَّات صورًا من إرثنا الحضاري والفكري كي تعيد تركيبها وصياغتها، وتعيد تقديمها إلى جيل قد يفقد قدرته على التعبير الفردي؟ وهل نكون بذلك قد فتحنا، من حيث لا ندري، بابًا نحو حقبةٍ جديدةٍ يمكن تسميتها بـ"عصرِ الكهف الرقمي"، حيث تُضاء الجدران الافتراضيَّة بظلالٍ مُعادٍ تركيبها من ذاكرتنا الجمعيَّة؟

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى